كانت الخيارات تبدو محدودة أمام "بول"، فهو يبلغ من العمر 82 عاماً، ويعاني شكلاً حاداً من سرطان الدم، إلى درجة أنه لم يستطع القضاء عليه بعد ست جولات من العلاج الكيميائي. ومع كل جولة طويلة ومضنية من العلاج، كان أطباؤه يستخدمون جميع أدوية السرطان المعروفة، واحداً تلو الآخر، على أمل أن يتمكن أحدها من علاج الحالة بفاعلية، ولكن انتهى المطاف بهم إلى شطبها دواء تلو الآخر. لم تتمكن الأدوية المستخدمة عادة في قتل السرطان من القيام بعملها.
وبما أن بول لم يعد لديه ما يخسره، قرر أطباؤه إشراكه في تجربة لجامعة فيينا الطبية في النمسا، حيث كان يعيش. كانت الجامعة تختبر تكنولوجيا مطابقة جديدة قامت بتطويرها شركة إكساينتيا (Exscientia) في المملكة المتحدة، والتي تقوم بإقران مرضى محددين مع الأدوية التي يحتاجون إليها، آخذة بعين الاعتبار الاختلافات البيولوجية الطفيفة بين الأشخاص.
اقرأ أيضاً: في عصر الذكاء الاصطناعي: كيف يمكنك العيش طويلاً؟
نهج جديد لتصميم الأدوية باستخدام الذكاء الاصطناعي
وهكذا، أخذ الباحثون عينة صغيرة من الأنسجة من بول (وهو ليس اسمه الحقيقي، فقد تم إخفاء هويته في التجربة). وبعد ذلك، قاموا بتقسيم العينة، والتي كانت تتضمن خلايا طبيعية وخلايا سرطانية، إلى أكثر من 100 عينة، وعرضوها إلى عدة تراكيب مختلفة من الأدوية. وبعدها، وباستخدام الأتمتة الروبوتية والرؤية الحاسوبية (تم تدريب نماذج تعلم آلي لكشف التغيرات الصغيرة في الخلايا)، راقبوا ما سيحدث.
ومن الناحية العملية، كان الباحثون يقومون بالشيء نفسه الذي كان الأطباء يقومون به، أي تجربة أدوية مختلفة لاكتشاف الدواء الفعّال. ولكن، وبدلاً من تعريض المريض إلى جولات متعددة لمدة أشهر من العلاج الكيميائي، كانوا يختبرون العشرات من العلاجات في الوقت نفسه.
وبفضل هذه المقاربة، تمكنوا من إجراء بحث مكثّف للعثور على الدواء الصحيح. لم تتمكن بعض الأدوية من قتل خلايا بول السرطانية. وأدّت أدوية أخرى إلى إيذاء خلاياه السليمة. وقد كان بول ضعيفاً للغاية إلى درجة لم تسمح له بأخذ الدواء الأكثر فاعلية. ولهذا، قدّم له الباحثون الدواء الذي حلّ في المرتبة الثانية في عملية المطابقة، وهو دواء سرطان تسوّق له شركة الأدوية العملاقة جونسون أند جونسون (Johnson & Johnson)، لأن التجارب السابقة أشارت إلى أنه لم يكن فعالاً في علاج السرطان من النوع الذي أصيب به.
ونجح الدواء. وبعد سنتين، وصل بول إلى مرحلة الشفاء الكامل، وزال السرطان تماماً. يقول الرئيس التنفيذي لشركة إكساينتيا، أندرو هوبكنز، إن هذه المقاربة تمثّل تغييراً كبيراً في علاج السرطان: "إن التكنولوجيا التي نستخدمها لاختبار الأدوية في العيادة تُتيح إحداث تأثير حقيقي على المرضى".
ولكن اختيار الدواء الصحيح لا يمثّل سوى نصف المشكلة التي تسعى إكساينتيا إلى حلها. فالشركة تسعى إلى إحداث تغيير شامل في عملية تطوير الأدوية. وإضافة إلى مطابقة المرضى مع الأدوية الموجودة، تستخدم إكساينتيا التعلم الآلي لتصميم أدوية جديدة. وهو ما قد يؤدي إلى المزيد من الخيارات التي يمكن أخذها بعين الاعتبار عند البحث عن الدواء الصحيح.
