كيف تعيد القيادة تعريف أصولها في عصر الذكاء الاصطناعي؟

6 دقيقة
عصر الذكاء الاصطناعي
shutterstock.com/Smallroombigdream

في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، لم تعد الثقة والمصداقية مجرد قيم أخلاقية، بل أصبحت أصولاً استراتيجية تحكم بقاء المؤسسات والمجتمعات.

  • تحول التلاعب بالمعلومة إلى تهديد جيوسياسي واقتصادي، ما يستدعي من القادة تطوير استراتيجيات تحافظ على السيطرة البشرية في بيئة رقمية سريعة …

في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، تحول التحدي القيادي من إدارة الأداء إلى حماية الأصول الأكثر هشاشة في عصرنا الحالي: الثقة والمصداقية. فلم تعد حماية هذين الأصلين مسألة أخلاقية فحسب، بل أصبحت بنداً رئيسياً في إدارة المخاطر المؤسسية وأصلاً استراتيجياً غير ملموس. الأهم من ذلك، أن الثقة والمصداقية لم تعودا مجرد موارد تجارية، بل تحولتا إلى ركيزة وجودية لاستمرار البشرية في مواجهة الآلة.

الثقة كمخاطرة جيوسياسية

شكل بروز الذكاء الاصطناعي التوليدي نقطة تحول في طبيعة المخاطر الاستراتيجية عالمياً. فقد توقع تقرير "سباق مزودي الذكاء الاصطناعي" الصادر عن شركة غارتنر، نمو سوق نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي بنسبة 149.8% عام 2025 ليبلغ أكثر من 14 مليار دولار، في حين توقع أن ينمو سوق الخوادم المعززة بالذكاء الاصطناعي بنسبة 90.9% خلال العام نفسه، وأن تصبح معظم أجهزة الحوسبة عالية الأداء معززة بالذكاء الاصطناعي بحلول عام 2027. هذا التحول الرقمي رفع من منزلة التلاعب بالمعلومة إلى مرتبة تهديد استراتيجي يتطلب الانتقال من مجرد الاستجابة إلى التحكم بمصدر المعلومة ووسيطها البشري.

فقد أصبح انحسار الثقة يوازي التهديدات المادية؛ إذ صنف المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2025 المعلومات المضللة ضمن أهم ثلاثة مخاطر عالمية، كما كشف استطلاع مركز بيو للأبحاث في 25 دولة أن 72% من البالغين يعتبرون انتشار المعلومات الكاذبة تهديداً كبيراً. هذا التهديد انعكس مالياً وتشريعياً عبر قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي الذي فرض غرامات وعقوبات صارمة تصل إلى 35 مليون يورو أو 7% من الإيرادات العالمية السنوية في حال المخالفات الجسيمة مثل التلاعب أو الاستغلال، كما اتخذت دول أوروبية أخرى، مثل إيطاليا، إجراءات استباقية لفرض حوكمة دقيقة على نماذج الذكاء الاصطناعي، ما يلزم المؤسسات بالامتثال الفوري وتأكيد السيطرة البشرية على التحقق لتفادي المخاطر المالية والسمعية.

لكن التحدي الاستراتيجي الأكبر يكمن في التوتر بين حماية الحقوق الأساسية وضمان استمرار الابتكار، إضافة إلى صعوبة تطبيق تشريعات معقدة على سوق يتطور بوتيرة متسارعة. هكذا تحولت الثقة من قيمة معنوية إلى أصل استراتيجي وتشريعي باهظ الكلفة، يفرض نفسه في صلب قوانين الذكاء الاصطناعي العالمية.

إن هذا المشهد المركب، حيث تتقاطع التكنولوجيا والقوانين وديناميكيات السوق، يفرض على صانعي القرار تطوير استراتيجية جديدة تتجاوز الاستجابة التقليدية نحو إطار القوة الناعمة المركبة، كحل تحليلي متكامل لحماية الثقة باعتبارها الأصل الاستراتيجي الأغلى في مواجهة الانهيار الخوارزمي والزيف التوليدي.

القوة الناعمة المركبة إطار استراتيجي لحماية الثقة

لم يكن إطار "القوة الناعمة المركبة" فرضية مسبقة، بل جاء كإطار استراتيجي بلورته النتائج التحليلية لبحثنا "أثر استراتيجيات الاتصال الرقمي للمؤثرين في تعزيز التنمية المستدامة، لبنان والإمارات نموذجاً".

