الروحانية الكمومية: علوم مزيفة تتفشى على تيك توك

6 دقائق
كيف هيمنت النظريات الكمومية على تيك توك؟
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز.

للوهلة الأولى، يبدو الفيديو كملخص إخباري عادي. يقول صانع المحتوى على تيك توك (TikTok)، سامي موغ: "إذاً، هناك علماء حازوا جائزة نوبل في الفيزياء". ومن ثم يبدأ التشويش في المقطع. ويقول موغ: "تقوم مخيلتك، حرفياً، بصنع حقلك الكمومي الشخصي الخاص بك، وتبني كل شيء من حولك". وبحلول نهاية المقطع، ناقش موغ مطابقة الرغبات وتجسيد التغييرات على الواقع وفق الذبذبات.

يعتبر فيديو موغ مثالاً كلاسيكياً على الروحانية الكمومية (أو الصوفية الكمومية) والتي تتضمن الربط ما بين مجموعة من المعتقدات الميتافيزيقية والرؤى الروحانية عن العالم مع علم ميكانيك الكم. ومن الأمثلة عليها "النظرية الكمومية" لديباك تشوبرا، والتي تقول إن البشر قادرون على التحكم بسرعة تقدمهم في العمر باستخدام قدراتهم الذهنية فقط. وعلى مدى السنوات، أعرب الفيزيائيون المختصون عن استنكارهم لما وصفوه بالتطبيق الخاطئ لمبادئ الفيزياء الكمومية على مواضيع المساعدة الذاتية التي لا تتعلق بها، أو وفق توصيف شهير من الفائز بجائزة نوبل من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، موراي غيل-مان: "هراء كمومي".

ولكن محتوى الهراء منتشر على نطاق واسع في تيك توك. فمقطع الفيديو الذي أنتجه موغ بعنوان "كيف تغير حقلك الكمومي" جزء من سيل من مقاطع الفيديو التي تحمل وسمي #QuantumPhysics و #NobelPrize على التطبيق، الوسمان اللذان جمعا أكثر من 207 ملايين مشاهدة على المنصة. وتزعم المئات من هذه المقاطع العلمية "الكمومية" أن علم الكونيات الكمومي يسمح للبشر بالانتقال الآني حرفياً من واقع إلى آخر، أو التواصل عن بعد مع ذواتهم في الماضي أو المستقبل.

اقرأ أيضاً: ما هو التشابك الكمومي؟ وكيف يستفيد قطاع التكنولوجيا منه؟

مقترحات "غير علمية" بطابع كمومي

وكمستخدم لتيك توك، ليس من السهل عليّ تفادي هذا العنصر الذي يحمل معاني روحانية. فإذا شاهدت مقطع فيديو لعالم مؤهل وهو يشرح ميكانيك الكم، فمن المرجح أن تبدأ مقاطع فيديو غير علمية حول ميكانيك الكم بالظهور ضمن المحتوى المعروض عليك. ويعود هذا إلى قيام خوارزمية تيك توك بتجميع مقاطع الفيديو التي يحمل محتواها نفس الطابع "الكمومي". إضافة إلى أن الإعلان عن جائزة نوبل للفيزياء مؤخراً زاد الطين بلة.

ففي 4 أكتوبر/ تشرين الأول، أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عن فوز كل من ألاين أسبيكت وجون كلوزر وأنتون زيلينغر بجائزة نوبل بسبب "إجراء تجارب ثورية باستخدام الحالات الكمومية، حيث يتصرف اثنان من الجسيمات كوحدة واحدة حتى بعد الفصل بينهما". وأشارت الأكاديمية إلى أن هذه التجارب، التي تعتمد على بحث للعالم جون ستيوارت بيل من الستينيات، فتحت الطريق أمام ظهور تكنولوجيات جديدة، مثل الحواسيب الكمومية. وبعد يومين، نشرت مجلة ساينتيفيك أميريكان (Scientific American) مقالة معمّقة حول كيفية إثبات هذه التجارب أن "الكون ليس حقيقياً بشكل موضعي".

وعند هذه المرحلة، بدأ منتجو تيك توك بنشر ملخصاتهم الموجزة. وعلى سبيل المثال، قام هانك غرين، المدون المرئي (مدون الفيديوهات) الشهير والمؤلف الذي حقق أعلى مبيعات الكتب، بنشر مقطع فيديو خاص به حول هذا الموضوع. "سأحاول أن أشرح لكم التشابك الكمومي دون أن أكذب عليكم".

هذا ما قاله غرين في منشوره، والذي حقق أكثر من 8 ملايين مشاهدة. ويكمل قائلاً: "إذا كان شرحي ناجحاً، فسوف تشعر بعدم الارتياح". وخلال فترة تكاد تصل إلى ثلاث دقائق، وصف غرين كيف قام العلماء بتحقيق التشابك بين إلكترونين يحمل كل منهما خاصية تسمى اللف الذاتي (spin). فعندما يتم قياس أحد هذين الجسيمين، يبدأ باللف حول نفسه في اتجاه واحد. أما الآخر فيلف بالاتجاه المعاكس على الفور، حتى لو كانت تفصل بين الجسيمين مسافة سنوات ضوئية. وكما يقول غرين في الفيديو، فإن هذه التجارب أثبتت أن أينشتاين مخطئ، وأنه من الممكن تمرير المعلومات بين الجسيمات الكمومية بسرعة تفوق سرعة الضوء.