وقد دخلت الأدوية الأولى التي تم تصميمها بمساعدة الذكاء الاصطناعي مرحلة التجارب السريرية، وهي اختبارات صارمة يتم إجراؤها على المتطوعين البشر لدراسة الدواء من ناحية السلامة –والفاعلية الحقيقية- قبل أن تسمح الجهات المنظمة باستخدامه على نطاق واسع. ومنذ عام 2021، دخل دواءان طوّرتهما إكساينتيا (أو ساعدت على تطويرهما مع شركات أخرى) في هذه المرحلة. كما أن الشركة توشك على تقديم دواءين آخرين للبدء بالدراسة.
يقول هوبكنز: "لو كنا نستخدم الطريقة التقليدية، لما تمكنا من رفع الإنتاجية بهذه السرعة".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لنيوم أن ترسم مستقبل الذكاء الاصطناعي في المملكة العربية السعودية؟
مجال مزدهر لشركات التكنولوجيا الحيوية
ولكن إكساينتيا ليست الشركة الوحيدة التي تعمل بهذه الطريقة. فهناك المئات من الشركات الناشئة التي تدرس استخدام التعلم الآلي في صناعة الأدوية، كما يقول ناثان بانيك في شركة إير ستريت كابيتال (Air Street Capital)، وهي شركة رأس مال استثماري وتستثمر في شركات التكنولوجيا الحيوية وعلوم الحياة: "كانت الأدلة المبكرة مبشّرة بما يكفي لاجتذاب استثمارات كبيرة".
وحالياً، يتطلب تطوير دواء جديد وسطياً أكثر من 10 سنوات وعدة مليارات من الدولارات. وتقوم رؤية العمل الجديد على استخدام الذكاء الاصطناعي لجعل اكتشاف الأدوية أكثر سرعة وأقل تكلفة. وبالاعتماد على التنبؤ بكيفية تفاعل الأدوية المحتملة مع الجسم ونبذ المركبات التي لا أمل منها بالاعتماد على الحاسوب، يمكن لنماذج التعلم الآلي تخفيف الحاجة إلى العمل المخبري المضني.
وثمة حاجة دائمة إلى أدوية جديدة، كما يقول الرئيس التنفيذي لشركة الأدوية فيرسيون (Verseon) في كاليفورنيا، أديتيو براكاش: "ما زال هناك الكثير من الأمراض التي نعجز عن علاجها، أو التي نعجز عن علاجها دون التسبب بالكثير من الأعراض الجانبية".
وحالياً، يتم بناء مختبرات جديدة في أنحاء العالم كافة. ففي السنة الماضية، افتتحت إكساينتيا مركزاً بحثياً جديداً في فيينا، وفي فبراير/ شباط، افتتحت شركة إنسيليكو ميديسين (Insilico Medicine)، وهي شركة أدوية في هونغ كونغ، مختبراً جديداً كبيراً في أبوظبي. وبشكلٍ عام، يوجد على وجه التقريب 20 عقاراً (وما زال العدد في ازدياد) تم تطويرها بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وبدأت مرحلة التجارب السريرية، أو توشك على البدء.
"إذا قال لك أي شخص إنه قادر، وبشكل مؤكد، على التنبؤ بتركيبة جزيئة الدواء التي تستطيع عبور أحشاء المريض، فمن المرجّح أنه سيعرض عليك أيضاً أن يبيعك قطعة أرض على المريخ".
أديتيو براكاش، الرئيس التنفيذي لشركة فيرسيون
لقد شهدنا هذه الزيادة في العمل والاستثمارات لأن زيادة الأتمتة في صناعة الأدوية بدأت بإنتاج ما يكفي من البيانات الكيميائية والبيولوجية لتدريب نماذج تعلم آلي جيدة، كما يقول شون ماكلاين، وهو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة أبسي (Absci) في فانكوفر بواشنطن، والتي تعتمد على الذكاء الاصطناعي للبحث ضمن المليارات من التصاميم المحتملة للأدوية. يقول ماكلاين: "لقد حان الوقت، وسنشهد تحولاً ضخماً في هذه الصناعة على مدى السنوات الخمس المقبلة".