يقدم هذا الإطار نموذجاً تحليلياً متكاملاً ثلاثي الأبعاد، يجمع الأبعاد المؤسساتية والتجارية والرقمية، بهدف بناء منظومة تأثير قادرة على مواجهة الانهيار الخوارزمي والزيف التوليدي في العصر الرقمي.

استناداً إلى بحثنا، الذي شمل عينة قصدية مكونة من 13 مؤثراً رقمياً و22 خبيراً من كلا البلدين، اتضح أن القوة الناعمة التقليدية لم تعد كافية في المشهد الرقمي المعاصر. وكشفت هذه المقاربة الشاملة عن أول استنتاج استراتيجي وأهمها: أن فاعلية المؤثرين اليوم تكمن في قدرتهم على دمج الأبعاد المتعددة للإطار لضمان تأثير مستدام وموثوق. إن هذا الدمج المحوري للأبعاد الثلاثة هو ما يحدد الركائز الأساسية التي يُبنى عليها الإطار، ويقودنا مباشرة إلى إعادة تعريف دور العنصر البشري فيه.

تحول المؤثر من "شخصية" إلى "أداة لتنفيذ السياسات"

بناءً على هذا الاستنتاج المنهجي حول دمج الأبعاد، كان أبرز ما توصل إليه بحثنا هو أن الثقة هي الشرط المهني الحاسم؛ حيث أكدت 35 شخصية من كلا البلدين ممن شملهم بحثنا، ضرورة الحفاظ على المصداقية والاستقلالية. هذا التركيز على القيمة الأخلاقية هو ما يفسر تحول المؤثر من "شخصية" إلى "أداة لتنفيذ السياسات". فالمؤثر هو الناتج النهائي للتحول الجذري في أدوات الاتصال، حيث أصبح "قناة إعلامية مستقلة ومباشرة" يتمتع بمصداقية داخلية تفوق غالباً القنوات المؤسسية. هذا الدور المهم يفرض على القيادة التعامل مع المؤثر على أنه أداة لتنفيذ السياسات ومدقق بشري نهائي للمحتوى.

توازن الكفاءة والأصالة

ولضمان فاعلية الأداة البشرية في إطار القوة الناعمة المركبة، يجب على القيادة إيجاد توازن استراتيجي حاسم مع تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي. وعلى الرغم من الانتشار الواسع لهذه التقنية، حيث تستخدمها 71% من المؤسسات بانتظام، وفقاً لتقرير ماكنزي، فإن الميزة التنافسية لا تكمن في السرعة وحدها، بل في دمج الأصالة التي يمثلها المؤثر مع الكفاءة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي.

وفي هذا السياق، يمثل الرأسمال الرمزي للمؤثر (الثقة التي يحظى بها) الأداة الأكثر قيمة لمكافحة المحتوى التوليدي المزيف. يكمن التحدي القيادي هنا في هندسة نظام اتصالي تخصص فيه القيادة سرعة الإنتاج للآلة، وتبقي قرار التحقق في يد الإنسان. هذا هو السبب وراء التحول الاستراتيجي نحو المؤثرين المتخصصين. وعليه، يوفر المؤثر التحقق البشري النهائي من المحتوى المنتج آلياً، ليصبح بذلك آلية حكم بشري تضمن أن تظل المنظومة الاتصالية محصنة وموجهة بالقيم.

انطلاقاً من دور المؤثر مدققاً بشرياً وضرورة حماية رأسماله الرمزي، تكتسب الأخلاقيات والشفافية أهمية قصوى في سياق السياسات العامة. وقد أثبتت التطورات الحديثة أن المؤثرين يمكن أن يكونوا أدوات تواصل حيوية لتنفيذ سياسات الامتثال التنظيمي الجديدة. فبعد دورهم في أزمة كوفيد-19، أصبحوا اليوم أكثر أهمية في ترجمة المتطلبات القانونية المعقدة إلى سلوكيات عامة. فمع فرض تشريعات عالمية مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي لغرامات مرتفعة، أصبحت الأصالة والشفافية والإفصاح لدى المؤثرين جزءاً من استراتيجية الإدارة الاستباقية للمخاطر المالية والسمعية. هذا الدور يضمن أن يظل المؤثر "ضامناً بشرياً" يرفع من مستوى الوعي بالامتثال لسياسات الحوكمة.

