يدرك القليل من المسافرين أننا، في صناعة النقل الجوي، ندرب طيارينا باستخدام أجهزة المحاكاة حصراً. وعندما يقبِل طيار جديد على القيام برحلته الأولى في طيارة حقيقية، فإنه يحمل معه الركاب الذين يدفعون أجرة الرحلة في الخلف.
أجهزة محاكاة الطيران القديمة
ولصنع أجهزة المحاكاة القديمة، نقتطع مقدمة الطائرة ونضعها على منصة متحركة الأرجل من نوع (6-degree-of-freedom)، ونجهزها بشاشات لعرض تسجيلات مرئية ينظر إليها الطيار كبديل عما يراه من النافذة الأمامية. تشغل هذه الأجهزة مساحة تساوي نصف بناء، وتزن بضعة أطنان وليست رخيصة إطلاقاً. حيث يكلفنا جهاز محاكاة من "المستوى د" (Level D) وهو الأعلى، حوالي 12 مليون دولار، بالإضافة إلى كلفة تشغيله. وعندما تصنع طائرة من طراز أحدث وتتوقف الشركات عن استخدام الطائرة القديمة تتبرع منشآت التدريب عادة بجهاز محاكاة الطائرة القديمة لمدرسة أو متحف أو ترميها مع المخلفات ببساطة.
لذلك، قد يبدو أنه يجب علينا الارتقاء إلى مستوى عالم الواقع الافتراضي، حيث يمكننا جعل الطيارين المتدربين يرتدون أقنعتهم ويختارون أي طائرة نريدها من قائمة طويلة على الشاشة. ولكن قطاعنا متشبث بأجهزة المحاكاة القديمة لدينا لأننا لا نرى أن تقنياتنا متأخرة، بل نظن أن فهمنا للعالم المادي متقدم.
أنا متأكد من أنك تعرف مكان كلّ شيء في مكتبك، حتى لو كانت الفوضى تعمّه. وستجنّ إن تجرأ أحد على ترتيبه، أو الأسوأ من ذلك: تنظيفه. فمساحة عملك الخاصة ليست مجرد مساحة عمل، بل هي امتداد لدماغك، والكثير مما تعرفه مخزّن فيها، وكذلك الأمر بالنسبة لقمرة القيادة. يعتقد إيد هاتشنز، الطيار والمتخصص في علوم الإنسان الإدراكية بـ "جامعة كاليفورنيا" في ساندييغو، أن قمرة القيادة تعادل عند الطيار فكرة المكتب تلك ذكرناها آنفاً. لقد كتب هاتشنز عن الطرق المتعددة التي يستخدم بها الطيارون محيطهم المادي لتخزين المعرفة، ويقول: "توجد في القمرة جميع تلك المعارف المجسدة". إحدى الحيل المفضلة هي وضع فنجان قهوة بلاستيكي على جهاز الهبوط أو المقبض القلاب لتذكيرهم إن صُرّح لهم بالهبوط. كما أن كتابة أرقام على بطاقات الملاحظات أمر شائع أيضاً. فنحن نضع الأشياء حيث يمكننا أن نجدها في حال دبت الفوضى وانفتحت أبواب الجحيم. عندما يملأ الدخان القمرة أستطيع تحريك يدي على اللوحة الجانبية المألوفة وإيجاد قناع الأكسجين والنظارات الواقية المخصصين لي دون الحاجة إلى لنظر. وذاك المزلاج الذي يبقيهم في مكانهم هو صديق قديم مألوف. هيا، فلتحاكِ ذلك.
التخطيط والتواصل في قمرة القيادة
قد تعتقد أن الطيار هو لاعب منفرد يشغل آلات التحكم بغضب وهي تصارع العواصف الرعدية. في الحقيقة، معظم ما يحدث في قمرة القيادة هو التخطيط والتواصل، ونقوم به معاً. ويمضي أفراد طاقم الطيران معظم وقتهم في التفاعل مع بعضهم ومع الطائرة، ولا يحصل ذلك شفهياً فقط، فتعابير الوجه والحركات تشكل جزءاً كبيراً من اللعبة. يقول هاتشينز: "عندما أراك تنظر إلى شاشة أعرف أن هناك أمراً منطقياً تريدني أن أقوله لك". عندما تُدخل أرقام ارتفاع جديد في جهاز القيادة الآلي، عندئذ تكون قد أخبرتني، أنا مساعد الطيار، أنك تريد مني التحقق مما أدخلته. وسأفعل ذلك عن طريق الإشارة بأصابعي باتجاه الارتفاع المنشود الذي أدخلته. وبذلك يتحقق عمل الفريق دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة. يتعلم الطيارون هذه التبادلات الصامتة في مقصوراتهم الضخمة المكلفة التي تم اقتطاعها من الطائرة. في حين لا يزال استخدام قناع الواقع الافتراضي من أجل محاكاة أشياء مثل النظرات المتبادلة العابرة وتعابير الوجه الدقيقة أمراً مستقبلياً لم يتحقق بعد.
