وسط الفوضى وعدم اليقين الناجم عن وباء فيروس كورونا، أصبح أمرٌ واحد على الأقل واضحاً هذا الأسبوع: تقوم مجموعة من صانعي السياسة الأميركيين النافذين بدراسة جدية لفكرة قيام البنك الاحتياطي الفدرالي بإصدار "دولارات رقمية".
ما علاقة "الدولار الرقمي" بوباء كورونا؟ يحتاج الكثير من الناس إلى توافر المال بين أيديهم في أقرب وقتٍ ممكن للتعويض عن فقدان الدخل بسبب الوباء وعمليات الإغلاق الناجمة عنه. وخلال الأسبوع الماضي، أبرم قادة الكونجرس صفقةً لتحقيق ذلك؛ حيث سيتمكن المواطنون الأميركيون المستوفون لشروط معينة من تلقي دفعات نقدية من الحكومة تصل قيمتها حتى 1,200 دولار، وذلك بموجب مشروع قانون أقره مجلس الشيوخ الأميركي منذ أيام ومن المتوقع أن يتم تمريره بسرعة في مجلس النواب.
وقد قرر صانعو السياسة في نهاية مداولاتهم توزيع هذه الأموال باستخدام الأساليب القائمة، مثل ودائع الحسابات المصرفية المباشرة والشيكات الورقية المرسلة بريدياً. ولكن في مرحلة متقدمة من النقاش، بدا أن بعض الديمقراطيين النافذين في مجلس النواب يؤيدون إنشاء منصة دفع جديدة تماماً وخاضعة لإدارة الحكومة ويتم تشغيلها اعتماداً على نسخة رقمية من الدولار.
وعلى الرغم من عدم تضمين النظام المقترح في مشروع قانون الاستجابة لفيروس كورونا، لكن يبدو أن الدولار الرقمي قد أصبح أقرب من أي وقت مضى للتحول إلى حقيقة ملموسة. وقد ينتهي المطاف بأزمة الوباء الحالي إلى أن تصبح نقطة تحول مهمة في النقاش حول هذا الموضوع.
يمكن اعتبار الدولار عملة رقمية بالفعل من بعض النواحي؛ حيث تمثل الأرقام الموجودة في حسابك المصرفي ما يحتويه من دولارات، ويمكنك الدفع بالدولار عن طريق مسح بطاقتك الائتمانية. لكن هذه الأرقام ما هي إلا تعبير عن الديون التي يدين لك بها البنك، بينما عندما يكون الدولار عملة رقمية حقيقية، فسيمثل عندها دَيناً تدين لك به الحكومة الأميركية وليس البنك، وهذا ينطبق أيضاً على ما تمثله العملات النقدية. وفي معظم البلدان، يعتبر امتلاك سندات الدَّين الحكومية أقل مخاطرة من سندات الدَّين الصادرة عن بنك تجاري، لا سيما أثناء فترات الذعر، ومن هنا جاءت المقولة الشعبية حول تخزين النقود تحت الفراش.
ولكن باستثناء الصين، التي يبدو أنها على وشك إصدار اليوان الرقمي، ما زال النقاش حول ما يسمى بالعملات الرقمية الخاصة بالبنك المركزي (CBDCs) ذا طابع نظري في معظمه حتى الآن. وينطبق هذا الكلام بالتأكيد على الولايات المتحدة، حيث صرَّح مسؤولون من الاحتياطي الفدرالي مراراً وتكراراً أن البنك المركزي لا يخطط لإصدار نسخة رقمية من الدولار. وقد يكون النقاش الآن حول هذه الفكرة في طور التطرق إلى جوانب عملية أكثر.
ولعل أفضل دليل على ذلك هو ورود مقطع في مسودة أولية من خطة الإغاثة الاقتصادية المقترحة من الديمقراطيين بمجلس النواب حيث إن هذه المسودة الأولية -شأنها شأن مشروع القانون الذي يبدو أن الكونجرس على وشك المصادقة عليه- قد دعت وزارة الخزانة الأميركية إلى تقديم دفعات نقدية لسكان الولايات المتحدة. لكنها دعت أيضاً الاحتياطي الفدرالي إلى إنشاء نظام عملة رقمية لتوزيع هذه الدفعات. ونصَّت على تكليف البنك المركزي بإتاحة "مَحافظ الدولار الرقمي" لجميع المواطنين والمقيمين الشرعيين الدائمين في الولايات المتحدة، وكذلك "الكيانات التجارية التي يقع مقر عملها الرئيسي في الولايات المتحدة".
وعرضت المسودة مفهوماً يسمى فيدأكاونتز (حسابات فدرالية) "FedAccounts". وحالياً، يقدم الاحتياطي الفدرالي حساباتٍ للبنوك فقط، لكن بمقتضى "الحسابات الفدرالية"، فإنه سيتيح إنشاء الحسابات لجميع الأميركيين. ونظراً لأن الولايات المتحدة لا تُلزم البنوك التجارية بتقديم حساب لأي شخص يرغب في ذلك، "فإن النظام المصرفي يستطيع استبعاد الأشخاص غير المُربحين"، على حد تعبير مورجان ريكس، الأستاذ في كلية فاندربيلت للحقوق، والذي شارك في تأليف البحث الأكاديمي الذي صاغ مصطلح "الحسابات الفدرالية" وطرح الفكرة في عام 2018. ويقول ريكس إنه يمكن للحكومة أن تحل هذه المشكلة عن طريق تحويل الخدمات المصرفية للأفراد إلى خدمة عامة.