 النموذج الإماراتي: الهندسة السيادية للثقة كاستراتيجية متكاملة 

إن الأهمية التحليلية لإطار القوة الناعمة المركبة، وما تضمنه من دور محوري للمدقق البشري (المؤثر) في الامتثال للسياسات، وجدنا تطبيقها الفعال في النموذج الإماراتي. حيث يظهر نجاح الإمارات أن الحوكمة لا تعوق القوة الناعمة، بل تحصنها عبر تحقيق "أثر مزدوج" استراتيجي.

  • الهندسة السيادية والبعد الجيو-اقتصادي: تمثل استراتيجية أبوظبي للذكاء الاصطناعي، عبر الاستثمار في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي وشركة جي 42، مثالاً واضحاً لاستراتيجية القوة الناعمة المركبة على المستوى التكنولوجي. وقد انعكس هذا مؤخراً بإطلاق نظام كيه 2 ثينك الذي يتفوق على نماذج أكبر بعشرين ضعفاً، ما أرسى معايير عالمية جديدة في كفاءة الاستدلال. هذا الاستثمار، إلى جانب تطوير نماذج لغوية مثل جيس، أول نموذج عربي كبير مفتوح المصدر، ونموذج فالكون الذي يعد من أقوى النماذج اللغوية المفتوحة عالمياً بعد تطويره من قبل معهد الابتكار التكنولوجي في أبوظبي، يمنح الدولة السيطرة على مصدر الخوارزميات، ويضمن السيادة الرقمية" عبر تعزيز الكفاءة المحلية في إنتاج المعرفة، ما يرفع من مستوى الثقة في البيئة التنظيمية.
  • استراتيجية رأس المال البشري وشراكة الإنسان-الآلة: إن مبادرات التأهيل في الإمارات مثل برنامج الرؤساء التنفيذيين للذكاء الاصطناعي تتجاوز مفهوم الترخيص إلى تعليم أجيال من القادة ذوي الوعي الخوارزمي. تهدف هذه الاستراتيجية إلى تخفيف مخاطر القوى العاملة عبر تدريب الكوادر المؤثرة على ممارسة المسؤولية الخوارزمية وتأهيلهم للدخول في شراكة بين الإنسان والآلة. هذا يضمن أن العنصر البشري سيبقى هو صاحب قرار التحقق والتأويل الأخلاقي، وهي استراتيجية واضحة للقوة الناعمة المركبة ضد التلاعب الداخلي. وقد أكد بحثنا أن هذا ينعكس في ظهور نموذج وظيفي جديد لمسؤولي الاتصال الذين تحولوا إلى مؤثرين بحد ذاتهم لتعزيز الهوية المؤسسية، ما يمثل دمجاً بين المهنية والتأثير الشخصي.
  • القانون كآلية لإدارة المخاطر: تبنت الإمارات أطر عمل قانونية وإدارية وضعت المؤثرين تحت مظلة المساءلة المؤسسية. إن متطلبات الترخيص الإلزامي هي في جوهرها حاجز تنظيمي يحمي المصداقية ويجعل المؤثر كياناً تجارياً وقانونياً خاضعاً للمساءلة. كما أظهر البحث أن شركات الاتصال والتسويق التي شملها البحث والعاملة في السوق الإماراتي تفضل الشراكات الاستراتيجية طويلة الأمد لتعزيز الاستدامة والثقة، على عكس نماذج التعاون القصير، ما يقلل مخاطر السمعة.

القيمة المعدلة للمخاطر والمقارنة الهيكلية

انطلاقاً من التحليل العميق لمرتكزات النموذج الإماراتي الناجح، وتطبيق أبعاد القوة الناعمة المركبة، يصبح من الضروري تحويل هذا المفهوم الاستراتيجي إلى قيمة تنفيذية قابلة للقياس، وهنا تبرز أهمية القيمة المعدلة للمخاطر والمقارنة الهيكلية. حيث يجب على القادة التنفيذيين تحويل مفهوم المصداقية إلى التزام مالي وقانوني ضمن استراتيجية حماية الأصول.