إن قدرة الطيار على الإدراك ليست بصريةً فحسب، وإن قمت بقيادة الطائرة ستكتشف أنك تملك عضواً للحاسة السادسة: مؤخرتك. فأنا لن أتمكن من معرفة ما إن كانت الطائرة تنحرف ببطء عن الارتفاع المحدد بواسطة عينيّ وأذنيّ، ولكن مؤخرتي تعلّمت عن طريق أجهزة المحاكاة وفي الطائرات الحقيقية أن توضّح لي ذلك بصورة قاطعة. فالدلالات التي تستقبلها المستقبلات الحسية الداخلية وأعضاء الحواس تلعب دوراً مهماً في تعلمنا وأدائنا اللاحق. وقد درس الباحثون مدى إعداد أجهزة المحاكاة الثابتة الطيارين لقيادة طائرات حقيقية مقارنة بأجهزة المحاكاة ذات القواعد المتحركة. وحتى اليوم لم تُقدم أدلة مقنعة على إمكانية استبدال المنصات ذات القواعد المتحركة، والتي تعتبر تحفة فنية، بمنصة واقع افتراضي بصورة آمنة.
ولذلك وحتى الآن، سنتمسك بمقصورات القيادة الضخمة المكلفة ذات نظام الحركة الكبير المكلف.
عندما تغلق باب إحدى مقصورات المحاكاة خاصتنا، تشعر وكأنك داخل قمرة قيادة طائرة حقيقية، وحتى رائحتها مماثلة لرائحة مقصورة الطيارين الذين يشربون القهوة السيئة. وعندما تجلس وتدفع مقابض الدفع إلى الأمام وتشعر حاستك السادسة بالهدير، ستشعر بما قد يكون أهمّ شيء تقدمه لنا أجهزة المحاكاة، وهو الانسجام التام. وعندما ينحرف شيء ما في المقصورة، يتسارع النبض، ويزداد التعرّق، ولا يسعك إلا الشعور بأن حياتك على المحكّ. وبدأ الباحثون بتطوير مقاييس لمعرفة إلى أي مدى تستطيع واجهات الواقع الافتراضي جذب قلوبنا وأذهاننا بهذه الطريقة. كتبت تايلر رينشا، مقالاً فكاهياً عندما كانت في سنة تخرجها في جامعة "إمبري ريدل" للملاحة الجوية، في فلوريدا، عرضت فيه نسخة عن تجريب الدوران لواجهات الواقع الافتراضي. حيث تنجح واجهة الواقع الافتراضي بالاختبار عندما لا يتمكن المستخدم من التمييز بين المقصورة المحاكية والحقيقية. (ويقول لنا فلاسفة مثل نيك بوستروم: "إن حياتنا التي نعيشها قد تكون كلها عبارة عن محاكاة") أخبرتني رينشا أن مصممي الواقع الافتراضي يستخدمون الاستبيانات وحتى تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ من أجل قياس درجة انسجامنا مع أجهزة المحاكاة هذه. تقول: "تحاول خداعهم ليصدقوا أن هناك عواقب حقيقية ولكنك تحتاج إلى معدات معقدة لمعرفة ما إن كان الشخص خائفاً فعلاً".
"اختبار يا للهول"
حالياً، أستخدم نسخة معدلة من اختبار الدوران تسمى باختبار "يا للهول". في معظم الأحيان، يضحك الطيارون عندما يحدث شيء غير اعتيادي في جهاز محاكاة منخفض الدقة. ولكن عندما يحدث أمر غير اعتيادي في جهاز محاكاة من "المستوى د" (Level D)، يصرخ الطيارون دائماً ويقولون "يا للهول".
أشارت رينشا إلى طريقة أخرى تقدم بها أجهزة المحاكاة الحالية جمهوراً منسجماً، إذ تقول: "عندما نستخدم خوذة الواقع الافتراضي، فإن أول شيء نفعله عندما نشعر بالخوف هو انتزاعها عن رؤوسنا". لم أخف يوماً من قيادتي للطائرة، ولكن بصفتي معلم طيران، شعرت بالخوف في بعض الأحيان من قيادة الآخرين، ولم يكن الخروج من الطائرة خياراً عملياً في هذه الحالات.
وعندما يتعلق الأمر بالسلامة، فنحن نضع ثقتنا، وثقتكم أيضاً، في أجهزة محاكاة الطيران القديمة خاصتنا، ويجب علينا المتابعة بحكمة. خذ مني نصيحة: إذا فكرت بتحديث تقنيات التدريب لديك والحصول على التقنية الأحدث والأعظم، فعليك الآن التعمق أكثر فيما تقدمه لك أدواتك وبيئتك الموجودة لديك.