ما الفائدة من النظر إلى جائحة كوفيد-19 من منظور هندسي؟

7 دقائق
كوفيد-19 من منظور هندسي
حقوق الصورة: إم إس تيك/ مجموعة ويلكوم

أثناء التعامل مع كافة الأمور غير المؤكدة المتعلقة بالجائحة، تبين أن دور علماء الأوبئة فيها معقد بشكل يثير الحيرة. وقد تساعد عقلية أكثر واقعية مثل إعادة النظر لمشاكلنا مع جائحة كوفيد-19 من منظور هندسي على حل المشاكل في اتخاذ قرارات جيدة.

حوّلت الأشهر العشرين الماضية الجميع إلى هواة في علم الأوبئة والإحصاء. وفي الوقت نفسه، توصلت مجموعة من العلماء المتخصصين في الأوبئة والإحصاء إلى الاعتقاد بأن مشاكل الجائحة يمكن حلها بشكل أكثر فاعلية عن طريق تبني عقلية هندسية، أي من خلال التركيز على الحل الواقعي للمشاكل بالاعتماد على استراتيجية تكيفية محسّنة لتحقيق النجاح.

في مقالة حديثة بعنوان ⁩توضيح الأمور غير المؤكدة أثناء الجائحة⁧، يتطرق الباحثون إلى أدوارهم أثناء حالات الطوارئ الصحية العامة وكيف يمكنهم الاستعداد للأزمات التالية بشكل أفضل. وذكروا أن الإجابة قد تكمن في إعادة النظر إلى الأوبئة من منظور هندسي بشكل أكبر ومن منظور "العلم المحض" بشكل أقل.

تؤثر الأبحاث الوبائية على سياسات الصحة العامة وعلى إجراءات الوقاية والحماية المطبّقة بسببها. لكن تبيّن أن تحقيق التوازن الصحيح بين نتائج الأبحاث البحتة والحلول الواقعية هو أمر صعب بشكل مثير للقلق أثناء الوباء.

علينا اتخاذ قرارات عملية، فما مدى الأهمية الفعلية للأمور غير المؤكدة؟ سيث غيكيما

يقول جون زيلنر، أحد مؤلفي المقالة: "دائماً ما كنت أتخيل أن علماء الأوبئة في هذا النوع من حالات الطوارئ سيكونون أشخاصاً مفيدين. لكن دورنا كان أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً مما كنت أتوقعه في بداية الوباء". شهد زيلنر، وهو مطور لنماذج الأمراض المُعدية وعالم الأوبئة الاجتماعية في جامعة ميشيغان، "ازدياداً جنونياً" في الأوراق البحثية، "والتي كان لدى الكثير منها فكرة ضئيلة جداً بشأن المقصود منها من حيث التأثير الإيجابي". 

ويضيف زيلنر: "كان هناك عدد من الفرص الضائعة"، بسبب عدم وجود ارتباط بين الأفكار والأدوات التي اقترحها علماء الأوبئة وبين العالم الذي كان من المفترض أن يقدموا له المساعدة.

جائحة كوفيد-19 من منظور هندسي: أولا التسليم بوجود الأمور غير المؤكدة

حدّد أندرو غيلمان، المؤلف المشارك وعالم السياسة والإحصاء بجامعة كولومبيا، "الصورة الشاملة" في مقدمة المقالة. وشبّه انتشار هواة الأوبئة أثناء الجائحة بالطريقة التي تجعل بها الحروب كافة المواطنين هواة في الجغرافيا وأساليب القتال ،بقوله: "بدلاً من الخرائط ذات الدبابيس الملونة، هناك مخططات لحالات التعرض وعدد الوفيات. أصبح الناس في الشارع يتناقشون حول معدلات وفيات العدوى والمناعة الجماعية بنفس الطريقة التي ربما كان الناس يناقشون فيها الاستراتيجيات والتحالفات زمن الحروب في الماضي".

مع كل البيانات والنقاش العام، هل ما زالت الكمامات ضرورية؟

وإلى متى ستستمر الحماية التي يمنحها اللقاح؟ وهناك الكثير من الأمور غير المؤكدة. في محاولة لفهم ما حدث للتو وما الذي سار بشكل خاطئ، أجرى الباحثون (ومن بينهم أيضاً روث إيتزيوني من جامعة واشنطن وجوليان ريو من جامعة برن) نوعاً من إعادة استعراض للأحداث. وقاموا بتدقيق الأدوات المستخدمة لمواجهة التحديات مثل تقدير معدل الانتقال من شخص لآخر وعدد الحالات المنتشرة بين السكان في أي وقت.

