نشرة خاصة من إيرنست ويونغ
ما زال التحول الرقمي أحد أكثر المواضيع تداولاً في الوقت الحالي، ولا يمر يوم واحد من دون أن نسمع خبراً جديداً عن الاستثمارات الرقمية على مستوى العمل الحكومي. هناك الكثير من العوامل التي تحرك هذه الاستثمارات، ومن أكثرها شيوعاً: تصاعد الضغوط على الحكومات لتحقيق المزيد بقدر أقل من الموارد، مع تحسين تجربة العملاء (المواطنين) في نفس الوقت.
نشهد في كل يوم أمثلة جديدة عن استثمارات كبيرة للحكومات في جميع أنحاء العالم في مجال برامج التحول الرقمي التي تركز على مختلف النواحي في سلسلة القيمة للقطاع العام.
وبغية تطبيق هذه التحولات على نفسها، تعمل الحكومات على تأسيس وكالات مركزية للتحول الرقمي، وتعيّن مسؤولين حكوميين لشؤون المعلومات، أو لشؤون المعلومات الرقمية، أو لشؤون تكنولوجيا المعلومات؛ وذلك بهدف تطوير الأنظمة والمنصات المشتركة وإطلاق المبادرات الضخمة. ولكن يبدو أن قرارات الاستثمار ما زالت تفتقر نوعاً ما إلى التوجه الحقيقي نحو تحقيق الفائدة، وذلك بسبب سرعة التحولات في المشهد الرقمي. يؤدي هذا إلى ضعف التوافق ما بين الأهداف ويؤثر سلباً على فعالية هذه البرامج، ما يؤدي بالنتيجة إلى إثارة التساؤلات حول جدوى هذه الاستثمارات.
وبالرغم من أنه لا يوجد سبب واحد محدد لعدم قدرة هذه المبادرات على تقديم النتائج المرجوة بشكل كامل، إلا أن أحد أكثر النواحي شيوعاً وعُرضة للتجاهل هو عدم وجود هدف واضح ومُلزِم للاستثمار في الكثير من الحالات. ووفقاً لتقديرات الشركة العالمية للبيانات IDC، فإن 30-35% من إجمالي مشاريع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات تفشل بسبب عدم التوافق ما بين أولويات أو أهداف الشركات.
وقد ألمحت في بعض مقالاتي السابقة إلى القوة الكامنة في وجود هدف محدد يوجه العمل. وأرغب هنا بالتأكيد على هذه النقطة بشدة، فقد أصبح من الهام بالنسبة للحكومات -أكثر من ذي قبل- أن توجه جميع تحركاتها في جميع استثماراتها الرقمية وفق أهداف راسخة وواضحة. ومن وجهة نظري، فهذه هي الخطوة الأولى نحو تحقيق أفضل النتائج الممكنة للاستثمارات الرقمية في الحكومة.
يمثل الهدف الإجابة عن سؤال أساسي وهام، هو: "لماذا"؟
تحتاج الحكومات إلى ضمان تحقيق أفضل قيمة من أي استثمار، ويجب أن تتجنب الوقوع في الفخ الشائع الذي يتمثل في دعم مبادرة معينة لمجرد أنها توافق التوجه العام والمرغوب حالياً. توجد حاجات فريدة لكل دولة ومجتمع؛ ولهذا يجب أن تكون القرارات الاستثمارية للحكومات مبنية على أهداف راسخة تلعب دور منارة تهتدي بها القيادة الحكومية في سعيها نحو تحقيق نتائج ملموسة وذات مغزى لدولتها.
أنا شخصياً أعمل وفق هدف واضح، وهو مساعدة الحكومات على أن يصبح المواطن مركزياً في جميع قراراتها، وذلك لتحقيق حالة الرضا الكامل لدى كل مواطن.
تمثل الأهداف الأساسية المبنية على النتائج -في رأيي- أهمَّ العوامل التي تحرك القرارات الاستثمارية الحكومية في المبادرات الرقمية:
- امتياز النتائج
- التميز العملياتي
- امتياز العميل (المواطن)
سأتوسع في شرح كل من هذه الأهداف، وأشارك بعضَ الأمثلة حول استخدام التحولات الرقمية في الحكومات لتحقيق هذه الأهداف.
