لطالما لعب كوكب الزهرة دوراً ثانوياً بالنسبة لشقيقه الأكثر احمراراً وبعداً وصغراً. وبعد أن عرفنا أن كوكب الزهرة لا يصلح للحياة على الإطلاق، أمضينا أغلبية القرن الماضي معلقين آمالنا في العثور على الحياة الفضائية على الزهرة.
ولكن هذا تغير مؤخراً.
فقد أُعلن عن اكتشاف غاز غريب يسمى الفوسفين في السحب التي تعلو سطح الزهرة. يتم إنتاج هذا الغاز على كوكب الأرض عن طريق أحد الميكروبات، وبعد استبعاد معظم العمليات غير البيولوجية، أحيا الاكتشاف آمالاً جديدة بوجود الحياة على الزهرة. والآن، يجب أن نتأكد بشكل لا يرقى إليه الشك.
يقول بول بيرن، وهو عالم كواكب في جامعة نورث كاليفورنيا الحكومية ومن المتحمسين لكوكب الزهرة: “حتى نصل إلى جوهر هذا السؤال، علينا أن نذهب إلى الزهرة”. وفي الواقع، فمن المحتمل أنه يجب ألا نفكر فقط في البعثة التالية إلى الزهرة، بل بإطلاق حقبة جديدة كاملة من استكشاف كوكب الزهرة، وذلك على شكل مجموعة متنوعة من البعثات التي ستدرس الكوكب بشكل منظم ومتسق، تماماً كما يحدث الآن مع المريخ.
وهذا يعود بالطبع إلى أن الأدوات التي يمكن أن ندرس بها الزهرة من الأرض محدودة القدرات. تقول سارة سيجر، وهي فلكية في جامعة إم آي تي وأحد مؤلفي الدراسة الجديدة حول الفوسفين: “يتميز الزهرة بسطوع شديد، ولهذا فإن العديد من التلسكوبات الأرضية عاجزة عن رصده بشكل جيد”. يعود هذا السطوع إلى الانعكاس الشديد لضوء الشمس عن طبقة الغيوم الكثيفة التي تغطيه، ويعززه قرب الزهرة من الأرض، ويؤدي بشكل أساسي إلى إعماء أدواتنا إلى درجة تمنع تنفيذ عمليات رصد مفصلة للكوكب. ويمكن أن نشبّه هذا الوضع بمحاولة مراقبة الطريق بوجود سيارة أخرى توجه مصابيحها مباشرة إلى الوجه. قد تحقق التلسكوبات الفضائية نتائج أفضل، ولكن سيجر تقول إننا لا يمكن أن نجزم حالياً بأنها لن تعاني من نفس المشكلة.
وعلى الرغم من أن التلسكوبات على الأرض تستطيع كشف آثار الفوسفين وغيره من الغازات الهامة الأخرى، إلا أنه لا توجد وسيلة تسمح لنا بتأكيد كونها ناتجة فعلياً عن شكل من أشكال الحياة أو عمليات كيميائية نادرة أخرى، مثل النشاط البركاني. لقد عملت سيجر وفريقها -وبدقة- على استبعاد جميع المصادر الطبيعية المعروفة لوجود الفوسفين على الزهرة، غير أن الكوكب يمكن أن يكون موطناً لعمليات كيميائية لم نعتقد أنها ممكنة من قبل. للإجابة عن هذه الأسئلة، واستبعاد التفسيرات الطبيعية بشكل نهائي، يتوجب علينا الذهاب إلى هناك.
إذن، لنذهب إلى الزهرة!
بطبيعة الحال، فإن القول أسهل من الفعل؛ حيث إن الحرارة على السطح تصل إلى مستويات حارقة تساوي 464 درجة مئوية، كما أن الضغط أعلى من الضغط على الأرض بما يكافئ 89 ضعف. لم ينجح أحد في الهبوط على سطح الزهرة سوى الاتحاد السوفييتي، وذلك عن طريق المسبار السطحي فينيرا 13، الذي تمكن من العمل لفترة 127 دقيقة قبل أن ينهار تحت وطأة الظروف القاسية. ليس من السهل تبرير إنفاق مئات الملايين -أو حتى المليارات- من الدولارات على بعثة يمكن أن تنتهي في ظرف ساعات، ومن دون أن تقدم لنا ما نحتاج إليه.