كما قاموا بتقييم كافة الجوانب بدءاً من جمع البيانات (يمكن القول إن جودة البيانات وكيفية تفسيرها كانت أكبر تحديات الوباء) إلى تصميم النموذج إلى التحليل الإحصائي، فضلاً عن التواصل وصنع القرار والثقة. وكتب الباحثون: "هناك أمور غير مؤكدة في كل خطوة". 

ومع ذلك، يقول غيلمان إن التحليل لا يزال "قاصراً عن التعبير الكافي عن الالتباس الذي واجهتُه خلال تلك الأشهر الأولى".

الإحصائيات: السلاح الوحيد لمواجهة الأمور غير المؤكدة بخصوص الجائحة

تعدّ الإحصائيات هي إحدى الأساليب لمواجهة الأمور غير المؤكدة. يعتقد غيلمان أن الإحصاء هو "هندسة حسابية"، أي عبارة عن طرق وأدوات تتعلق بالقياس بقدر ما تتعلق بالاكتشاف.

تحاول العلوم الإحصائية توضيح ما يحدث في العالم، مع تسليط الضوء على الأمور المتباينة وغير المؤكدة. وعندما يظهر دليل جديد، فينبغي أن يؤدي إلى توليد عملية تكرارية من شأنها أن تحسّن المعرفة السابقة بشكل تدريجي وتزيد من مستوى الأمور المؤكدة.

"إن الأسس العلمية الجيدة تكون بسيطة وقادرة على تحسين نفسها للتغلب على الأمور غير المؤكدة". مارك ليبسيتش

كما ترى سوزان هولمز، عالمة الإحصاء بجامعة ستانفورد التي لم تشارك في هذا البحث، أوجه تشابه فيما يتعلق بالعقلية الهندسية. وتقول: "يقوم المهندس دائماً بتحديث منظوره،" وإجراء تعديلات كلما توفرت بيانات وأدوات جديدة. عند معالجة مشكلة ما، يقدّر المهندس تلك المشكلة بشكل أولي (غير واضح)، ثم يجري تقديراً تقريبياً ثانياً (أكثر تركيزاً)، وهكذا.

اقرأ أيضاً: الوباء القادم آتٍ فعلاً ويمكننا أن نتعلم كيفية مواجهته من وباء كوفيد

الإحصائيات وجودة البيانات المتعلقة بالجائحة

ومع ذلك، فقد ⁧حذّر غيلمان سابقاً⁩ من أن العلوم الإحصائية يمكن استخدامها بمثابة أداة "لتغيير حالة الأمور غير المؤكدة"، سواء عمداً أم بغير قصد، إذ يتم تجميع البيانات (غير المؤكدة) ذات الجودة السيئة مع بعضها وجعلها تبدو مقنعة (مؤكدة). إن الإحصائيات التي يتم استخدامها مقابل الأمور غير المؤكدة "غالباً ما يتم بيعها كنوع من البيانات الزائفة التي من شأنها أن تحول الأمور المجهولة تلك إلى مؤكدة".

لقد شهدنا حدوث ذلك خلال الوباء. فقد غرق علماء الأوبئة والإحصاء، المتخصصين وغير المتخصصين على حد سواء، وسط الاضطرابات والأمور غير المؤكدة، وهم يتمسكون بشيء ثابت أثناء محاولاتهم عدم الغرق. ولكن كما يشير غيلمان، فإن الرغبة في الوصول إلى أمور مؤكدة أثناء الوباء هي أمر غير مناسب وغير واقعي. ويقول: "لقد كان الجزم السابق لأوانه جزءاً من التحدي بشأن القرارات المتعلقة بالوباء. تسبب هذا الانتقال بين الارتياب والجزم في الكثير من المشاكل". ويقول إن التخلي عن الرغبة في الجزم يمكن أن يكون أمراً يؤدي إلى التحرر. ويتمثل هذا الأمر جزئياً في المصدر الذي ينبع منه المنظور الهندسي.

