في سباق الذكاء الاصطناعي الذي لا يوجد أي مؤشر على تباطؤه في المستقبل القريب، يُعدّ الابتكار الخلطة السرية لنجاح الشركات. ولكن تحاول شركة إنتل الأميركية التي كانت ذات يوم قوة مهيمنة على صناعة أشباه الموصلات اللحاق بالركب على الرغم من إرثها الكبير الذي كان له السبق في وضع معايير الصناعة منذ فترة طويلة، غير أن الأخطاء القيادية والاستراتيجية جعلتها تتخلف عن المنافسين الذين يستفيدون من ثورة الذكاء الاصطناعي مثل شركة إنفيديا، التي دفعها نهجها ومواكبتها وابتكاراتها المتخصصة إلى طليعة مشهد الذكاء الاصطناعي المتطور بسرعة. فما هي العوامل التي جعلت شركة إنتل تتأخر في سباق الذكاء الاصطناعي؟ وهل تستطيع تكييف نموذج أعمالها للتنافس بشكلٍ فعّال ومواجهة صعود منافسيها مثل شركة إنفيديا أمْ سيكون مصيرها مثل شركة نوكيا؟
البقاء في منطقة الراحة كلّف إنتل خسارة سباق الذكاء الاصطناعي التوليدي
لعقود من الزمان كان نموذج أعمال شركة إنتل يتمحور بشكلٍ رئيسي وأساسي حول تطوير وحدات المعالجة المركزية الموجهة للحواسيب المكتبية والمحمولة والخوادم السحابية وتصميمها وإنتاجها وتسويقها، ما أدّى إلى احتكارها للسوق بصورة شبه كاملة، ولكن مع صعود التقنيات الناشئة مثل التعلم العميق والشبكات العصبونية فإن الأمر اختلف تماماً. حيث تتطلب هذه التقنيات نظاماً مختلفاً في قوة المعالجة وشرائح معالجة مختلفة كُلياً، هي وحدات معالجة الرسوميات (GPU) التي تُعدّ أكثر كفاءة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي وتشغيلها. وبدلاً من أن تستثمر شركة إنتل في هذا المجال لما تمتلكه من قوة تكنولوجية ومالية وبحثية كبيرة، بدت راضية عن منتجاتها الحالية.
اقرأ أيضاً: مايكروسوفت تُطلق شريحة مايورانا 1: ثورة في عالم الحوسبة الكمومية
لقد خلق ارتياح إنتل لنموذج أعمالها الحالي نقطة عمياء كبيرة فيما يتعلق بسلوك المستهلك وتفضيلاته، فبينما استمرت الشركة في تحسين معالجاتها الموجّهة لأجهزة الحاسوب التقليدية، كان المستهلكون يتبنون بسرعة الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية كمنصات حوسبة أساسية لهم بدلاً عن الكمبيوترات التقليدية، ولكن عدم قدرة الشركة على توقع ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي والاستعداد لها كان فشلاً كارثياً يُضاف لحالات الفشل الكارثية التي ارتكبها العديد من القيادة التنفيذية لكبرى الشركات التكنولوجية. حيث كلّف البقاء داخل منطقة الراحة شركة إنتل الكثير نظراً إلى أنها تمتلك بالفعل العديد من القدرات التكنولوجية الأساسية المطلوبة للتنافس في هذا المجال، حيث تتمتّع الشركة بالفعل بخبرة واسعة في تطوير هياكل الحوسبة المتوازية وعمليات التصنيع المتطورة وموارد البحث والتطوير الكبيرة. ومع ذلك، فإن تركيزها على تحسين بنية وحدة المعالجة المركزية التقليدية بدلاً من معالجات الذكاء الاصطناعي المتخصصة سمح للمنافسين بتجاوزها وأخذ مقاعدها في القمة في قطاع أصبح حالياً أحد أكثر القطاعات قيمة وأسرعها نمواً في سوق أشباه الموصلات. فعلى سبيل المثال، تُعدّ شركة إنفيديا اللاعب الأكثر هيمنة على القطاع حالياً بتقييم وصل إلى 3 تريليونات دولار، بينما لا تزال إنتل تتخبط في كيفية التعامل مع الخسائر التي لحقت بها.