ولهذا، فقد يكون من المنطقي أن نبدأ بمسبار مداري. تستطيع المسابر المدارية، على عكس الأجهزة الأرضية، أن تخترق الغلاف الجوي، وتقوم بعمل أفضل في رصد تغيرات الفوسفين أو غيره من الدلالات الحيوية المحتملة عبر الزمن، أو تحديد مناطق التراكيز المرتفعة لهذه الغازات. ليست هذه المرة الأولى التي ينفذ فيها البشر بعثات كهذه، فقد كان فينوس إكسبرس من إيسا آخر مسبار مداري هام تم إرساله إلى الزهرة، وقد قام بدراسة الكوكب لثماني سنوات إلى أن فقد المهندسون الاتصال معه، على الأرجح بسبب نفاد الوقود. في الوقت الحالي، لا توجد حول الزهرة سوى مركبة فضائية واحدة، وهي المسبار المداري الياباني أكاتسوكي، الذي وصل في 2015 لدراسة مناخ وطقس الكوكب. وعلى الرغم من أن المسبار يقوم بعمل علمي جيد، فإنه لا يحمل أية أدوات تستطيع سبر التركيب الكيميائي للغلاف الجوي والبحث عن دلالات وجود الحياة العضوية.
يمكن للمسبار المداري أيضاً أن يتيح الفرصة لإطلاق مشاريع أكثر جرأة، والدخول بشكل مباشر ضمن الغيوم. ويمكن تنفيذ بعثة لإحضار عينة من السحب، حيث تحلق مركبة فضائية إلى داخل الغلاف الجوي وتجمع بعض الغاز وتعيده إلى الأرض لتحليله مخبرياً. يلحظ بيرن أن الكثير من العروض على مدى السنوات الماضية كانت تتمحور حول إلقاء شيء ضمن الغلاف الجوي نفسه للبحث عن المزيد من الدلالات الحيوية، أو حتى المواد العضوية. وللمحافظة على منصة كهذه محلقة في الهواء لأطول فترة ممكنة -قد تصل إلى عدة أسابيع أو أشهر متواصلة- اقترح المهندسون إبطاء هبوطها باستخدام المناطيد أو المراوح.
خيارات صعبة
غير أن محاولة العثور على الحياة على كوكب آخر ليست ببساطة الانتقال من مكان إلى آخر؛ فلن تستطيع بعثة واحدة فقط إلى الزهرة أداء كل العمل المطلوب للإجابة عن هذا السؤال. وقد بدأت ناسا تخطط لبعثتين إلى الزهرة: دافينشي بلس (وهو مسبار سيغطس مباشرة في الغلاف الجوي للزهرة ويدرس تركيبه الكيميائي باستخدام عدة مقاييس طيفية خلال فترة هبوطه البالغة 63 دقيقة)، إضافة إلى فيريتاس (وهو مسبار مداري سيستخدم تركيبة من الأنظمة الرادارية والتحليل الطيفي بالأشعة القريبة من تحت الحمراء لاختراق طبقة السحب الكثيفة المحيطة بالكوكب، وذلك لدراسة طبوغرافية السطح وتركيبه الجيولوجي). تشير الأبحاث السابقة إلى أن وجود احتمال بأن الكوكب ذو نشاط بركاني وكان موطناً لمحيطات ضحلة، ولكن العجز عن مسح السطح بشكل مرئي جعل تأكيد هذه النظريات أمراً مستحيلاً حتى الآن.
يمكن لكل بعثة أن تقدم أدلة جديدة مثيرة للاهتمام بحيث نقترب تدريجياً من تحديد إمكانية وجود الحياة هناك، ولكن ليس في استطاعة أي بعثة أن تجيب عن هذا السؤال وحدها. وعلى سبيل المثال، قد يكون دافينشي بلس محظوظاً بما يكفي لتحديد مناطق الغلاف الجوي التي يتركز فيها غاز الفوسفين هذا. ولكن، إذا كان هذا الغاز يتم إنتاجه على السطح، فإن المسبار لن يتمتع بالضرورة بالأدوات التي تمكنه من تحديد المواقع التي تجري فيها عمليات الإنتاج هذه. قد يجد فيريتاس موقعاً لعمليات كيميائية غريبة في تربة الزهرة، ولكن إذا لم يحصل على عينات حقيقية من الفوسفين بشكل مباشر من السحب، فلن يكون هناك ما يكفي من الأدلة لربط اللغزين معاً.
