في متجر لبيع الطعام في العاصمة اللبنانية بيروت، وقفت فرح أمام البائع وسألته عن سعر نصف الكيلو من الجبن، فأجابها البائع: "ثمنه 20 ألف ليرة لبنانية"، ردت عليه الصبية -التي خسرت وظيفتها نتيجة فيروس كورونا- بنفور مصحوب بابتسامة ساخرة: "إذا اشتريت أكثر من غرض سأضطر في نهاية المطاف إلى بيع كليتي كي أتمكن من تسديد الفاتورة". ضحك البائع بقوة وأخبرها أن كل المواد الغذائية التي يبيعها حالياً للمستهلكين يعجز هو نفسه عن شرائها من صاحب المتجر.
ليس هنالك موقف أسوأ من رجل يتراجع عن قرار شراء علبة حليب لأطفاله لأن ثمنها وصل إلى 39 ألف ليرة بعدما كان ثمنها 12 ألفاً. هذا ما يحدث في لبنان، وثمة قصص أكثر بؤساً عن حياة اللبنانيين العالقة بين كورونا والضائقة المعيشية، كأن يُقدم أحد الأشخاص على حرق نفسه بسبب الفقر المدقع.
كثيرة هي قصص الجوع الذي يتخبط داخلها اللبنانيون نتيجة كورونا. وعلى سبيل المثال، عندما بدأ شهر رمضان، وصل سعر كيلو اللحم البقري إلى 40 ألف ليرة، وهو سعر لم يعهده اللبنانيون من قبل، ومن المتوقع أن يصل في الأسابيع المقبلة إلى 70 ألف ليرة.
حالياً، تسجل الليرة انهياراً غير مسبوق بعدما تخطى سعر صرف الدولار في السوق السوداء حدود 4000 ليرة، هذا وفي الوقت نفسه تعجز المصارف عن منح المُودعين أموالهم، خصوصاً أن أغلب اللبنانيين لديهم حسابات مصرفية بالدولار الأميركي. فلبنان الذي يعتمد على الدولار يعاني من اختفاء العملة الأميركية من السوق، وجاء فيروس كورونا ليحرف الأمور إلى مكان سيئ وخطير للغاية، ليأتي الأمن الغذائي اللبناني كأولى ضحايا فيروس كورونا الذي خلط أوراق الحياة المعيشية للمواطنين.
إنذار دولي لمنع حدوث مجاعة عالمية
في 22 أبريل الحالي أرسل المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، رسالة إلى الأمم المتحدة حذّر فيها من أن لبنان وسوريا وإثيوبيا والسودان والكونغو باتوا على مشارف مجاعة بسبب الأزمة المعيشية الناتجة عن جائحة كورونا.
يومياً، ينام 821 مليون شخص حول العالم من دون طعام، وتشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن فيروس كورونا دفع 265 مليون شخص إضافي من 55 دولة إلى حافة المجاعة. لقد فرضت جائحة كورونا حظراً تجارياً عالمياً على حركة الاستيراد والتصدير، الأمر الذي هدّد الأمن الغذائي لملايين البشر حول العالم.
الجوع مائدة اللبنانيين في رمضان
يعد 17 أكتوبر تاريخاً مفصلياً في الصراع المعيشي في لبنان؛ فقد شهد هذا الشهر على تحركات تطالب بتحسين الظروف الاقتصادية. وبعد هذا التاريخ، بدأت عشرات الشركات بإعلان إفلاسها، مما أدى إلى تضخم عدد العاطلين عن العمل.
في لبنان خسرت أموال الناس قيمتها الشرائية؛ الليرة باتت ورقة لا معنى لها. إلى الآن فقدت هذه العملة 80% من قيمتها، وبات الأمن الغذائي على شفير الهاوية. وبدأت الأزمة الاقتصادية هناك تتخذ مساراً مأساوياً تصاعدياً نتيجة انقطاع سلاسل التوريد الناجم عن جائحة كورونا.
في 22 فبراير الماضي أعلن البنك الدولي أن 40% من اللبنانيين باتوا تحت خط الفقر، وقد يرتفع الرقم إلى 70%. وبحسب بيانات الفقر المدقع في لبنان فإن أكثر من مليون شخص يعيشون يومياً على أقل من 6,000 ليرة، أي 4 دولارات فقط.
