هل تستطيع كشف الكاذب؟ أعتقد أن هذا السؤال كان يدور في أذهان الكثيرين في الآونة الأخيرة، وذلك على إثر المناظرات السياسية المتنوعة التي عُرضِت على التلفاز (في الولايات المتحدة). وقد بينت الأبحاث أن قدرتنا على التمييز بين الحقيقة والكذب رديئة للغاية عموماً.
يعتقد البعض أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد على تحسين قدراتنا هذه، والحصول على أداء أفضل من أداء الأساليب القديمة والمشكوك بأمرها مثل اختبارات كشف الكذب. ومن الممكن أن تساعدنا أنظمة كشف الكذب التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، يوماً ما، على التمييز بين الحقائق والأخبار المزيفة، وتقييم المزاعم، بل وربما حتى كشف الأكاذيب والمبالغات في طلبات التوظيف. غير أن السؤال الحقيقي هو إن كنا سنثق بها، وإن كان يجب أن نثق بها.
اقرأ أيضاً: 8 طرق تساعدك على كشف الأخبار المزيفة عبر منصات التواصل الاجتماعي
هل يمكن الثقة بأنظمة كشف الكذب؟
في دراسة حديثة، طورت أليسيا فون شينك وزملاؤها أداة تفوقت على البشر بفارق كبير في كشف الأكاذيب. بعد ذلك، أجرت خبيرة الاقتصاد في جامعة فورتسبورغ بألمانيا، فون شينك، بعض الاختبارات مع فريقها لاكتشاف كيفية استخدام الناس هذه الأداة. كانت الأداة مفيدة في بعض الجوانب، فقد أصبح مستخدموها أكثر قدرة على كشف الأكاذيب. غير أنها دفعت بهم أيضاً إلى إطلاق الكثير من الاتهامات.
طلبت فون شينك وزملاؤها، في دراسة نُشرت في مجلة آي ساينس (iScience)، من مجموعة من المتطوعين أن يكتبوا نصوصاً يصرحون فيها عن خططهم المتعلقة بعطلة نهاية الأسبوع. وفي نصف الحالات، شجع الباحثون المتطوعين على الكذب، حيث قُدِّمَت مكافأة مالية صغيرة لكل تصريح كاذب لكنه قابل للتصديق. جمع الفريق في المجمل 1,536 تصريحاً من 768 شخصاً.
بعد ذلك، استخدم الفريق 80% من هذه التصريحات لتدريب خوارزمية على الأكاذيب والحقائق، اعتماداً على نموذج الذكاء الاصطناعي اللغوي بيرت (BERT) من شركة جوجل. عندما اختبر الفريق الأداة الناتجة على التصريحات المتبقية، التي تشكل 20% من العدد الإجمالي، وجدوا أنها قادرة على تمييز التصريح الصحيح من الكاذب في 67% من الحالات. هذا أفضل بكثير من أداء الإنسان العادي، الذي عادة ما يصيب في 50% من الحالات تقريباً.
لتحديد كيفية استفادة من الناس من الذكاء الاصطناعي في كشف الكذب، جمعت فون شينك وفريقها 2,040 متطوعاً آخر، ووزعوا هؤلاء المتطوعين ضمن مجموعات أصغر، وأجروا سلسلة من الاختبارات.
الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في كشف الكذب
كشف أحد الاختبارات أنه عندما يُعرض على الناس خيار دفع رسم صغير لقاء استخدام أداة ذكاء اصطناعي يمكن أن تساعدهم على كشف الأكاذيب –والحصول على مكافآت مالية - فإنهم لا يميلون كثيراً إلى استخدامها. بلغت نسبة المتطوعين الذين عُرِض عليهم هذا الخيار وقرروا استخدام أداة الذكاء الاصطناعي الثلث فقط، وقد يُعزى هذا إلى شكوكهم إزاء هذه التكنولوجيا، على حد قول فون شينك. (وتضيف أنه يُحتمل أيضاً أنهم يبالغون في التفاؤل بشأن قدراتهم الخاصة على كشف الأكاذيب)
اقرأ أيضاً: بعد وصف 2024 بأكبر عام انتخابي في التاريخ كيف سنكافح المعلومات المزيفة في الانتخابات؟
غير أن هذا الثلث وضع ثقة كبيرة في هذه التكنولوجيا. تقول فون شينك: "تشير ملاحظاتنا إلى أنه عندما يتخذ الشخص خياراً فعالاً بالاعتماد على هذه التكنولوجيا، فإنه يتبع نتيجة تنبؤ الذكاء الاصطناعي في الحالات كلها تقريباً، ويعتمد على هذه التنبؤات إلى درجة كبيرة".