التفكير بشكل طموح
لا يخفي بيرن رغبته العارمة في رؤية برنامج استكشافي شامل للزهرة، بشكل يشابه ما نراه حالياً بالنسبة للمريخ؛ فقد تم إرسال مسابر مدارية لالتقاط الصور للسطح، وقياس تسرب الغلاف الجوي إلى الفضاء الخارجي ودراسة تركيبه الكيميائي، واستطلاع الطقس. كما توجد هناك عربات جوالة لدراسة العمليات والمواد العضوية في تربة المريخ، والبحث عن دلالات على وجود الحياة. وهناك أيضاً مسابر سطحية تدرس التركيب الجيولوجي الداخلي، وتقيس النشاط الزلزالي للكوكب.
يمكن أن نتخيل برنامجاً مشابهاً للزهرة، مع عدة بعثات تعمل في نفس الوقت. في إطار هذا البرنامج، يمكن أن يعمل فيريتاس ودافينشي بلس بالاشتراك مع بعثات أخرى لعزل الآثار الحيوية مثل الفوسفين، وتحديد ما إذا كانت تمثل حقاً دليلاً على وجود الحياة. يقول بيرن: “أكره أن أضطر لاختيار بعثة واحدة فقط. ولكن، حتى لو حصلنا على البعثتين، فسأستمر في الدعوة إلى طلاق بعثات أخرى أيضاً”.
ستوضع هاتان البعثتان، وبعثتان أخريان أيضاً، على طاولة ناسا في أبريل المقبل لمنح الإذن بالبدء به. تأتي فرصة الإطلاق إلى الزهرة، أي عندما يكون الكوكب في أقرب نقطة إلى الأرض، مرة واحدة كل 19 شهراً. وإذا اختيرت أي من هذه البعثات، فلن تنطلق قبل 2026، وستستغرق عدة أشهر على الأقل حتى تقطع مسافة الرحلة.
يمكن أن تنطلق بعثات أخرى من دون شك، وفي أوقات أقرب من ذلك. وعلى سبيل المثال، تدرس الوكالة الفضائية الهندية إطلاق المسبار المداري شوكرايان-1 إلى الزهرة في 2023 لدراسة التركيب الكيميائي لغلافه الجوي. أما شركة روكيت لاب في نيوزيلندا فترغب في إطلاق قمر اصطناعي صغير يحمل اسم فوتون لتنفيذ عملية عبور قرب الزهرة في 2023. تقوم تلك البعثة على نشر مسبار صغير في الغلاف الجوي للزهرة لجمع البيانات، على الرغم من أنه لن يحمل على الأرجح سوى أداة واحدة، ما يحد من نطاق أي أبحاث ستجرى على هذه القياسات؛ يشير بيرن إلى أنه قد يكون من المناسب أن ندرس إمكانية بناء برنامج مكون من العديد من البعثات الرخيصة مثل فوتون، بدلاً من بضع بعثات مكلفة للغاية مثل دافينشي بلس وفيريتاس. أما سيجر فتقول إن خططها المباشرة “لقيادة دراسة فكرة بعثة خفيفة منخفضة التكلفة” تتوافق مع مبادرات بريكثرو التي يترأسها الملياردير الروسي يوري ميلنر.
وعلى الرغم من أن البعثات إلى السطح صعبة للغاية، فقد كان هناك سيل لا ينقطع من العروض لتحسين المركبات الفضائية هندسياً حتى تستطيع المسابر السطحية تحمل الظروف القاسية لفترات أطول. قدم علماء من ناسا أحد هذه العروض باسم استكشاف النظام الشمسي القادر على الصمود في المكان، ويقترح بناء أنظمة إلكترونية وتجهيزات قادرة على تحمل البيئة الصعبة على الزهرة لفترة تصل إلى 60 يوماً. غير أن هذا النوع من المسابر السطحية قد لا يكون جاهزاً قبل العقد المقبل.
وحتى لو لم نعثر على دلالات على وجود الحياة على الزهرة، فهذا مثير للاهتمام أيضاً؛ حيث يعني أن الزهرة والأرض كانا كوكبين متشابهين من حيث البدايات، ولكنهما انتهيا إلى حالتين مختلفتين كلياً. يقول بيرن: “هذه النتيجة تثير أيضاً تساؤلات تتطلب الإجابة عنها. ولكن حتى نجيب عنها، نحن في حاجة إلى برنامج لدراسة الكوكب”.