  • الاستثمار في استراتيجية القوة الناعمة المركبة هو استثمار في القيمة السوقية للمؤسسة. إن البيئة التنظيمية الواضحة التي توفرها الإمارات تقلل ارتفاع مخاطر المصداقية. يمنح هذا الوضوح التشريعي الشركات العاملة في الإمارات ميزة تنافسية تتمثل في انخفاض تكلفة رأس المال المستدام، ورفع قيمتها السوقية المعدلة للمخاطر.
  • يجب على القيادة الاستثمار في الاستقلال المالي للمؤثرين كآلية لإدارة المخاطر. المؤثرون أصحاب الاستقلال المرتفع هم الأكثر قدرة على ممارسة المراقبة الذاتية الأخلاقية ورفض الرعايات المتضاربة. هذا الاستقلال يضمن أن تُستخدم قوة الذكاء الاصطناعي التوليدي لخدمة الرسالة، وليس لغرض التلاعب بها.
  • تقدم حالة لبنان نقيضاً هيكلياً يوضح التكلفة الحقيقية لغياب استراتيجية القوة الناعمة المركبة. وقد أظهر البحث أن غياب الإطار المؤسسي والتشريعي الواضح في هذا النموذج يفتح الباب أمام مضاعفة مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي. هذا الموقف يتفاقم بسبب ضعف البنية التحتية، ما يجعل قوة المؤثر "قوة ناعمة مشروطة بالانقطاع" وعرضة للتبعية التكنولوجية والتقلبات السوقية، حيث تقتصر الشراكات على التعاون قصير الأمد.

تحدي اللامركزية والقيادة الجيوسياسية

إن التحدي القادم للقيادة في عصر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في التكنولوجيا نفسها، بل في إعادة تعريف قيمة الأصول التي تحكمها. فمع تزايد اندماج الاقتصاد الرقمي في نماذج اللامركزية ويب3 والتمويل اللامركزي، تنتقل الثقة من المؤسسة المركزية إلى البروتوكولات الذكية، ما يهدد بإفراغ المصداقية البشرية من قيمتها التنظيمية. هذا التحول يفرض على القادة ضرورة تطوير أدوات تضمن "التحقق من الهوية الرقمية" في بيئات غير خاضعة للسيطرة المباشرة. في هذا السياق، تصبح القيادة الجيوسياسية للتكنولوجيا أداة لضمان أن تبقى المعايير الأخلاقية والمؤسسية قادرة على اختراق هذه المساحات اللامركزية. إن السيادة الرقمية لا تحمي البيانات فحسب، بل تمكن القادة من المشاركة بفاعلية في صياغة قواعد الثقة للجيل القادم من الإنترنت، وتحويل الأصول غير الملموسة إلى عماد استراتيجي يحصن الوجود البشري.

ولمواجهة هذا التحول الجذري وتأمين السيادة الرقمية والوجود البشري في فضاء اللامركزية، لا بد أن ترتكز القيادة الفعالة في عصر الذكاء الاصطناعي على عمق الرؤية لبناء منظومة متكاملة لا يمكن اختراقها، وتتحقق من خلال أربعة عوامل استراتيجية للقوة الناعمة المركبة:

  1. توجيه الاستثمار نحو تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي المحلية لضمان التحكم في المصدر وتضمين بروتوكولات الشفافية والإفصاح في الخوارزمية، مع تأمين السيادة الرقمية عبر البنية التحتية القوية.
  2. رصد ميزانيات لتمويل الاستقلال المالي للمؤثرين، واعتبارهم خط الدفاع البشري والضامن ضد الزيف التوليدي، مع ربط الشراكة بالنتائج السلوكية النوعية.
  3. دعم التشريعات الواضحة والداعمة لتحويل البيئة التنظيمية إلى ميزة تنافسية ترفع من مستوى الوثوقية القانونية والتعاقدية، ما يقلل ارتفاع مخاطر المصداقية.
  4. تفعيل استراتيجيات تأهيل القادة للعمل في إطار الشراكة بين الإنسان والآلة، وغرس مفهوم المسؤولية الخوارزمية لضمان أن يظل العنصر البشري هو صاحب قرار التحقق الأخلاقي.

إن القيادة في عصر الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على إدارة التكنولوجيا أو الأرباح، بل هي هندسة لاستدامة القيمة الإنسانية عبر ضمان الحفاظ على أصول الثقة والمصداقية.

المحتوى محمي