وعلى الرغم من إلغاء فكرة الحسابات الفدرالية في نهاية المطاف، لكن حقيقة طرحها في مسودة مشروع قانون على هذا المستوى من الأهمية تشير إلى أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي تأخذ الفكرة على محمل الجد. بالإضافة إلى ذلك، ورد بالفعل اقتراحٌ بصيغةٍ مماثلة في مشروع قانون مصرفي جديد لمجلس الشيوخ غير مرتبط بالوباء.
لم تكن إزالة مقترح الدولار الرقمي من حزمة الإغاثة أمراً مستغرباً؛ حيث إن جاي ماساري، الشريكة في مكتب المحاماة Davis Polk & Wardwell في واشنطن العاصمة، الذي يمثل عملاء متنوعين بدءاً من البنوك الكبيرة ووصولاً إلى شركات التكنولوجيا المالية، تقول إن إنشاء نظام الحسابات الفدرالية سيكون "معقداً للغاية". وأضافت: "إنه مشروع تكنولوجي كبير، ويثير الكثير من الأسئلة القانونية من جميع الأنواع، ولا يُعتبر مشروعاً عملياً كوسيلة لإيصال دفعات التحفيز الفوري إلى الأفراد".
وترى ماساري أنه على الرغم من ذلك، وبعد أن قطعت الفكرة شوطاً كبيراً حتى الآن، فلن يكون من المفاجئ رؤيتها تنبثق من جديد في المستقبل وأن تحظى باهتمام أكثر جدية حينها.
يوافق ريكس على أن فكرة إطلاق حسابات فدرالية يجب ألا تكون ضمن أعلى قائمة أولويات الكونجرس في الوقت الحالي. ولكن من الناحية النظرية، يمكن أن تكون أكثر فعالية من الوسائل التي تمتلكها الحكومة الآن لتوزيع الدفعات النقدية خلال الأزمات الاقتصادية مثل هذه الأزمة، وفق تعبيره.
وقال مساعدون لنواب ديمقراطيين في مجلس الشيوخ لصحيفة نيويورك تايمز إنه بموجب الصفقة التي اتفق عليها قادة في الكونجرس، سيتمكن الأميركيون المستوفون لشروط معينة من الحصول على دفعاتهم النقدية عن طريق الإيداع المصرفي المباشر، شريطة أن تكون معلومات حساباتهم مدرجة ضمن ملفاتهم لدى دائرة الإيرادات الداخلية. ووفقاً لتقرير صحيفة نيويورك تايمز، فإنه في حال استيفاء هذه الشروط، ستصل الدفعات النقدية بعد أسابيع قليلة فقط من توقيع الرئيس على مشروع القانون ليصبح قانوناً. ولكن إذا لم تتوافر معلومات الحساب لدى دائرة الإيرادات الداخلية، فستأتي الأموال في هيئة شيك، وسيتوجب الانتظار لمدة قد تصل إلى أربعة أشهر قبل الحصول عليها.
يقول ريكس إن هذه الطريقة ليست مثالية لأنها تلحق ضرراً جسيماً بالأشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية. وقد قدرت المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع في عام 2017 أن 6.5% من الأسر الأمريكية "معزولة مصرفياً"، مما يعني أنه لا أحد في الأسرة يملك حساباً مصرفياً جارياً أو حساب ادخار. ورغم أنه يمكن للأشخاص الذين لا يملكون حسابات مصرفية استخدام خدمات صرف الشيكات، ولكن هذه الخدمات تفرض رسوماً. وهناك خيار آخر يتمثل في استخدام بطاقة Direct Express Mastercard التابعة لوزارة الخزانة، وهي بطاقة مدفوعة مسبقاً تستخدمها الحكومة بالفعل لتوزيع المستحقات. ولكن يقول ريكس إن هذه البطاقات ليست حلاً رائعاً هي الأخرى، لكونها غير قابلة لإعادة الشحن.
وفي النهاية، حتى لو كان من الممكن بالفعل تحسين النظام باستخدام الحسابات الفدرالية، فإن مثل هذا التغيير قد يتسبب في إحداث اضطراب كبير للنظام المصرفي في الولايات المتحدة. وتقول ماساري إنه من الصعب التنبؤ ببعض الآثار المحتملة؛ إذ إن البنك الاحتياطي الفدرالي لا يتمتع بخبرة في تقديم الخدمات المصرفية الفردية إلى ملايين الأشخاص. والسؤال: هل سيتجه الناس إلى استخدام هذه الخدمات؟ وإذا قاموا بذلك، فكيف سيكون تأثيره على طبيعة البنك الاحتياطي الفدرالي؟ وكيف سيؤثر على مفهوم البنوك التجارية؟ تقول ماساري: "سيكون ذلك التأثير هائلاً بالفعل".