ولكن اكتشاف الأدوية باستخدام الذكاء الاصطناعي ما زال في بداياته. وثمة العديد من شركات الذكاء الاصطناعي التي تُطلق مزاعم لا يمكنها تحقيقها، كما يقول براكاش: "إذا قال لك أي شخص إنه قادر، وبشكل مؤكد، على التنبؤ بتركيبة جزيئة الدواء التي تستطيع عبور أحشاء المريض أو تستطيع مقاومة تفكيكها من قبل الكبد أو ما شابه ذلك، فمن المرجّح أنه سيعرض عليك أيضاً أن يبيعك قطعة أرض على المريخ".
اقرأ أيضاً: كيف يتسبب التغير المناخي بالملاريا؟ وكيف نوظف الذكاء الاصطناعي لمكافحتها؟
الحل السحري لم يأتِ بعد
كما أن هذه التكنولوجيا ليست حلاً سحرياً لكل داء، فالتجارب على الخلايا والأنسجة في المختبر، والاختبارات على البشر -وهي المراحل الأكثر بطئاً وتكلفة في عملية التطوير- ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها كلياً. "إنها توفر الكثير من الوقت. وتستطيع إنجاز الكثير من الخطوات التي كنا نضطر لتنفيذها يدوياً"، كما تقول لويزا سالتر سيد، وهي رئيسة القسم العلمي في بايونيرينغ ميديسينز (Pioneering Medicines)، وهي جزء من حاضنة الشركات الناشئة فلاغشيب بايونيرينغ (Flagship Pioneering) في كامبريدج بماساتشوستس. "ولكن عملية التحقق النهائية يجب أن تُجرى في المختبر". وعلى الرغم من هذا، فقد بدأ الذكاء الاصطناعي بتغيير كيفية صنع الأدوية. وقد نحتاج إلى الانتظار بضع سنوات قبل أن نرى أولى الأدوية المصممة بمساعدة الذكاء الاصطناعي في الأسواق، ولكن هذه التكنولوجيا ستحدث هزة في صناعة الأدوية، بدءاً من أولى مراحل تصميم الدواء وصولاً إلى عملية الموافقة النهائية.
ولكن الخطوات الأساسية في تصميم دواء جديد من نقطة الصفر لم تتغير كثيراً. ففي البداية، يجب أن نختار هدفاً يتفاعل معه الدواء ضمن الجسم البشري، مثل بروتين ما، ومن ثم يجب تصميم جزيء يؤثّر على هذا الهدف بطريقة معينة، مثل تغيير طريقة عمله، أو إبطال مفعوله بالكامل. وبعد هذا، يجب صنع هذا الجزيء في المختبر، والتحقق من أنه يقوم بعمله وفق التصميم المطلوب (دون أي آثار أخرى)، وأخيراً، يتم اختباره على البشر للتحقق مما إذا كان آمناً وفعّالاً.
وعلى مدى عقود كاملة، كان الكيميائيون يختبرون الأدوية المرشحة بوضع عينات من الهدف المختار ضمن عدد كبير من العبوات الصغيرة في المختبر، وإضافة جزيئات مختلفة إليها، ومراقبة التفاعلات الناتجة. وكانوا يكررون هذه العملية مرات عديدة، مع تعديل بنية جزيئات الأدوية المرشحة، مثل استبدال ذرة معينة بأخرى، وهكذا دواليك. لقد أدّت الأتمتة إلى تسريع العمل، ولكن النواة الأساسية لعملية التجربة والخطأ ما زالت موجودة، ويستحيل الالتفاف حولها.