جائحة كوفيد-19 من منظور هندسي: عقلية تطورية

بالنسبة لسيث غيكيما، المدير المشارك لمركز تحليل المخاطر وهندسة القرارات المستنيرة في جامعة ميشيغان (وأحد الزملاء المتعاونين مع زيلنر في مشاريع أخرى)، فإن أحد الجوانب الرئيسية للنهج الهندسي هو الخوض في الأمور غير المؤكدة وتحليل الفوضى ثم التراجع خطوة إلى الوراء والتساؤل: "علينا اتخاذ قرارات عملية، فما مدى الأهمية الحقيقية للأمور غير المؤكدة؟". لأنه إذا كان هناك الكثير من الأمور غير المؤكدة، وإذا أدت إلى تغيير القرارات المثلى، أو حتى القرارات الجيدة، فمن المهم معرفة ذلك، كما يقول غيكيما.

ويضيف: "ولكن إذا لم يؤثر ذلك فعلاً على أفضل القرارات التي اتخذتها، فسيكون ذا أهمية أقل". على سبيل المثال، تعدّ زيادة تغطية لقاحات كورونا بين السكان من السيناريوهات التي حتى لو كان فيها بعض الشك بشأن عدد الحالات أو الوفيات التي سيمنعها اللقاح بالضبط، على الرغم من أنه من المرجح جداً أن ينخفض كلاهما مع حدوث القليل من الآثار السلبية، فإنها تمثّل دافعاً كافياً لاتخاذ قرار بأن برنامج اللقاحات واسع النطاق هو فكرة جيدة.

"يقوم المهندس دائماً بتحديث منظوره". سوزان هولمز

تشير هولمز إلى أن المهندسين بارعون أيضاً في تفكيك المشكلات إلى أجزاء حاسمة، وتطبيق الأدوات المختارة بدقة، وتحسين الحلول على الرغم من القيود. ضمن فريق من مهندسين يقومون ببناء جسر، هناك متخصص في الإسمنت ومتخصص في الفولاذ ومهندس رياح ومهندس إنشائي. وتقول: "تتكاتف جميع التخصصات المختلفة لتعمل مع بعضها البعض".

ما الفائدة من النظر إلى جائحة كوفيد-19 من منظور هندسي!

بالنسبة إلى زيلنر، فإن فكرة النظر إلى الأوبئة كنظام هندسي هو أمر ورثه عن والده، وهو مهندس ميكانيكي أنشأ شركته الخاصة بتصميم منشآت الرعاية الصحية. ونظراً لطفولته المفعمة بأنشطة البناء والإصلاح، فإن عقليته الهندسية تتضمن التطوير بشكل تدريجي، كتحسين نموذج الحركة استجابةً لهدف متحرك. ويقول: "غالباً ما تتطلب هذه المشكلات حلولاً تكرارية، حيث تُجرى تغييرات في الاستجابة اعتماداً على ما نجح أو لم ينجح. تستمر في تحديث ما تفعله مع توفر المزيد من البيانات ورؤية النجاحات والإخفاقات للنهج الذي تتبعه. بالنسبة لي، فالأمر مختلف تماماً، وكذلك أكثر ملاءمة للمشكلات المعقدة وغير الثابتة التي تمثل الصحة العامة، عن الصورة الثابتة المستقرة التي يمتلكها الكثير من الأشخاص حول العلوم الأكاديمية، حيث يكون هناك فكرة كبيرة ويتم اختبارها وتظل النتيجة ثابتة طوال الوقت".

قضى زيلنر وزملاؤه في جامعة ميشيغان عدة أشهر في إنشاء ⁧⁩موقع لخرائط كوفيد للجامعة على الإنترنت⁧، وشارك في إنشاء لوحات للبيانات، والتي تعدّ أدوات مفيدة للاستخدام من قبل عامة الناس. ولكنه رأى خلال هذه العملية ازدياد عدم التوافق بين الأدوات الرسمية وما هو مطلوب لإثراء عملية صنع القرار في أزمة سريعة التطور. ويقول: "كنا نعلم أن الوباء سيحدث يوماً ما، لكنني بالتأكيد لم أفكر كيف سيكون دوري أو كيف يمكن أن يكون. لقد أمضينا عدة أشهر مؤلمة للتوصل إلى ذلك، في محاولة لفعل ما لم نفعله من قبل مع إدراكنا بعدم وجود خبرة لدينا في القيام بذلك".

