رغم الظروف السيئة جداً التي فرضتها جائحة كورونا، غير أن السعادة ربما غمرت ذكرى مبرمجات راحلات صنعنَ لغة كوبول، التي تتسابق حالياً الشركاتُ التكنولوجية الكبرى لإيجاد مبرمجين متخصصين في برمجة هذه اللغة التي أبصرت النور عام 1960. ففي الوقت الراهن تنقب شركة آي بي إم الأميركية بحثاً عن مبرمجي لغة كوبول، وستعمل في المستقبل على تطوير اللغة ودعم مجتمع مطوريها.
في ستينيات القرن الماضي، قادت خمس مبرمجات أميركيات رحلة ابتكار لغة كوبول. بدأت القصة حين دعت ماري هاوس إلى إنشاء كوبول بعد ملاحظتها أن هناك حاجة إلى لغة تنظم العمل التجاري والمصرفي، وجذبت إلى فكرتها جاين ساميت صانعة لغة formac، وبيتي هولبرتن التي شاركت في صنع أول حاسوب للخدمات العامة وجيرترود تيرني التي شاركت في صنع أول حاسوب لآي بي إم، بالإضافة إلى مخترعة الروابط ولغة Flowmatic، جريس هوبر، التي ينسب إليها رسمياً اختراع كوبول.
كوبول وقبر برومبرج
عندما نبحث على جوجل عن أكثر لغات البرمجة استخداماً في ظل جائحة كورونا، سنلاحظ العودة القوية للغة كوبول. فقبل الجائحة، جرى تصنيف اللغة على أنها من إرث الحقبة الأولى للغات البرمجة؛ أي أنه عفا عليها الزمن ولا تستخدمها الشركات في صنع منصات التواصل الاجتماعي أو التطبيقات الحديثة.
وفي 1960، أرسل مطوّر البرامج هوارد برومبرج -الذي عمل في فريق كوبول- مجسماً على شكل قبر إلى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون)، وكان قد حفر عليه اسم كوبول، تعبيراً عن استيائه من الجو العام الذي نشأت في كنفه اللغة.
لم يكن برومبرج واثقاً من وجود أي مستقبل واعد لكوبول. وفعلاً كانت سنة 1980 مفصلية في تاريخ اللغة؛ فبعد هذا العام أخذت اللغة تندثر تدريجياً، وتوقفت الجامعات الأميركية والأوروبية عن تعليمها للطلاب، ولكن سطورها حافظت على وجودها داخل عالمنا التكنولوجي الحالي من خلال كمية كبيرة من السطور التي شارك في كتابتها عشرات المبرمجين، الذين إما ماتوا أو أصبحوا في مراحل متقدمة جداً من العمر.
إن ما فعله برومبرج كان من الممكن أن يبقى صحيحاً لو لم تحدث جائحة كورونا، التي كانت كاليد التي انتشلت اللغة من بين الأموات. لقد نفضت الجائحة الغبار عن اللغة، وتسعى آي بي إم حالياً إلى تطويرها وتحسين أدائها وجعلها أكثر مرونة من أجل استقطاب المزيد من الفئات الشابة إليها.
بقايا كوبول وأسباب عودة اللغة
سطور كوبول ما زالت تحتل حيزاً من عالمنا التكنولوجي؛ فحالياً يوجد 220 مليار سطر لكوبول قيد الاستخدام، غير أن بقاءها إلى زمننا الراهن ليس بسبب جودتها، بل يعود ذلك إلى أن تبديل كوبول ونقل موادها إلى لغات أخرى أكثر تطوراً سيكلف مئات المليارات من الدولارات.
لذلك نجد إلى يومنا هذا أن 47% من النظام المصرفي العالمي القائم و80% من المعاملات المالية الشخصية التي تجري عبر المصارف و85% من آلات سحب الأموال الخارجية بُرمجت عبر كوبول.
كذلك فإن السبب الرئيسي لعودة كوبول هو أن العديد من الولايات الأميركية ما زالت تنظم شؤونها الادارية عبر الحواسيب المركزية المحملة ببرامج تشفير قديمة. على سبيل المثال، برنامج دعم العاطلين عن العمل الذي استقبل في الآونة الأخيرة ملايين الاستمارات من أميركيين خسروا وظائفهم بسبب الجائحة.
إن الحديث عن سيطرة كوبول على الجانب التقني في المراكز الحكومية الأميركية تزامن مع ظهور كمية ضخمة من استمارات البطالة التي يحتاج تنظيم البيانات الواردة فيها إلى عدد كبير من المبرمجين المتمرسين بلغة كوبول.
حالياً تبحث معظم الحكومات المحلية في الولايات المتحدة عن مبرمجين مخضرمين في اللغة من أجل صيانة البرامج الحكومية وتسريع عملية تحميل البيانات، كذلك -وعبر إجراء بحث سريع على جوجل- نجد مئات الوظائف التي تبحث عن مبرمجين متخصصين في كوبول والحواسيب المركزية قد باتت شاغرة.
