على مدار الشهور الماضية، كشفت شركات التكنولوجيا الكبرى والناشئة، مثل "أوبن إيه آي" ومايكروسوفت وجوجل وبايدو، النقاب عن بوتات دردشة متقدمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، مطلقة مرحلة جديدة من مراحل سباق الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI). لكن العديد من الخبراء والمحللين يرون أن شركة إنفيديا (Nvidia) المتخصصة في إنتاج وحدات معالجة الرسوميات (GPUs) هي الفائز الأكبر من تصاعد المنافسة في هذا السباق، لدرجة أن البعض بات يعتبرها مرادفاً للذكاء الاصطناعي.
إنفيديا تهيمن على وحدات معالجة الرسوميات
قفزت قيمة أسهم إنفيديا بأكثر من 60% منذ مطلع هذا العام، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف المكاسب التي حققها مؤشر فيلادلفيا لأشباه الموصلات (SOX). وقد عزز ارتفاع أسهم الشركة خلال الأسبوع الماضي فقط من قيمتها السوقية بأكثر من 70 مليار دولار، لتصل إلى أكثر من 580 مليار دولار، أي نحو خمسة أضعاف منافستها إنتل (Intel). وبحسب رويترز، فإن مفتاح نجاح الشركة هو أنها تسيطر على نحو 80% من سوق وحدات معالجة الرسوميات ، وهي شرائح متخصصة توفر نوع طاقة الحوسبة المطلوبة لخدمات مثل تلك التي يقدّمها بوت الدردشة "تشات جي بي تي"، الذي طوّرته شركة أوبن إيه آي (OpenAI).
خلال العقد الماضي، وبفضل قدرات المعالجة المتوازية التي تدعمها الآلاف من نوى الحوسبة، تبين أن وحدات معالجة الرسوميات الخاصة بإنفيديا -والتي تم تطويرها في الأساس عام 1999 للرسومات ثلاثية الأبعاد المستخدمة في ألعاب الفيديو على الحاسوب- مثالية لتشغيل خوارزميات التعلم العميق. ومع الطفرة التي شهدتها أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي مؤخراً، ظهر الدور المحوري الذي تؤديه منتجات إنفيديا، إذ تشير التقارير إلى أن شركة "أوبن إيه آي" استخدمت 10 آلاف وحدة معالجة رسوميات من إنفيديا خلال عملية تدريب "تشات جي بي تي".
اقرأ أيضاً: إنفيديا تطور طريقة لتدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام كمية قليلة من البيانات
جذبت هيمنة إنفيديا على سوق أدوات الذكاء الاصطناعي أيضاً انتباه أصحاب رؤوس الأموال والشركات الناشئة. تقول لي كيو، مديرة محفظة صناديق التكنولوجيا في شركة أليانس بيرنشتاين (AllianceBernstein) لإدارة الأصول -التي تمتلك حصة نسبتها 0.54% في إنفيديا- إن الحماس المحيط بـ "تشات جي بي تي" وحالات استخدامه المحتملة يمثّل على الأرجح نقطة انعطاف في تبني الذكاء الاصطناعي، مضيفة: "في حين أنه من الصعب تحديد مدى ضخامة الذكاء الاصطناعي اليوم كنسبة مئوية من عائدات إنفيديا، إلا أنه من المحتمل أن ينمو بشكلٍ كبير بينما تتسابق شركات التكنولوجيا الكبرى لتطوير أنواع مماثلة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي".
الشريحة التي أصبحت "العمود الفقري" للذكاء الاصطناعي
في عام 2019، قال العالم في شركة إنفيديا بيل دالي، إن ثورة التعلم العميق لم تنطلق فعلياً إلا في بدايات العقد الثاني من هذا القرن، عندما بدأ استخدام وحدات المعالجة الرسومية في هذا المجال. وأضاف خلال مشاركته في مؤتمر "إيمتيك ديجيتال" للذكاء الاصطناعي الذي نظمته "إم آي تي تكنولوجي ريفيو، أن إنفيديا تعمل على ثلاثة مسارات أساسية مختلفة: تطوير شرائح أكثر تخصصاً، وتخفيف الحوسبة المطلوبة للتعلم العميق، وإجراء الاختبارات على الشرائح ذات البنى التماثلية بدلاً من الرقمية.