اقرأ أيضاً: ليس خيالاً علمياً: الذكاء الاصطناعي صار قادراً على قراءة أفكارك
معضلة المختبر والجسم البشري
غير أن أنابيب الاختبار ليست أجساداً بشرية. فالكثير من جزيئات الأدوية التي يبدو أنها تقوم بعملها بشكل جيد في المختبر تثبت فشلها لاحقاً عند اختبارها على البشر. يقول مختص البيولوجيا ورئيس قسم الأعمال في إكساينتيا، ريتشارد لو: "يمثّل الفشل جوهر عملية اكتشاف الأدوية بالكامل، وتُعزى التكلفة العالية لصنع دواء ما إلى أن التوصل إلى دواء واحد يتطلب تصميم واختبار 20 دواء مختلف".
يركز هذا الجيل الجديد من شركات الذكاء الاصطناعي على ثلاث مراحل يمكن أن يتعرض فيها الدواء للفشل خلال عملية التطوير: اختيار الهدف الصحيح في الجسم، وتصميم الجزيء الصحيح للتفاعل معه، وتحديد المرضى الذين يرجّح لهذا الجزيء أن يكون مفيداً لهم إلى أقصى درجة.
وقد كانت التقنيات الحاسوبية، مثل نمذجة الجزيئات، تحدث تغييرات كبيرة في عملية تطوير الأدوية على مدى عقود كاملة. ولكن، حتى أكثر المقاربات فعالية تتضمن بناء النماذج يدوياً، وهي عملية بطيئة، ويمكن أن تؤدي إلى عمليات محاكاة لا تمثل ظروف العالم الحقيقي بدقة. وبوجود التعلم الآلي، وكميات هائلة من البيانات، بما فيها بيانات الأدوية والجزيئات، أصبح من الممكن بناء النماذج المعقدة آلياً. وهو ما يزيد من سهولة وسرعة التنبؤ بسلوك الدواء ضمن الجسم، ما يسمح بإجراء العديد من التجارب المبكرة ضمن البيئة الحاسوبية. كما تستطيع نماذج التعلم الآلي أيضاً دراسة أعداد هائلة من جزيئات الأدوية المحتملة وغير المُستَثمرة سابقاً، وبطريقة لم تكن ممكنة من قبل. أما الناحية الإيجابية لهذه التكنولوجيا هي أن العمل الشاق والأساسي في المختبر (وفي التجارب السريرية لاحقاً) أصبح مقتصراً فقط على تلك الجزيئات التي تتميز بأفضل احتمال للنجاح.
وقبل البدء حتى بمحاكاة سلوك الأدوية، بدأ العديد من الشركات بتطبيق التعلم الآلي على معضلة تحديد الأهداف. وتستخدم إكساينتيا وغيرها من الشركات معالجة اللغات الطبيعية للتنقيب عن البيانات من سجلات ضخمة من التقارير العلمية التي تعود إلى عقود مضت، بما فيها مئات الآلاف من السلاسل الجينية والملايين من الأوراق البحثية الأكاديمية المنشورة. ويتم ترميز المعلومات المستخلصة من هذه الوثائق في مخططات بيانية معرفية (knowledge graphs)، وهي طريقة لتنظيم البيانات عن طريق توضيح العلاقات بين العناصر المختلفة، بما فيها العلاقات السببية، مثل "A يسبب B". وتستطيع نماذج التعلم الآلي بعد ذلك التنبؤ بالأهداف الواعدة أكثر من غيرها، والتي يجب التركيز عليها عند محاولة علاج مرض معين.
اقرأ أيضاً: كيف تساهم شركات التكنولوجيا في تشكيل مستقبل الرعاية الصحية؟
معالجة اللغات الطبيعية تدخل الميدان
وعلى الرغم أن تطبيق معالجة اللغات الطبيعية على عملية تنقيب البيانات ليس بالفكرة الجديدة، فإن شركات الأدوية، بما فيها الكبرى منها، بدأت تستخدمها كجزء أساسي في عملياتها، وتأمل بأن تساعدها على العثور على الصلات التي يحتمل أن الباحثين البشر لم يتمكنوا من اكتشافها.
