هذا المقال مترجم بتصرف.
هذه المقالة هي الجزء الثاني من سلسلة إم آي تي تكنولوجي ريفيو حول الاستعمار بالذكاء الاصطناعي، وهي الفكرة التي تقول بأن الذكاء الاصطناعي أدى إلى ظهور نظام عالمي استعماري جديد. وهي مدعومة من قبل برنامج إم آي تي نايت لزمالة الصحافة العلمية ومركز بوليتزر.
- بماذا تشبه صناعة الذكاء الاصطناعي الاستعمار القديم؟
- منظومة المراقبة الخاصة في جنوب إفريقيا تعزز نظام فصل عنصري رقمي
كان من المفترض أن يكون هذا مجرد عمل مؤقت، ووسيلة لكسب قدر إضافي من المال وحسب. سجلت أوسكارينا فوينتيس أنايا اشتراكها في "أبين" (Appen)، وهي منصة لتصنيف بيانات الذكاء الاصطناعي، عندما كانت ما تزال تدرس في الجامعة بهدف الحصول على منصب جيد الأجر في صناعة النفط.
إلا أنه بعد ذلك، انهار الاقتصاد الفنزويلي. ووصل التضخم إلى مستويات فائقة الارتفاع، أما العمل المستقر الذي كان مضموناً فلم يعد خياراً متاحاً على الإطلاق. وهكذا، تحولت وظيفتها الإضافية إلى وظيفة بدوام كامل، وامتد ما كان مؤقتاً ليشمل المستقبل المنظور بالكامل.
واليوم، تعيش فوينتيس في كولومبيا، وهي واحدة من ملايين الفنزويليين المهاجرين واللاجئين الذين تركوا بلادهم بحثاً عن فرص أفضل. ولكنها مُحتَجَزة في المنزل، بسبب مرض مزمن أصابها بعد تأخرها في الحصول على الرعاية الصحية، وبسبب خوارزمية غامضة تملي عليها أوقات العمل ومقدار الأجر.
وعلى الرغم من تهديدات أبين بالردود الانتقامية، قررت أن تقول ما عندها كمصدر علني. وترغب في أن يفهم الناس طبيعة حياتها كجزء مهم من سلسلة تطوير الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، مع التعرض في نفس الوقت للاستغلال والطمس على الرغم من الفوائد التي يقدمها عملها. وترغب في أن يصبح الناس الذين يقومون بهذا العمل معروفين.
تصنيف بيانات الذكاء الاصطناعي
ليست أبين سوى واحدة من عشرات الشركات التي تقدم خدمات تصنيف البيانات لصناعة الذكاء الاصطناعي. فإذا اشتريت بعض البقالة على منصة "إنستاكار" (Instacar) أو بحثت عن عمل على "غلاسدور" (Glassdoor)، فمن المرجح أنك استفدت من عملية التصنيف هذه، والتي تجري في الخفاء. تعتمد معظم الخوارزميات التي تضخم الأرباح، والتي تمثل أساس مواقع التجارة الإلكترونية والمساعدات الصوتية والسيارات ذاتية القيادة، على التعلم العميق، وهو تقنية في الذكاء الاصطناعي تعتمد على كميات كبيرة من الأمثلة المصنفة لتحسين قدرات الخوارزميات.
وقد أدى الطلب الذي لا يمكن إشباعه إلى الحاجة لقاعدة عريضة من العمالة زهيدة التكاليف لتنفيذ العمل اليدوي في وضع العلامات على مقاطع الفيديو وتصنيف الصور وتحويل الصوت إلى كتابة. وتبلغ القيمة السوقية لتجميع وتنسيق هذا "العمل الشبحي"، وهو اسم شهير من ابتكار عالمة الأنثروبولوجيا ماري غراي وعالم الحوسبة الاجتماعية سيدهارت سوري، قيمة يُتَوَقع أن تصل إلى 13.7 مليار دولار بحلول العام 2030.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، تحولت فنزويلا التي اكتسحتها الأزمات إلى مصدر أساسي لهذه العمالة، فقد وقعت البلاد في أسوأ كارثة اقتصادية أصابت دولة في وقت السلم منذ نحو 50 عاماً، في فترة تزامنت تماماً مع التوسع السريع والمفاجئ للطلب على تصنيف البيانات. وبدأت مجموعات كبيرة من الأشخاص المتعلمين والمثقفين والمتصلين بالإنترنت، بالانضمام إلى منصات العمل الجماهيري كوسيلة للبقاء.