امتياز النتائج
يقوم الهدف الأساسي الأول للاستثمار في التحول الرقمي على تمكين الحكومات من الإيفاء بوعودها ونتائجها المطلوبة بأفضل شكل ممكن. وبفضل التطورات التكنولوجية -مثل التحليلات التنبؤية والتوجيهية، والتعامل مع البيانات الكبيرة، والذكاء الاصطناعي- أصبح من الممكن جمع وتفسير البيانات بشكل غير مسبوق.
تلعب هذه التكنولوجيات دور أدوات التمكين الأساسية، ويمكن الاستفادة منها لبناء أنظمة وأدوات لتطبيق وتتبع ومراقبة الأهداف الإستراتيجية، ومؤشرات الأداء الرئيسية، والتأثيرات، وهو ما يساعد الحكومات على اتخاذ قرارات أفضل وأكثر اعتماداً على المعلومات والبيانات. من ناحية أخرى، يمكن أيضاً أن تعيد الحكومات صياغة الإستراتيجيات والسياسات والهيكليات المؤسساتية والبرامج والأولويات، وأمثَلة توزيع الموارد؛ وذلك لتحقيق وعودها للناس والبلاد. غير أنه من الأهمية بمكان تخصيص ما يلزم من الإمكانات والقدرات والبنية التحتية من أجل تطبيق هذه التكنولوجيات.
وعلى سبيل المثال، أسَّست الهند أولاً قاعدة بيانات وطنية لمواطنيها باستخدام نظام يعتمد على القياسات الحيوية (آدهار). لُقّمت هذه البيانات لاحقاً لأنظمة تحليلية متطورة لكشف الثغرات وتحسين برنامج المساعدة الاجتماعية الوطنية وغيره من برامج الإعانات الحكومية. وقد سمحت النتائج بإطلاق نظام التحويل المباشر للإعانات، والمتصل مباشرة بآدهار، في 2013. ومنذ إطلاق هذا النظام، ساعد على التخلص من تسريبات بقيمة أكثر من 116 مليار دولار، وقد استُخدمت هذه الأموال لتقديم الإعانات الاجتماعية لمستحقيها.
التميز العملياتي
يقوم الهدف الأساسي الثاني على تمكين الحكومات من تقديم منتجاتها وخدماتها بشكل أكثر فعالية وتأثيراً. ومرة أخرى، نجد أن التكنولوجيات الرقمية -مثل الأتمتة الروبوتية للإجراءات، والذكاء الاصطناعي، والتحليلات المتقدمة- تلعب دوراً أساسياً في تحسين إنتاجية القطاع العام. وعلى سبيل المثال، تسمح أدوات أتمتة العمليات بالحصول على تحسينات تتجاوز ما يمكن الوصول إليه عن طريق إعادة هندستها أو أمثَلَتها أو تعهيد العمل إلى جهات أخرى بتكاليف أقل (مراجحة العمالة).
إن الحلول الروبوتية تفوق الموظفين فعالية؛ فهي لا ترتكب الأخطاء، وتعمل بلا توقف، وتسمح بتضخيم حجم العمل بسهولة للتعامل مع تقلبات الطلب. كما تسمح الأتمتة الروبوتية للإجراءات بإجراء عمليات التدقيق والتحقق من التوافق مع الأنظمة والقوانين بسهولة. إضافة إلى ذلك، يمكن تطبيقها دون التأثير على أنظمة تكنولوجيا المعلومات وبناها التحتية الموجودة مسبقاً. ويؤدي هذا إلى تخفيض مخاطر التطبيق، ودعم عوائد الاستثمار، خلال مدة تتراوح عادة من 4 إلى 6 أشهر.
تُعتبر هيئة صاحبة الجلالة للإيرادات والجمارك في المملكة المتحدة إحدى الجهات الكثيرة من جميع أنحاء العالم التي استفادت من أتمتة الإجراءات؛ ففي 2016، افتتحت الهيئة مركز تفعيل الأتمتة، وخلال 18 شهراً، كانت الروبوتات قد أدارت 7.5 مليون معاملة. ساعد هذا على تخفيف تكاليف معالجة هذه المعاملات بنسبة 80%، وتحسين الخدمات عن طريق تخفيض وقت معالجة الاتصالات الهاتفية بنسبة تصل إلى 40%، واستعادة ضعف عوائد الاستثمار خلال سنة واحدة.