يقول نائب رئيس علم البيانات والذكاء الاصطناعي في شركة أسترازينيكا (AstraZeneca)، جيم ويذرول، إن استخدام الذكاء الاصطناعي للبحث ضمن كميات ضخمة من البيانات البيولوجية والطبية قد ساعده وفريقه على اكتشاف بضعة أهداف دوائية لم يكونوا ليكتشفوها بالطرق الأخرى. ويقول: "لقد أحدثت هذه التكنولوجيات فرقاً كبيراً، فلا يوجد شخص قادر على قراءة الملايين من الأوراق البحثية في مجال البيولوجيا". يقول ويذرول إن هذه التقنية كشفت عن صلات بين أشياء قد تبدو مستقلة عن بعضها بعضاً، مثل نتيجة جديدة ونتيجة منسية تعود إلى عقد من الزمن. يقول ويذرول: "يستطيع مختصو البيولوجيا أن يدرسوا بعد ذلك مدى صحة هذه الصلة". ولكن تقنية تحديد الأهداف ما زالت في بداياتها. ويقول إنه علينا أن ننتظر "بضع سنوات" قبل أن تصل أي أدوية تم اكتشافها من قبل أسترازينكا بهذه الطريقة إلى مرحلة التجارب السريرية.
غير أن اختيار الأهداف ليس سوى البداية. أما التحدي الأكبر فهو تصميم جزيء دواء يستطيع التأثير على هذا الهدف، وهنا يتركز الابتكار بأعلى مستوى.
فالتفاعلات بين الجزيئات ضمن الجسم البشري فائقة التعقيد. ويجب على الكثير من الأدوية أن تعبر مناطق تتسم بظروف شديدة القسوة، مثل الأحشاء، قبل أن تستطيع القيام بعملها. كما أن كل شيء خاضع للقوانين الفيزيائية والكيميائية التي تحكم هذه التفاعلات على المستوى الذري. وتهدف معظم المقاربات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتصميم الأدوية إلى التعامل مع هذا العدد الهائل من الاحتمالات والتوصل بسرعة إلى جزيئات جديدة تحقق أكبر عدد ممكن من الشروط.
تهدف شركة جينيريت بايوميديسينز (Generate Biomedicines)، وهي شركة ناشئة في كامبريدج بماساتشوستس، وتحظى بدعم فلاغشيب بايونيرينغ، إلى تحقيق هذا الأمر باستخدام النوع نفسه من الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي تعتمد عليه برامج تحويل النصوص إلى صور، مثل دال-إي 2 (DALL-E 2). وبدلاً من التلاعب بالبيكسلات، فإن برنامج جينيريت يعمل باستخدام سلاسل عشوائية من الحموض الأمينية ويكتشف طرقاً لثنيها وتحويلها إلى بنى بروتينية بخصائص محددة. وبما أن الشكل المنطوي ثلاثي الأبعاد للبروتين هو ما يحدد وظيفته، فهذا يعني عملياً إمكانية تصميم بروتين قادر على القيام بمهمة محددة. ومن الجدير بالذكر أن بعض المجموعات الأخرى، مثل مختبر ديفيد بيكر في جامعة واشنطن، تعمل على تطوير تقنيات مشابهة.
"يمكن للمرضى أن يتعرضوا إلى تجربة مريعة من الدخول إلى المستشفى والخروج منها، لعدة سنوات في بعض الأحيان، وتلقي العلاج باستخدام أدوية غير فعّالة".
ريتشارد لو، رئيس قسم الأعمال في إكساينتيا
اقرأ أيضا: ذكاء اصطناعي وروبوتات وعلم البيانات: كيف تتصدى التكنولوجيا لفيروس كورونا؟
تجارب حيوية للشركات ومريعة للمرضى
تسعى شركة أبسي أيضاً إلى صنع أدوية بروتينية جديدة باستخدام التعلم الآلي، ولكن وفق مقاربة مختلفة. فالشركة تستخدم النماذج المدربة على بيانات من تجارب مخبرية للتوصل إلى الكثير من التصاميم الجديدة للأجسام المضادة الموجودة من قبل –وهي بروتينات يستخدمها النظام المناعي لإزالة البكتيريا والفيروسات وغيرها من الجسيمات غير المرغوب فيها- حتى تلتصق على الأجسام الغريبة. وتقوم الفكرة على إعادة تصميم الأجسام المضادة الموجودة مسبقاً لجعلها أكثر فاعلية في الالتصاق بالأهداف. وبعد تعديل عمليات المحاكاة، يستطيع الباحثون تصنيع التصاميم الأفضل واختبارها.