يقول فلوريان ألكسندر شميدت، وهو أستاذ في جامعة العلوم التطبيقية (HTW) دريسدين، وأجرى دراسات على صعود صناعة تصنيف البيانات: "لقد كان هذا التزامن أشبه بصدفة مرعبة".
اقرأ أيضاً: كيف تساعد إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي في رسم ملامح المدن الذكية؟
مصائب قوم عند قوم فوائد
لقد كانت أزمة فنزويلا حدثاً سعيداً لهذه الشركات، والتي تمكنت بفضلها من الحصول، وبشكل مفاجئ، على عمالة بتكاليف منخفضة بشكل يكاد يكون غير مسبوق. ولكن، وبالنسبة للفنزويليين من أمثال فوينتيس، فإن صعود هذه الصناعة سريعة النمو في بلادها أدى إلى نتائج متباينة. فمن جهة، كانت هذه الصناعة بمثابة شريان حياة لمن لا يمتلكون أي خيارات أخرى. ومن جهة أخرى، أدت إلى تعريضهم إلى الاستغلال مع تخفيض الشركات لأجورهم، وتعليقها لحساباتهم، وإيقاف برامج العمل، وذلك في سباق محموم لتحقيق المزيد من التخفيضات في تكاليف الخدمات لصالح وادي السيليكون.
يقول جوليان بوسادا، وهو مرشح للدكتوراه في جامعة تورونتو، ويدرس مصنِّفي البيانات في أميركا اللاتينية: "هناك اختلال هائل في النفوذ، فالمنصات هي التي تتخذ جميع القرارات، وهي التي تحدد قواعد اللعبة".
وبالنسبة لعدد متزايد من الخبراء، فإن هذه الهيكلية تعكس الماضي الاستعماري الذي قامت فيه الإمبراطوريات باستغلال عمالة البلدان الضعيفة واستخلاص الأرباح منها، ما أدى إلى زيادة إفقارها من الموارد التي تحتاجها للنمو والتطور.
والآن، وبعدما بدأت بعض المنصات بالتركيز على بعض البلدان الأخرى بحثاً عن مصادر أقل تكلفة للعمل، فإن هذا النموذج مرشح للانتشار، فما بدأ في فنزويلا تحول إلى مثال بين الأطراف المختلفة في صناعة الذكاء الاصطناعي حول مدى إمكانية تخفيض أجور خدمات كهذه، وأدى إلى ظهور مجموعة من القواعد المتفق عليها حول كيفية تحقيق الأسعار التي أصبح العملاء يتوقعونها منهم.
يقول شميدت: "لقد بيّن مثال فنزويلا إمكانية تحقيق هذه الظاهرة لدى اجتماع الفقر مع بنية تحتية جيدة. ومع انتشار الأزمات من مكان إلى آخر، فمن المرجح أن ينتقل هذا الدور إلى بلد آخر".
اقرأ أيضاً: هل سيصمد المال النقدي في وجه إغراء العملات الرقمية؟
العمالة منخفضة الأجور: سوق الشركات الكبرى المعتمد على الذكاء الاصطناعي
على مدى عقد من الزمن، كانت منصة العمل الجماهيري التابعة لشركة "أمازون" (Amazon)، والتي تحمل اسم "ميكانيكال تورك" (Mechanical Turk) أو "إم تورك" (MTurk)، هي المهيمنة في مجالها. تم إطلاق هذه المنصة في 2005، وتحولت بقوة الأمر الواقع إلى الوسيلة المعتمدة لدى الشركات للحصول على العمالة منخفضة الأجور، والمستعدة للعمل المجزأ. ولكن إم تورك كانت أيضاً منصة عامة، ولهذا، أدت إلى نتائج متباينة ولم تكن قادرة على ضمان حد أدنى من الجودة.
ومع انطلاق تقنية التعلم العميق في بدايات العقد الثاني من هذا القرن، ظهر جيل جديد من منصات العمل الجماهيري الأكثر تخصصاً، والتي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتي تسعى إلى ضمان دقة أعلى مع مقاربة أكثر انخراطاً مع العملاء والعاملين. وعندما أتت شركات السيارات في 2017، لم تكن تبحث عن أداء أفضل فحسب، بل كانت ترغب أيضاً بدقة 99% على الأقل. وهكذا، تراجعت إمكانية إم تورك، واحتلت المنصات المتخصصة محلها. كما لجأت بعض المنصات القديمة الأخرى، مثل أبين، إلى التكيف مع المقاربة الجديدة.