ولكن في الظروف العصيبة التي يمر بها اللبنانيون، تبقى القيمة التي يفرضها البنك الدولي محط تساؤل، خصوصاً أن مئات آلاف اللبنانيين يواجهون حالياً صعوبة في الحصول على الأموال مهما كان قدرها، وهو ما يمكن ملاحظته عبر رصد حملات التبرع المالي التي تحدث على منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى تنامي ظاهرة تأمين حصص غذائية لكمية هائلة من المواطنين.
ولبنان بلد معروف بسمته الاستهلاكية؛ إذ يستورد المواد الغذائية بنسبة 75% من 37 دولة، ويدفع سنوياً حوالي 20 مليار دولار لاستيراد المواد من الخارج. كذلك فإن ترهل القطاع الزراعي لطالما دفع التجار إلى استيراد الخضراوات والفاكهة والحيوانات من دول أخرى، وحالياً يلجأ التجار -من أجل توفير البدائل الاستهلاكية- إلى شراء البقر والأغنام والدجاج بأسعار مرتفعة جداً من المزراع اللبنانية التي تربي المواشي لإنتاج الألبان والجبن والبيض.
موجة تفشٍّ ثانية واستمرار تعطل سلاسل التوريد
ثمة خوفٌ من موجة تفشٍّ جديدة لفيروس كورونا؛ ففي السياق التاريخ للأوبئة، لا يوجد وباءٌ تم إخماده إلى الأبد من موجة تفشيه الأولى، هذا ما تقوله التقارير العالمية عن وباء سارس وميرس والطاعون والإيبولا.
تتداخل الأسباب التي تؤدي إلى موجة التفشي الثانية للفيروسات؛ حيث تحدث موجة انتشار الفيروسات الجديدة التي تلحق الموجة الأولى في إطارٍ يشبه التسونامي، ومن بين أسبابها: عدم تطوير الجماعات البشرية للمضادات الحيوية داخل أجسادهم.
كذلك تلعب الضائقة الاقتصادية التي تُلقيها الأوبئة على كاهل البلدان دوراً في حدوث موجات تفشٍّ جديدة؛ وذلك نتيجة تسرُّع الدول في تنفيذ سياسة رفع القيود المفروضة على الأسواق من أجل تنشيط الدورة الاقتصادية والتجارة، تماماً كما يحدث حالياً في الولايات المتحدة الأميركية وفي لبنان الذي بدأت حكومته تدريجياً برفع القيود عن حركة المواطنين.
يشير تقرير صدر عن "برنامج الأغذية العالمي" إلى أن معظم دول العالم ستشهد على موجة ثانية وثالثة من فيروس كورونا؛ مما يعني أن سلاسل التوريد العالمية ستستمر بالانقطاع إلى أجل غير مسمى.
يأخذنا التقرير إلى المناطق الحضرية البائسة في البلدان الأكثر فقراً، التي تشكل حالياً أزمة كبرى لناحية الأمن الغذائي؛ ذلك أن مجمل سكان المناطق الحضرية يعتمدون على المتاجر لشراء موادهم الغذائية، ويقول التقرير عن فيروس كورونا إنه أحدث "انخفاضاً مفاجئاً وكبيراً في القوة الشرائية، خاصة في البلدان الفقيرة".
كذلك تفيد تقارير الأمم المتحدة إلى أن حوالي 30 بلداً مقبلون على مجاعة، من بينها: لبنان والكونغو وأفغانستان وفنزويلا وإثيوبيا وجنوب السودان وسوريا والسودان ونيجيريا وهايتي. كذلك فإن حوالي 30 مليون شخص يعتمدون على الحصص الغذائية التي تقدمها المنظمات الإغاثية التي يتبعون لها، وفي حال استمر انقطاع سلاسل التوريد، فإن 300 ألف شخص سيموتون في غضون 3 أشهر فقط. كذلك دعا مسؤولون في الأمم المتحدة إلى تأمين 350 مليون دولار من أجل إنشاء شبكات نقل وتخزين لوجستية لمنع المجاعة.
وفي مطلع شهر أبريل المنصرم، وجّهت شركات غذائية كبرى نداءً إنسانياً لقادة العالم، حذرت فيه من انقطاع المواد الغذائية، ودعت إلى تعاون بين الدول والأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية من أجل إفساح المجال لتوريد المواد الغذائية بين الدول؛ كي لا تتحول جائحة كورونا إلى أزمة غذائية فادحة تُودي بحياة ملايين البشر.