يمكن لهذا الاعتماد أن يحدد سلوكنا، فعادة ما يميل الناس إلى الافتراض بأن الآخرين يقولون الحقيقة. وقد أثبتت الدراسة هذا الأمر، فعلى الرغم من أن المتطوعين كانوا يعلمون أن نصف التصريحات كاذبة، فإنهم لم يشيروا إليها بأنها كاذبة إلا في 19% من الحالات. لكن هذا الأمر تغير عندما قرروا الاستفادة من أداة الذكاء الاصطناعي، حيث ارتفعت نسبة الاتهام إلى 58%.
هذه نتيجة جيدة من بعض النواحي، فهذه الأدوات يمكن أن تساعدنا على كشف عدد أكبر من الأكاذيب التي نصادفها في حياتنا، مثل المعلومات المزيفة التي قد نصادفها على منصات التواصل الاجتماعي.
غير أنها لا تخلو من السلبيات. فقد تؤدي أيضاً إلى تقويض الثقة، وهي جانب أساسي من جوانب السلوك البشري التي تساعدنا على تكوين العلاقات. إذا كان تدهور الروابط الاجتماعية ثمناً للأحكام الدقيقة عند التمييز بين الحقيقة والكذب، فهل تستحق هذا الثمن؟
أيضاً، ثمة مسألة أخرى، وهي مسألة الدقة. فقد ركزت فون شينك وزملاؤها في دراستهم فقط على بناء أداة أفضل من البشر في كشف الكذب. هذا الهدف ليس صعباً، نظراً لمدى ضعف قدراتنا في هذا المجال. غير أنها تتخيل أيضاً استخدام أداة مثل أداتها لتقييم مستوى الحقيقة في منشورات منصات التواصل الاجتماعي بصورة روتينية، أو البحث عن تفاصيل مزيفة في السيرة الذاتية أو الردود على المقابلات للباحثين عن عمل. في حالات كهذه، لا يكفي أن تكون التكنولوجيا "أفضل من البشر" وحسب إذا كانت ستوجه المزيد من الاتهامات.
هل سنكون على استعداد للقبول بمعدل دقة يبلغ 80%، حيث يبلغ عدد التقييمات الصحيحة، من حيث التمييز بين الحقيقة والكذب، 4 من كل 5 تقييمات؟ وهل تكفي نسبة 99% حتى؟ أنا لست متأكدة.
من الجدير أن نتذكر تقنيات كشف الكذب القديمة، وقابليتها المرتفعة لارتكاب الأخطاء. فقد صُمم جهاز كشف الكذب لقياس معدل ضربات القلب ودلالات أخرى تشير إلى "الاستثارة"، لأنه كان من المُعتَقد أن بعض علامات التوتر كان موجوداً عند الكاذبين فقط. غير أن هذا ليس صحيحاً. وقد أدركنا هذا منذ وقت طويل. ولهذا، لا تقبل المحاكم الأميركية عادة بنتائج اختبارات كشف الكذب. على الرغم من هذا، حافظت اختبارات كشف الكذب على أهميتها في بعض البيئات، وتسببت بالكثير من الأضرار عند استخدامها لتوجيه الاتهامات إلى الأشخاص الذين فشلوا في هذه الاختبارات على برامج تلفزيون الواقع.
من المُتَوَقع أن تؤدي أدوات الذكاء الاصطناعي التي تشوبها العيوب إلى أثر أكبر، لأن نشرها واستخدامها على نطاق واسع أسهل بكثير، كما تقول فون شينك. فعدد الأشخاص الذين يمكن إجراء اختبار كشف الكذب عليهم في اليوم الواحد محدود. وبالمقارنة معه، يبدو نطاق تقنيات كشف الكذب بالذكاء الاصطناعي هائل الاتساع.
تقول فون شينك: "نظراً لانتشار عدد كبير من الأخبار المزيفة والمعلومات المزيفة، فإن هذه التكنولوجيات تبدو مفيدة. غير أنها يجب أن تخضع لاختبارات صارمة، ويجب أن نتأكد أنها أكثر براعة بكثير من البشر". وتقول أيضاً إنه إذا أدى كاشف الكذب الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي إلى توليد الكثير من الاتهامات، فقد يكون من الأفضل ألا نستخدمه على الإطلاق.