اقرأ أيضاً: آبل تكشف النقاب عن هاتف آيفون 16 إي: إليك كلَّ ما تريد معرفته
ما هي العوامل التي جعلت إنتل تتخلف عن منافسيها في سباق الذكاء الاصطناعي؟
يأتي تخلف شركة إنتل في سباق الذكاء الاصطناعي بسبب مجموعة من الأخطاء التاريخية والتحديات التكنولوجية وديناميكيات السوق التي لم تستطع مواكبتها، ومن أبرز هذه الأخطاء: - عدم استثمارها في شركة أوبن أيه آي عندما أتيحت لها الفرصة بسبب تشكك قياداتها التنفيذية في جدوى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي على المدى القريب، ما سمح للمنافسين مثل شركة إنفيديا بالتقاط القفاز والهيمنة لاحقاً على أنظمة أجهزة الذكاء الاصطناعي التي تدعم نمو الشركة المطورة لبوت الدردشة تشات جي بي تي. - إعطاء الأولوية لتطوير وحدات المعالجة المركزية بدلاً من التحول كُلياً أو إنشاء قسم قائم بذاته لتطوير وحدات معالجة الرسوميات التي أصبحت المعيار الأساسي لمهام الذكاء الاصطناعي التوليدي. - تخلف عملية تصنيع الشرائح لديها عن منافسيها مثل شركة تي إس إم سي (TSMC) التايوانية التي بدأت بالفعل إنتاج شرائح بتقنية 3 نانومتر، بينما لا تزال إنتل تعمل بتقنية 7 نانومتر، ما يعوق قدرتها على المنافسة في إبرام صفقات مع شركات الذكاء الاصطناعي. - السرعة العالية التي يتمتّع بها المنافسون في تطوير وحدات معالجة الرسوميات الخاصة بأجهزة الذكاء الاصطناعي، حيث تسيطر إنفيديا على نحو 90% من سوق معالجات مراكز البيانات، بينما تتقدم شركة أيه إم دي (AMD) بسرعة مع مسرعات الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، حيث تتمتّع كلتا الشركتين بدورات تطوير منتجات أسرع بشكلٍ سنوي مقارنة بوتيرة شركة إنتل الأبطأ. - اختيار مزودي البنية التحتية للذكاء الاصطناعي مثل شركات جوجل وأمازون لوحدات معالجة الرسوميات من إنفيديا وأيه إم دي، نظراً إلى أدائها المتفوق ودعم النظام البيئي، ما أدّى إلى تهميش معالجات شركة إنتل. - على الرغم من الخطط الموضوعة للاستثمار في المرافق والأدوات الجديدة لمواكبة التطورات، فإن هذه الجهود ستكون مكلفة جداً وتستغرق وقتاً طويلاً، ما قد يؤخّر قدرة إنتل على المنافسة بشكلٍ فعّال في المستقبل القريب.
اقرأ أيضاً: باحثون من جامعة الشارقة يطوّرون تقنية لتحسين عرض الصور على مختلف الشاشات
هل تسير شركة إنتل في الطريق الذي سارت فيه شركة نوكيا؟
شهدت كلتا الشركتين فترات من الهيمنة على السوق كُلٌ في قطاعه ثم تلتها تحديات في التكيُّف مع التحولات التكنولوجية السريعة، فقد كافحت نوكيا للانتقال إلى عصر الهواتف الذكية حيث لم تتمكن من اللحاق بمنافسيها على الرغم من محاولاتها العديدة التي جاءت متأخرة للغاية، ما أدّى إلى تراجعها واختفائها لاحقاً. وعلى نحو مماثل تُعدّ شركة إنتل ولا تزال قوة تكنولوجية لا يستهان بها ولديها من الموارد والبنية التحتية ما يمكّنها من العودة، ولكن مع ذلك فإن الطريق أصبح صعباً للغاية مع توجه منافسيها المتسارع في التطوير والإنتاج. فعلى سبيل الأداء المالي، قد تكون البيانات المالية للشركة سيئة للغاية بحيث لا يمكن تجاهلها. ففي نهاية عام 2023 حققت الشركة ربحاً وصل إلى نحو 2.7 مليار دولار، لكنها خسرت 437 مليون دولار في الربع الأول من عام 2024 و1.6 مليار دولار في الربع الثاني و16.6 مليار دولار في الربع الثالث من العام نفسه الذي وُصِف بأنه الخسارة الأسوأ في تاريخ الشركة. كما أن المنافسة التكنولوجية القائمة الآن بدأت تؤثّر في الشركة، حيث أحدثت المعالجات القائمة على تقنية ARM مثل معالجات سلسلة إم (M) الخاصة بشركة آبل ثورة في السوق بعد ثبات كفاءتها وأدائها في استهلاك الطاقة، وهو ما افتقرت إليه إنتل بمعالجاتها الحالية، علاوة على ذلك تمثّل صعوبات التصنيع إحدى أكثر مشكلات الشركة وضوحاً. فمع تحول معظم الشركات إلى نموذج الاعتماد على مصادر متعددة للحصول على المكونات التقنية اللازمة لمنتجاتها، فإن نموذج شركة إنتل المتمثل في التصميم والتصنيع المتكامل الذي كان ذات يوم قوة أساسية، أصبح يشكّل عبئاً متزايداً من خلال حالات التأخير في تطوير عمليات التصنيع الخاصة، ما أدّى إلى ظهور فجوة تكنولوجية سمحت للمنافسين بتقديم منتجات متفوقة بأسعار تنافسية.