بعد هذه التصريحات بعام واحد فقط، كشف المؤسس والرئيس التنفيذي لإنفيديا "جنسن هوانغ"، عن لوحة المعالجة إنفيديا إيه 100 (Nvidia A100)، التي مثّلت آنذاك "أقوى لوحة معالجة رسومية على الإطلاق". وأعلنت الشركة حينها أنها اعتمدت على تقنية تصنيع بدقة 7 نانومتر من شركة تي إس إم سي (TSMC) لتصنيع ترانزستورات الشريحة الجديدة، وتم تضمينها بـ 54 مليار ترانزستور، لتكون أكبر شريحة معالجة تم تصنيعها على الإطلاق من ناحية عدد الترانزستورات ضمن الشريحة. بالإضافة إلى ذلك، اشتملت الشريحة على ذاكرة عمل بسعة 40 غيغابايت، وقدرة معالجة تبلغ 19.5 تيرافلوب، بالإضافة لتأمين مجال تبادل بيانات على مستوى الذواكر قدره 1.6 تيرابت بالثانية الواحدة، مع امتلاك الشريحة الجديدة لأنوية معالجة من نوع كودا (CUDA) يبلغ عددها 6912 نواة معالجة.
خلال العامين التاليين، تحولت "إيه 100" التي يبلغ سعرها حالياً نحو 10 آلاف دولار إلى واحدة من أكثر الأدوات أهمية في صناعة الذكاء الاصطناعي. يقول المستثمر والمحلل المتخصص في الذكاء الاصطناعي ناثان بينايش، إن "إيه 100" أصبحت "العمود الفقري" لعمل متخصصي الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي.
اقرأ أيضاً: كيف تستخدم إنفيديا الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة مكالمات الفيديو؟
تعد هذه الشريحة مثالية لنوعية نماذج التعلم الآلي التي تعمل بها أدوات مثل "تشات جي بي تي" أو بينغ إيه آي (Bing AI) أو ستيبل ديفيوجن (Stable Diffusion)، وهي قادرة على إجراء العديد من العمليات الحسابية البسيطة في وقت واحد، وهو أمر مهم للتدريب واستخدام نماذج الشبكات العصبونية.
نموذج من الصعب التغلب عليه
تواجه إنفيديا منافسة شرسة من شركات تصنيع الشرائح المنافسة، مثل إيه إم دي (AMD)، التي تعد حالياً ثاني أكبر شركة في صناعة وحدات المعالجة الرسومية بحصة سوقية تقارب 20%. بالإضافة إلى مشكلات جيوسياسية، مثل حظر تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي الذي تفرضه الولايات المتحدة على الصين، والذي منع إنفيديا من بيع شرائح مثل "إيه 100" و"إتش 100" إلى بكين، كما أسهم في تسريع نمو أدوات صينية منافسة.
ومع ذلك، يقول الخبراء إنه لا يزال من الصعب للغاية التغلب على نهج إنفيديا الذي يركّز على البرمجيات. يرى المحلل "جاك غولد" إنه "فيما توفر الشركات الأخرى شرائح و/ أو أنظمة، فقد أنشأت إنفيديا نظاماً بيئياً قوياً يتضمن الشرائح والأجهزة المرتبطة بها، والبرمجيات وأنظمة التطوير المستقرة تماماً التي تم تحسينها لشرائحها وأنظمتها".
ويقدّر بعض المحللين أن تبني خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل "تشات جي بي تي" يمكن أن يزيد إيرادات "إنفيديا" بنسبة 25% سنوياً حتى عام 2027. ومع ذلك، تحذّر التحليلات من أنه لا ينبغي المبالغة في تقدير قدرات "تشات جي بي تي" وغيره من بوتات الدردشة التي كثيراً ما تولد ردوداً غير دقيقة، وبالتالي فإنها قد تؤثر سلباً على الشركات المطورة، مثلما حدث مع شركة جوجل التي فقدت نحو 100 مليار دولار من قيمتها السوقية بسبب خطأ من بوت الدردشة "بارد".
اليوم، نحن على بُعد أقل من شهر واحد على مؤتمر جي تي سي (GTC 2023) السنوي للمطورين الذي تعقده إنفيديا على مدار 4 أيام بدءاً من يوم 20 مارس/ آذار الجاري. ويشير جدول المؤتمر، الذي يركّز على الذكاء الاصطناعي التوليدي والنماذج اللغوية الكبيرة والروبوتات والحوسبة السحابية، بشكل واضح إلى أن إنفيديا لا تنوي التخلي عن هيمنتها على قطاع أدوات الذكاء الاصطناعي على المدى المنظور.