ومن أهم الشركات ضمن الشركات المتخصصة الجديدة (وما زالت كذلك) شركة "سكيل أيه آي" (Scale AI). تم تأسيس هذه الشركة في 2016 من قبل ألكسندر وانغ، والذي كان وقتها طالباً بعمر 19 سنة في إم آي تي، وتمكنت بسرعة من جمع عشرات الآلاف من عمال التصنيف، ووقعت عقوداً مع عملاء من كبار الشركات، والتي تتضمن حالياً قسم الأبحاث في شركة "تويوتا" (Toyota)، و"ليفت" (Lyft)، و"أوبن أيه آي" (OpenAI). وشعر المستثمرون بسعادة غامرة، فقد قال مايك فولبي الشريك العام في "إنديكس فينتشرز" (Index Ventures) في مقابلة مع "بلومبيرغ" (Bloomberg)، وذلك بعد الانضمام إلى عدة أطراف أخرى لاستثمار مبلغ إجمالي قدره 100 مليون دولار في الشركة: "من المؤكد أن تصنيف البيانات في مقهى إنترنت مكيف أفضل من العمل على عربة مكشوفة تسحبها بنفسك". وحالياً، وصلت قيمة سكيل إلى 7.3 مليار دولار. وفي فبراير/ شباط، تم اختيارها ضمن عدة شركات أخرى لتقديم خدماتها إلى وزارة الدفاع الأميركية ضمن اتفاق شراء كامل بقيمة 249 مليون دولار.
في البداية، حاولت سكيل اجتذاب المتعاقدين من الفيليبين وكينيا. وقد كان كلا البلدين خياراً بديهياً، حيث يتمتعان بتاريخ طويل من التعهيد الخارجي، وسكان يتحدثون الإنجليزية بشكل ممتاز، والأهم من ذلك، الأجور المنخفضة. ولكن، وفي نفس الوقت تقريباً، بدأت الشركات المنافسة مثل "أبين" (Appen) و"هايف مايكرو" (Hive Micro) و"مايتي أيه آي" (Mighty AI) (المعروفة أيضاً باسم "سبير فايف" (Spare5)) تشهد زيادة كبيرة في تسجيل الاشتراك من فنزويلا، وفقاً لبحث شميدت. وبحلول منتصف العام 2018، بلغ عدد الفنزويليين المسجلين في هايف مايكرو وسبير فايف تقديرياً 200,000 شخص، ما يمثل 75% من إجمالي قوة العمل في هاتين المنصتين.
على شاشة فوينتيس، يبين المتصفح سلسلة نشطة من المهام على أبين. ويعرض كل منها عنواناً مع اسم تعريفي لعميل مجهول الهوية، إضافة إلى عدد الوحدات التي قُسمت إليها، والمبلغ الذي يمكن أن تكسبه –والذي يساوي بضعة سنتات- لكل وحدة.
اقرأ أيضاً: كيف سيغير الميتافيرس مستقبل العمل في المؤسسات؟
منصات تقدم فرص عمل لمن يحتاجونها
وتتباين المهام إلى حد كبير، بدءاً من وضع الإشارات على الصور، إلى مراقبة المحتوى أو تصنيف المنتجات ضمن فئات (مثل تحديد ما إذا كان جسم معين في الصورة ينتمي إلى تصنيف "مجوهرات" أو "ملابس" أو "حقائب"). وقد أصبح هذا النوع الأخير من المهام مألوفاً للغاية، لدرجة أن فوينتيس لم تعد مضطرة لترجمة النص من الإنجليزية إلى الإسبانية. وبالنسبة لمهام أخرى، تعتمد للفهم على خدمة "جوجل ترانسليت" (Google Translate).
ولاستلام مهمة محددة، تنقر عليها، ويقوم النظام بعرض تعليمات العميل. في بعض الأحيان، تكون التعليمات واضحة، وفي أحيان أخرى، تكون غامضة. وأحياناً، لا توجد تعليمات على الإطلاق.
بالنسبة لأغلبية الفنزويليين، كان ترك البلاد أمراً مستحيلاً. أما الذين لجأوا إلى العمل في تصنيف البيانات، فلم يفعلوا هذا بسبب فقدانهم لوظائفهم فقط، بل أيضاً بسبب زيادة موجة الجرائم الناجمة عن الاضطرابات في البلاد، والتي أجبرتهم على الاعتكاف ضمن منازلهم.