آي بي إم تبحث عن مبرمجي كوبول
في بيانها الرسمي قالت الشركة إن معظم عملائها يواجهون صعوبة شديدة في التعامل مع الواقع المستجد، فمعظم البنية التحتية الرقمية للنظام الصحي والحكومات المحلية والخدمات المالية -التي تم تشييدها منتصف القرن المنصرم- تعمل عبر الحواسيب المركزية، وتستخدم على وجه التحديد برنامج كوبول.
وقد لاحظت الشركة أن عملاءها يريدون توسيع نطاق عمل أنظمتهم للتعامل بسرعة مع الكم الهائل للبيانات، ولأجل ذلك أطلقت الشركة -بالتعاون مع لينُكس (Linux)- ثلاث مبادرات مفتوحة المصدر لتدريب مبرمجين على كيفية التعامل مع الحواسيب المركزية ولغة كوبول.
وتسعى آي بي إم إلى تأسيس منتدى يجمع مبرمجي كوبول السابقين بهدف تدريب الأفراد الجدد، وسيوفر المنتدى إمكانية التواصل مع المبرمجين ذوي الخبرة، وتمنّت الشركة على المبرمجين المتقاعدين الانخراط في المهمة واصفة إياهم بالمحاربين الأصليين.
وستوفر الشركة النظام البيئي الضروري الذي يحتاجه المبرمجون، كتوفير مصادر مفتوحة للشفرات عبر التعاون مع منصات جيت هب (github) وفيجوال ستوديو (visual studio) وكورسيرا (coursera)، وستتعاون الشركة مع جامعات من جميع أنحاء الولايات المتحدة لتكثيف الدورات والمحاضرات حول أهمية اللغة في المستقبل، وسبل تطويرها وجعلها أكثر مواءمة مع احتياجات السوق التكنولوجي المستقبلي.
لماذا انهارت كوبول؟
كان عام 2000 بمنزلة الأزمة المركزية التي أدت إلى تراجع الشركات عن استخدام كوبول والبحث عن برامج بديلة. يطلق على الأزمة إسم "Y2K"، وتتعلق بتنسيق وتخزين بيانات التواريخ عبر كوبول.
فكوبول يقوم على سبيل المثال بتمثيل عام 1978 عبر الرقمين الأخيرين من السنة أي 78. أواخر القرن الماضي ازداد الخوف من تمثيل البرنامج لعام 2000 عبر الرقمين 00، ما قد يؤدي تلقائياً إلى اختلاط بيانات عام 2000 بجميع قوائم تاريخ 1900.
الأخطاء التقويمية كلفت الشركات المستخدمة لكوبول مليارات الدولارات لإصلاح الخطأ، وقالت حينها شركة جارتنر (Garnter) إن إصلاح الثغرة الخوارزمية في البرنامج وإعادة دمج الخوارزميات الصحيحة سيتطلب حوالي 600 مليار دولار.
علاقة آي بي إم بكوبول
تمتلك آي بي إم براءة اختراع كوبول، ومن جهة أخرى، تتربع الشركة على عرش إنتاج الحواسيب المركزية. هذا النوع من الحواسيب يتم تحميله بنظام تشغيل على غرار نظام تشغيل ويندوز التابع لمايكروسوفت، وقد أنتجت آي بي إم عدداً كبيراً من أنظمة تشغيل الحواسيب المركزية كنظام تشغيل Z/OS أو Z/VSE المخصصَين لمعالجة بيانات الأعمال التجارية الكبرى، وتم فحص أداء كوبول للمرة الأولى في التاريخ عبر نظام تشغيل Z/VSE.
كما تمتلك الحواسيب المركزية وحدة معالجة مركزية، بالإضافة إلى وجود معالجات أخرى تساعد المعالج المركزي، وتتعاون جميعها على تنظيم بيانات سجلات تجارة التجزئة والجملة، وعمليات شراء تذاكر الرحلات الجوية والبرية، والمعاملات المالية التي تحدث عبر المصارف. ومن جهة أخرى تتمتع الحواسيب بقدرة استيعابية لمعالجة تيرا بايتات من البيانات.
ويتصل الحاسوب المركزي عبر الإنترنت بأجهزة كالتي نصادفها في متاجر بيع الملابس، أي حين نريد أن ندفع المستحقات المالية للتسوق، لأنها تمتلك أكثر من 1024 قناة فردية تنقسم إلى قسمين، القسم الأول يعمل كمدخل للبيانات، بينما يعمل القسم الآخر على إعادة إنتاج البيانات وإظهارها عند الحاجة، لذلك يمكن الوصول إلى مخزن البيانات عبر بطاقات الائتمان على سبيل المثال لا الحصر.
وقد بدأت آي بي إم تصدر على موقعها الرسمي دورياً ملفات تحتوي على إرشادات وشفرات لإصلاح ودعم البيئة التي يعمل عبرها البرنامج، ومن بينهم ملف يحمل إسم "PTFs"، يضم قائمة تحديثات لكوبول. وفي المقابل، ظهرت على يوتيوب مجموعة فيديوهات حديثة تعطي دورساً عن كيفية العمل عبر كوبول.