تمثل البوتات ذاتية التعلم التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي المرحلةَ التالية المنطقية للأتمتة الروبوتية للإجراءات، التي تسمح بأتمتة الإجراءات والوظائف التي تقع حالياً خارج نطاق قدرات الأتمتة الروبوتية للإجراءات. من ناحية أخرى، يمكن للتحليلات المتقدمة أن تساعد الحكومات ووكالاتها على تحديد المجالات التي تحتاج إلى الرقمنة والأتمتة، وتحديد أولويات العمل بناء على تحقيق المكتسبات السريعة. إضافة إلى هذا، فإن عمليات التحليل تقدم الكثير من التحسينات من حيث قياس فعالية العمليات.
امتياز العميل (المواطن)
أما الهدف الثالث، الذي قد يكون الأكثر أهمية، فهو تمكن الحكومات من تحسين تجربة العميل (المواطن).
يمكن للحكومات أن تستفيد من التحول الرقمي حتى تحسن من استيعابها لحاجات العملاء (المواطنين) ورغباتهم وتوقعاتهم، والحصول على معلومات حول مدى رضاهم في الزمن الحقيقي. إضافة إلى ذلك، فقد أدت رقمنة الخدمات الحكومية إلى تحسين كبير في إمكانية الوصول إليها وتوافرها، وذلك على مدار الساعة. وهو ما يسمح للحكومات بالحد من البيروقراطية التي عادة ما تتصف بها الخدمات الحكومية.
غير أننا ما زلنا في البدايات فيما يتعلق باستخدام التحول الرقمي من أجل تحسين إنجاز التجربة. ويمكن إطلاق القدرات الكامنة الحقيقية للتحول الرقمي عن طريق جعل الخدمات أكثر ذكاء.
وقد بدأت بعض البلدان، مثل سنغافورة ونيوزيلندا والدنمارك، بإجراء التجارب على خدمات الحكومة الذكية التي تستفيد من البيانات عن طريق استخدام التكنولوجيات الرقمية ذات التأثير المزعزع، مثل الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة. صُممت هذه الخدمات التنبؤية والشخصية حتى تأخذ بعين الاعتبار الأحداثَ الحياتية الهامة، وتحاول أن تلقي نظرة شاملة على رحلة الحياة الخاصة بكل مواطن.
وعلى سبيل المثال، فإن مبادرة "لحظات الحياة" تجمع عدة خدمات حكومية معنية من وكالات مختلفة لتقديم الدعم خلال اللحظات الهامة في حياة المواطنين. يعني هذا تقديم تجربة سلسة ومريحة إلى المواطنين؛ لأنهم ليسوا في حاجة إلى التعامل مع عدة وكالات حكومية مختلفة للحصول على خدماتها. وضمن هذه المبادرة، تقدم الحكومة تطبيقاً للعائلات التي لديها أطفال بعمر 6 سنوات أو أقل. يقدم هذا التطبيق معلومات مخصصة يحتاجها الأهل ومقدمو الرعاية بناء على البيانات المُدخلة إلى النظام. وتخطط البلاد لتوسيع هذه المقاربة حتى تشمل المزيد من لحظات الحياة بحلول نهاية العام 2022.
إضافة إلى ذلك، فإن القدرات الرقمية المتعلقة بالبيانات، والتي تقوم بتحقيق الأهداف الثلاثة المعرفة هنا، ستساعد الحكومات أيضاً على دراسة تجربة العميل من وجهة نظر شاملة تتجاوز مجرد تقديم الخدمات.
سأتوسع لاحقاً في دراسة كل من هذه الأهداف الثلاثة بمزيد من التفصيل بإضافة وجهات نظر قطاعية ووظيفية. ستركز وجهة النظر القطاعية على دور هذه الأهداف الثلاثة في مساعدة الاستثمارات الرقمية في قطاعات ضخمة مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والرعاية الاجتماعية، والمعاشات التقاعدية، والنقل العام، وغير ذلك. في حين ستركز وجهة النظر الوظيفية على نواحي مثل الإستراتيجية والحوكمة وغير ذلك. إضافة إلى هذا، سأتحدث قليلاً عن القدرات الرقمية المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف، إضافة إلى الأشياء التي يجب تفاديها عند البدء برحلة التحول الرقمي.
أدعوكم إلى طرح أفكاركم وتعليقاتكم حول هذا الموضوع حتى نغني هذا الحوار، ونجعله أكثر فائدة للحكومات في جميع أنحاء العالم.