وفي يناير/ كانون الثاني، أعلنت أبسي –والتي عقدت شراكات مع شركات أدوية أكبر، مثل ميرك (Merck)- أنها استخدمت مقاربتها في إعادة تصميم عدة أجسام مضادة موجودة مسبقاً، بما فيها جسم مضاد يستهدف البروتين الشوكي لفيروس سارس-كوف-2، وهو الذي يتسبب بمرض كوفيد-19، وجسم مضاد آخر لتثبيط نوع من البروتينات التي تساعد على نمو الخلايا السرطانية.
كما أن أبريوري بايو (Apriori Bio)، وهي شركة ناشئة أخرى مدعومة من قبل فلاغشيب بايونيرينغ، وتعمل في كامبريدج، قررت أيضاً أن تكافح مرض كوفيد، وهي تأمل على وجه الخصوص في تطوير لقاحات قادرة على حماية الناس من نطاق واسع من المتحورات الفيروسية. وتقوم الشركة بصنع الملايين من المتحورات في المختبر، وتختبر قدرة الأجسام المضادة التي تكافح كوفيد على الالتصاق بها. وبعد ذلك، تستخدم التعلم الآلي للتنبؤ بمدى قدرة أفضل الأجسام المضادة على مواجهة 100 مليار مليار (100 20: 100 كوينتليون أو 100 مرفوعة إلى القوة 20) متحور آخر. وتهدف هذه العملية إلى اختيار أفضل الأجسام المضادة الواعدة –أي التي يبدو أنها قادرة على مكافحة عدد ضخم من المتحورات، أو متحورات معينة مهمة- وتستخدمها لتصميم لقاحات مضادة للمتحورات.
تقول الشريكة في فلاغشيب بايونيرينغ والرئيسة التنفيذية لأبريوري بايو، لوفيسا أفزيليوس: "إن القيام بهذه العملية في المختبر مستحيل ببساطة، وليست هناك طريقة تسمح للدماغ البشري بتجميع كل هذه المعلومات بشكل صحيح لتحديد كيفية عمل النظام بالكامل".
وبالنسبة لبراكاش، فإن إمكانات الذكاء الاصطناعي مفيدة في هذه النقطة، فهي تفتح أمامنا عدداً هائلاً من الاحتمالات غير المسبوقة للبنى البيولوجية والكيميائية، والتي يمكن أن تتحول إلى مكونات لأدوية مستقبلية. وما إن يتم شطب الجزيئات المتشابهة للغاية، كما يقول براكاش، فإن جميع شركات الأدوية الكبيرة –أي ميرك ونوفارتيس وأسترازينيكا وغيرها- ستمتلك قائمة مكونات مؤلفة على الأكثر من 10 ملايين جزيء يمكن استخدامها لصنع الأدوية، سواء أكانت خاصة بشركة محددة، أم شائعة. ويقول: "هذا ما نقوم باختباره على مستوى الكوكب، أي الناتج الإجمالي لجهد الكثير من الكيميائيين على مدى السنوات المئة الماضية".
وعلى الرغم من ذلك، كما يقول، فإن عدد الجزيئات المحتملة التي يمكن استخدامها لصنع الأدوية، وفقاً لقوانين الكيمياء العضوية، هو 10 مرفوعة للقوة 33 (1033 أو ما يسمى ديسليون). وتشير بعض التقديرات إلى أن هذا الرقم أعلى بكثير، ويبلغ رتبة 10 مرفوعة للقوة 60 (1060: يسمى نوفمديسليون). يقول براكاش: "إذا قارنا هذا الرقم بعشرة ملايين، سنجد أن مجال بحثنا لا يمثّل حتى بركة ماء مقارنةً بمحيط من الاحتمالات الممكنة، بل هو أقرب إلى نقطة واحدة".