ويقول بوسادا إن العمل على المنصات أصبح محط التركيز للكثير من العائلات على مدار الساعة. ففي بعض الأحيان، يتناوب الوالدان والأولاد العمل على حاسوب مشترك، وفي أحيان أخرى، تركز النساء على الاعتناء بالمنزل حتى يتمكن الرجال فيه من العمل على مدار الساعة.
ولكن، وكما كانت فوينتيس ستكتشف لاحقاً، بدأت الفرص المتاحة بالتراجع. فبعد توقف سبير فايف عن العمل وانتشار الوباء، بدأ عدد المهام على أبين بالتراجع مع انضمام المزيد من العاملين إلى المنصة. فمن قبل، كانت سلسلة المهام مليئة بشكل شبه متواصل على مدار الساعة، كما تقول فوينتيس. أما الآن فهي تزداد فراغاً، كما أن المهام تظهر بشكل عشوائي، وفي ساعات غريبة.
وفي هذه الأيام، تنتظر فوينتيس بقلق أمام حاسوبها، جاهزة للعمل على الفور. ففي بعض الأسابيع، لا تجني من استعدادها الفائق أي مبلغ، وفي أحيان أخرى تجني مبلغاً تافهاً لا يتجاوز 6 إلى 8 دولارات، بشكل لا يكفي للعتبة التي تسمح لها بسحب الأموال. وبين الحين والآخر، تظهر مهمة بأجر جيد، وتتمكن من جني 300 دولار في بضع ساعات.
وعلى التوازي مع صعود المنصات مثل سكيل، تسعى شركات أخرى في مجال تصنيف البيانات إلى تأسيس مستوى أفضل من ظروف العمل. وتقدم هذه الشركات نفسها على أنها بدائل أخلاقية، حيث تعرض أجوراً وحوافز ثابتة، وتدريباً جيداً على العمل، وفرصاً للتقدم المهني والترقية.
ولكن هذا النموذج ما زال يمثل جزءاً صغيراً للغاية وحسب من السوق. تقول ميلاغروس ميسيلي، وهي مرشحة للدكتوراه في جامعة برلين التقنية، وتدرس شركتين من هذه الشركات: "قد يؤدي هذا إلى تحسين حياة نحو 50 عاملاً، ولكنه لا يعني أن هذا النوع من الاقتصاد عندما يتم بناؤه سيكون قادراً على العمل لفترة طويلة".
اقرأ أيضاً: أهم 5 مخاطر ومسائل أخلاقية مرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي
وعادة ما تكون هذه الشركات مقيدة بجهات فاعلة أخرى مستعدة لخوض السباق نحو تقليل التكاليف. وللحفاظ على أسعار تنافسية، تقوم الشركات أيضاً بتجميع العمال من الشرائح السكانية الفقيرة والمهمشة –مثل الشباب منخفضي الدخل، واللاجئين، وذوي الهمم- وهم معرضون للاستغلال بنفس الدرجة، كما تقول ميسيلي.
تخشى فوينتيس أن تتخلى أبين عنها يوماً ما. وعلى الرغم من كل القلق والمعاناة، فما زالت ممتنة للغاية. وتقول وهي في غرفة الجلوس: "لقد تمكنت من البقاء بفضل هذه المنصة، وعلى الرغم من أن منصات أخرى توقفت عن الدفع، فقد كانت أبين موجودة على الدوام".
وفي نفس الوقت، تتمنى لو تدرك إدارة أبين مدى إخلاص عمالها لها، وتقوم بالمزيد لرعايتهم. وتقول: "آمل أن تتحول أبين إلى شركة تقليدية من ناحية التوظيف خلال أربع أو خمس سنوات، فهي تعرف أننا موجودون، وأننا يمكن أن نصاب بالمرض، وأننا بحاجة إلى الأمان والرعاية الصحية".
اقرأ أيضاً: كيف تساعد الروبوتات الذكية الممرضات على توفير الوقت والجهد؟
وتقول الناطقة باسم أبين كريستينا غولدن: "نحن فخورون بمساهمتنا ونعمل بجد لتحسين عملياتنا الداخلية وتوفير تجربة أفضل لهم، ونريدها أن تعرف أننا نعترف بوجودها ومساهمتها، ونتعاطف مع وضعها".