اقرأ أيضاً: ما هي الاتصالات الآمنة الكمية؟ وكيف ستسهم في مستقبل ما بعد الكم؟
ما هو موقف الحكومة الأميركية من المشكلات التي تحيط بشركة إنتل؟
مع الخسارة التاريخية التي سجّلها سهم الشركة في العام السابق، ظهرت تكهنات قوية حول الاتجاه إلى تفكيك محتمل لأعمال الشركة، من ضمنها استحواذ شركة برودكوم على قسم تصميم الشرائح، في حين راجت أنباء عن دراسة شركة تي إس إم سي التايوانية الاستحواذ على بعض مرافق التصنيع أو كلّها، ومع ذلك فإن هذه المناقشات ما زالت في طور الأخبار ولم تُتخذ أي قرارات ملموسة بعد. ويعود ذلك إلى أن الحكومة الأميركية لديها مصلحة كبيرة في مستقبل شركة إنتل بسبب دورها في تنفيذ مشاريع حساسة تتعلق بالأمن القومي الأميركي، مثل برنامج المناطق الآمنة (Secure Enclave Program) التابع لوزارة الدفاع، لذلك قدمت الحكومة مؤخراً تمويلاً كبيراً وصل إلى نحو 7.86 مليارات دولار بموجب قانون الرقائق والعلم ((CHIPS and Science Act الذي يتضمن شروطاً عدة من بينها احتفاظ الشركة بنسبة 50.1% على الأقل من ملكية عمليات مصنعها، ما يعكس أهمية الشركة وخوف الحكومة الأميركية من إمكانية استحواذ الكيانات الأجنبية على أصول الشركة الهائلة والضخمة.
هل يمكن أن تلحق إنتل بالسوق مجدداً؟ وما هي العوامل المساعدة على ذلك؟
تحتفظ شركة إنتل بمزايا كثيرة افتقرت إليها نوكيا في أثناء سقوطها المدوي من عرشها، ما يشير إلى إمكانية عودتها مرة أخرى للحاق بسوق الذكاء الاصطناعي التوليدي إذا تمكنت الشركة من تنفيذ استراتيجياتها بشكلٍ فعّال. على سبيل المثال، بينما كانت نوكيا أكثر عناداً في ركوب قطار التغيير، أقرت شركة إنتل بالفعل بالتحديات التي تواجهها وبادرت إلى قبول استثمارات كبيرة تهدف إلى استعادة ريادتها التكنولوجية، علاوة على ذلك تحتفظ الشركة بقدرات بحثية واسعة النطاق وبنية تحتية أساسية للتصنيع وعلاقات في السوق يمكن أن توفّر لها أُسساً للتعافي. بالإضافة إلى ذلك، تعمل شركة إنتل في نظام بيئي أكثر تنوعاً مع تطبيقات عبر قطاعات تقنية متعددة، ما يوفّر مسارات أكثر للنمو المتجدد مقارنة بما كانت تمتلكه نوكيا في صناعة الهواتف المحمولة. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي الطلب المتزايد لأجهزة حواسيب الذكاء الاصطناعي إلى إنشاء طلب عالٍ على معالجتها إذا تمكنت من تقديم مزايا أداء مقنعة مقارنة بمنتجات منافسيها. بالإضافة إلى ذلك، تمثّل تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مراكز البيانات قطاعاً مربحاً، حيث يمكن لشركة إنتل استعادة حصتها من خلال المعالجات المصممة خصيصاً التي تُلبي احتياجات محددة لشركات بناء مراكز البيانات. وبغض النظر عن الاستراتيجيات التي ستتبعها، فإن نجاحها يعتمد بصورة كبيرة على قدرتها على تسريع الابتكار والتغلب على تحديات التصنيع والتكيُّف مع متطلبات السوق المتغيرة دون أن تكون مقيدة بنموذج أعمالها التاريخي.