اقرأ أيضاً: ما الجديد بالنسبة للذكاء الاصطناعي في 2023؟
أهمية عمليات المحاكاة
وعلى غرار الشركات الأخرى، فإن شركة براكاش، فيرسيون، تستخدم تقنيات حاسوبية قديمة وجديدة لمسح هذا المحيط، وتوليد الملايين من الجزيئات المحتملة، واختبار خصائصها. وتتعامل فيرسيون مع التفاعلات بين الأدوية والبروتينات في الجسم على أنها معضلة فيزيائية، حيث تقوم بمحاكاة آثار الجذب والدفع بين الذرات، والتي تؤثّر على تراكب الجزيئات مع بعضها بعضاً. وعلى الرغم من أن عمليات المحاكاة هذه ليست جديدة، فإن فيرسيون تستخدم الذكاء الاصطناعي لنمذجة التفاعل بين الجزيئات بدقة أكبر. وحتى الآن، أنتجت الشركة 16 دواءً مرشحاً لعدد من الأمراض، بما فيها بعض الأمراض القلبية الوعائية، والأمراض المعدية، والسرطان. وقد وصل أحد هذه الأدوية إلى مرحلة التجارب السريرية، كما يتم الإعداد للبدء بالتجارب السريرية لعدة أدوية أخرى قريباً.
تكمن أهمية المحاكاة في أنها تُتيح للباحثين تجاوز الكثير من العمليات المتكررة والعشوائية والرتيبة التي عادةً ما تتميز بها عمليات تصميم الأدوية. وتقوم طريقة العمل التقليدية للشركات على صنع كميات من الجزيئات التي يأملون بأنها تتميز بخصائص معينة، واختبارها واحداً تلو الآخر. وباستخدام التعلم الآلي، يمكن للشركات بدلاً من هذا البدء بقائمة من الخصائص الأساسية الضرورية –المرمزة رياضياً- وإنتاج تصاميم لجزيئات تتمتع بهذه الخصائص، وذلك بضغطة زر واحدة. وهو ما يعني انقلاباً كلياً في المراحل الأولية من عملية التطوير، كما تقول سالتر سيد: "لم يكن القيام بهذا الأمر في بداية عملية التصميم ممكناً". وقد كان من المعتاد أن تقوم الشركة بصنع 2,500-5,000 مركب على مدى خمس سنوات عند تطوير دواء جديد. ولكن إكساينتيا صنعت 136 مركباً لأحد أدوية السرطان الجديدة لديها خلال عام واحد فقط.
يقول ويذرول: "تتمحور المسألة حول تسريع دورة الاستكشاف، وقد وصلنا إلى مرحلة تُتيح لنا اتخاذ المزيد من القرارات قبل أن نضطر إلى صنع أي جزيء فعلياً".
ولكن، ومهما كانت طريقة صنع الأدوية، فإنها ستخضع للاختبار على البشر في نهاية المطاف. وهذه المراحل النهائية من تطوير الأدوية، والتي تتطلب تجميع عدد كبير من المتطوعين، صعبة الإدارة، وتستغرق وقتاً طويلاً يصل إلى 10 سنوات وسطياً، كما يمكن أن يصل إلى 20 سنة. وتحتاج الكثير من الأدوية إلى عدة سنوات للوصول إلى هذه المرحلة، ومع كل هذا، تفشل في نهاية المطاف.