اقرأ أيضاً: كيف نتعامل مع أخبار كوفيد دون أن نسمح لها بتضليلنا؟

نتائج الأبحاث حول الجائحة: أكثر من مجرد توصيات

إنه يتصور ألا تأتي نتائج الأبحاث بمجرد توصيات تقول "على الناس أن يفعلوا ذلك!"، ولكن أن تترافق أيضاً مع برامج يمكن الوصول إليها وتتيح للآخرين تطوير الأدوات. ولكن يقوم علماء الأوبئة بالبحث بشكل رئيسي وليس التطوير، كما يقول: "نحن نعدّ برامج، والتي عادةً ما تكون سيئة للغاية، لكنها تلبي المطلوب. ثم نعدّ الورقة البحثية، ليعود أمر جعلها مفيدة وفق سياق أوسع إلى شخص آخر، حيث تصوّر البعض شخصاً مختلفاً ليقوم بذلك. ولكن ذلك لم يحدث أبداً. فقد رأينا تلك الإخفاقات في سياق الوباء". ويتصوّر أن يكون الأمر مشابهاً لمركز وطني للتنبؤ بالطقس ولكنه مخصص للأمراض المُعدية.

ويقول: "يكون الوضع بأن تصبّ جميع الأعداد المتعلقة بكوفيد في مكان مركزي واحد. حيث يكون هناك نموذج يمكنه الجمع بين تلك المعلومات بشكل متسق، وإنشاء تنبؤات مصحوبة بتصوّر دقيق جداً عن الأمور غير المؤكدة، والخروج بشيء واضح وقابل للتنفيذ نسبياً خلال زمن قصير إلى حد ما".

لم تكن البنية التحتية اللازمة لذلك موجودة في بداية الوباء. لكن كانت هناك بوادر على إحراز تقدم في الآونة الأخيرة.

علوم الصحة العامة سريعة التطور

يشغل مارك ليبسيتش، عالم أوبئة الأمراض المُعدية بجامعة هارفارد، منصب مدير العلوم في المركز الجديد لتنبؤات وتحليلات الأوبئة التابع للمراكز الأميركية لمكافحة الأمراض، والذي يهدف إلى تحسين عملية صنع القرار وتمكين الاستجابة للوباء بشكل منسق ومتسق عند انتشاره.

يقول ليبسيتش: "نحن لا نجيد التنبؤ بالأمراض المُعدية في الوقت الحالي. في الواقع، نحن سيئون جداً في ذلك". لكنه يشير إلى أننا كنا سيئين للغاية في التنبؤ بالطقس في بداية الأمر في الخمسينيات من القرن الماضي. ويضيف: "بعد ذلك تحسنت التكنولوجيا، وتحسنت المنهجية، وتحسنت وسائل القياس، وتحسنت آلية الحسابات. يمكننا أن نصبح أفضل في مجال ما من خلال الاستثمار في الوقت والجهود العلمية".

يعد التحسن في التنبؤ جزءاً من رؤية المركز للابتكار. يتمثل الهدف الآخر في القدرة على إجراء دراسات محددة للإجابة على أسئلة محددة تنبثق أثناء الجائحة، ثم إعداد برنامج تحليلي مصمم خصيصاً لإثراء الاستجابة على المستويين الوطني والمحلي في الوقت المناسب. تتزامن هذه الجهود مع فكرة النهج الهندسي، على الرغم من أن ليبسيتش يسميها ببساطة "علوم الصحة العامة سريعة التطور".

ويقول: "إن الأسس العلمية الجيدة تكون بسيطة وقادرة على تحسين نفسها للتغلب على الأمور غير المؤكدة. عادةً ما يصبح العلماء على مدى فترة زمنية أطول، تصل لسنوات أو عقود، معتادين تماماً على فكرة تحديث نظرتنا إلى الحقيقة". لكن أثناء الأزمة، يجب أن يتم التحديث بسرعة.

ويقول: "خارج سياق الأوبئة، لا يكون العلماء معتادين على تغيير نظرتنا إلى العالم إلى حد كبير بشكل أسبوعي أو شهري.
ولكن في هذه الجائحة على وجه الخصوص، ومع سرعة التطورات والمعلومات الجديدة، يتعين علينا القيام بذلك". ويضيف ليبسيتش إن فلسفة المركز الجديد تتمثل في "تحسين عملية صنع القرار في ظل الأمور غير المؤكدة، من خلال الحدّ من تلك الأمور المجهولة بتحليلات وبيانات أفضل، وكذلك من خلال الاعتراف بما هو غير معروف أيضاً، ومشاركة ذلك وعواقبه بوضوح".
ويشير إلى أننا "سنحتاج إلى الكثير من المهندسين للقيام بهذه الوظيفة، وإلى النهج الهندسي بالتأكيد".

اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة على وشك بدء حملتها المثيرة للجدل للجرعات الداعمة من لقاح كوفيد

المحتوى محمي