اقرأ أيضاً: مقابلة مع عالمة الذكاء الاصطناعي دينا قتابي عن المنزل الذكي وتكنولوجيا الرعاية الصحية
البدء من المريض لا المرض
لن يكون الذكاء الاصطناعي قادراً على تسريع عملية التجارب السريرية، ولكنه يمكن أن يساعد شركات الأدوية على تحسين احتمالات النجاح، وذلك بتقليل الوقت والتكاليف المطلوبة للبحث عن تراكيب مرشحة للأدوية الجديدة. فعند تقليل الوقت المطلوب لاختبار جزيئات الدواء التي لا طائل منها في الاختبار، ستصل المركبات المرشحة إلى مرحلة التجارب السريرية بسرعة أكبر. ومع تقليل التكاليف، لن تشعر الشركات بأنها مضطرة للاكتفاء بدواء لا يتمتع بدرجة الفاعلية المطلوبة.
كما أن تحسين اختيار المرضى يمكن أن يساعد على تحسين العملية. فمعظم التجارب السريرية تقيس الأثر الوسطي للدواء، وتأخذ بعين الاعتبار العدد الإجمالي للأشخاص الذين استفادوا من الدواء، والذين لم يستفيدوا منه. وإذا تحسن عدد كافٍ من الأشخاص بفضل الدواء في التجربة السريرية، يُعتبر الدواء ناجحاً. أما إذا كانت نسبة النجاح غير كبيرة بما يكفي، فعندها يعتبر الدواء فاشلاً. ولكن هذا قد يعني احتمال تجاهل المجموعة الصغيرة التي استفادت من الدواء.
يقول ويذرول: "إنها طريقة بدائية للغاية في العمل، وما نقوم به فعلياً هو العثور على مجموعة جزئية من المرضى الذين يمكن أن يستفيدوا إلى أقصى حد من الدواء".
وهنا يأتي دور تكنولوجيا المطابقة لدى إكساينتيا. يقول هوبكنز: "إذا تمكنا من اختيار المرضى بشكل صحيح، فسوف يؤدي هذا إلى إحداث تغيير جذري في النموذج الاقتصادي لصناعة الأدوية".
كما سيؤدي إلى تحسين كبير في حياة المرضى الذين لا يستجيبون للأدوية الأكثر انتشاراً، مثل بول. يقول لو: "يمكن للمرضى أن يتعرضوا إلى تجربة مريعة من الدخول إلى المستشفى والخروج منه، لعدة سنوات في بعض الأحيان، وتلقي العلاج باستخدام أدوية غير فعّالة، إلى أن تنتهي الأدوية التي يمكن أن يجربوها، أو يحصلوا على دواء فعّال في نهاية المطاف".
بعد أن وجدت إكساينتيا دواءً فعالاً لبول، أجرت دراسة علمية لاحقة. فقد أخذت عينات أنسجة من عشرات من مرضى السرطان الذين خضعوا لجولتين من العلاج الكيميائي على الأقل، وقامت بتقييم آثار 139 دواءً من الأدوية الموجودة حالياً على خلاياهم. وتمكنت إكساينتيا من تحديد دواء فعّال بالنسبة لأكثر من نصفهم.
والآن، تريد الشركة استخدام هذه التكنولوجيا في بناء مقاربتها الخاصة بها لتطوير الأدوية، حيث ستقوم بدمج بيانات المرضى في أولى مراحل العملية لتدريب الذكاء الاصطناعي بشكل أفضل. يقول هوبكنز: "بدلاً من البدء مع نموذج للمرض، يمكن أن نبدأ مع نسيج من المريض، إن المريض هو النموذج الأفضل".
حالياً، ما زالت أول دفعة من الأدوية المصممة باستخدام الذكاء الاصطناعي تشق طريقها عبر مسار التجارب السريرية. ويمكن أن تمر عدة أشهر، أو حتى سنوات، قبل أن يصل أول دواء إلى السوق بعد هذه المرحلة. ويمكن ألا تتمكن بعض الأدوية من اجتياز هذه المرحلة.
ولكن، وحتى إذا كانت هذه المجموعة الأولى فاشلة، فسوف تليها مجموعة أخرى. لقد تغير تصميم الأدوية إلى الأبد. يقول بينيش: "هذه ليست سوى أولى الأدوية التي بدأت الشركات بإجراء التجارب عليها، أما أفضل الأدوية، فقد تأتي لاحقاً".