اقرأ أيضاً: ما هي الخوارزميات المنيعة كمومياً؟ ولماذا نحتاجها؟

وقد أعرب العديد من العلماء من كافة أنحاء العالم عن إعجابهم بفيديو غرين. تقول المتحدثة العلمية التي تستخدم الراديو وتيك توك، وطالبة الدكتوراة في جامعة وولونغونغ في أستراليا، حيث تقوم بتركيب الجسيمات النانوية لعلاج سرطان الدماغ، أليس أوكيف: "لقد قدم أداءً رائعاً وجذّاباً للمشاهدين، وشرح لهم المفاهيم بدقة وبساطة دون ترك أي مجال للتأويلات الخاطئة التي تعتمد على العلوم المزيفة شائعة الانتشار".

ولكن، لا يمكن القبول بصحة جميع منشورات المحتوى حول جائزة نوبل على تيك توك دون تدقيق. ففي 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تم نشر مقطع فيديو بطول 7 ثوانٍ يتضمن امرأة شابة تتفاعل مع الكلمات التالية: "تم الإعلان عن جائزة نوبل لعام 2022، وهي تبرهن حرفياً أننا متصلون جميعاً"، وحقق انتشاراً سريعاً وصل إلى 2.4 مليون مشاهدة (قال أحد التعليقات على المنشور: "أخبريني أنك لا تفهمين الفيزياء، ولكن بطريقة غير مباشرة"). ويزعم مقطع فيديو آخر أن الفيزياء الكمومية تثبت أن الصوت البشري العادي قادر على التأثير في جزيء ضمن نجم يقع على حافة الكون. أهذا معقول؟ عندما سألت أوكيف عن هذا، قالت لي: "على غرار جميع الفيزيائيين، أنا أعارض تماماً ترويج الروحانية الكمومية، أو أي شيء يحمل مزاعم لا أساس لها على الإطلاق".

توصيف مقاطع الفيديو المزيفة

قد يكون من المفيد مقارنة أسلوب تيك توك المتراخي نسبياً بطريقة تعامل ويكيبيديا (Wikipedia) مع الروحانية الكمومية. فقد وضعت موسوعة الإنترنت الشهيرة قواعد أكثر صرامة بكثير حول توصيف العلوم المزيفة. ففي مقالتها حول "الروحانية الكمومية"، أوردت شرحاً عمن لا يؤمنون بهذه الروحانية، والذين يتمتعون بخبرة معرفية عالية، بأنهم يعتبرونها "علماً مزيفاً"، كما أوردت بعض التسميات السلبية مثل "الهذيان الكمومي" و"الهراء الكمومي". ويعود هذا إلى كون المجلات العلمية المحترمة –التي تمثل نوعية المصادر المطلوبة لمقالات ويكيبيديا العلمية- لم تعترف بهذه التفسيرات غير العلمية.

(ملاحظة جانبية سريعة: تم انتقاد محرري ويكيبيديا في الماضي لعدم وجود مقالات حول الفائزين بجائزة نوبل، ولهذا لم تكن هناك مقالة عن دونا ستريكلاند عندما فازت بجائزة نوبل للفيزياء في 2018. ولكن قبل إعلان الجائزة لعام 2022، كانت ويكيبيديا الإنجليزية تتضمن مقالات عن جميع الفائزين باستثناء واحد فقط).

هل يجب على تيك توك أن تحذو حذو ويكيبيديا، وتضع إشارات على مقاطع الفيديو حول الروحانية الكمومية لتوصيفها بأنها تنتمي إلى العلوم المزيفة؟ فمن ناحية، هناك حجة تقول إن هذه الطريقة ستلفت نظر المستخدمين إلى مسألة الدقة العلمية. فقد لا تمثل الروحانية الكمومية خطراً على الحياة مثل المعلومات المزيفة عن كوفيد-19، والتي أعلنت تيك توك أنها ستحظرها. ولكن إبلاغ المستخدمين بأن هذه المعتقدات الميتافيزيقية لا تنتمي إلى فئة العلوم المعترف بها سينشر المزيد من الوعي حول الآراء العلمية الصحيحة.

اقرأ أيضاً: كيف حصد تحدي البورسلين المزيف عدداً كبيراً من المشاهدات على تيك توك؟

أما من ناحية أخرى، فليس هناك إجماع حول الحد الفاصل بين العلوم الموثوقة والروحانيات، أو طريقة تعريف "العلوم المزيفة". لنعد إلى ذلك الفيديو سريع الانتشار بطول 7 ثوانٍ، والذي يزعم أن الفيزياء الكمومية "تبرهن حرفياً أننا متصلون جميعاً". لقد تم إنتاج هذا المقطع من قبل إيليف نارباي، وهي طالبة جامعية تدرس الكيمياء الحيوية، والبيولوجيا الجزيئية، وعلم الأعصاب، في جامعة تشابمان.

وعندما تواصلتُ معها، أخبرتني نارباي أنها لم تسمع بمصطلح الروحانية الكمومية، وقالت إنها تفضّل فكرة التوافق بين العلم والروحانية. وقالت في رسالة بالبريد الإلكتروني: "لقد أطلقت عبارة جريئة للغاية عندما قلت إن جائزة نوبل للفيزياء تبرهن أننا متصلون جميعاً، ولا شك أنها لا تبرهن هذا بشكل مباشر، ولكنني أعتقد أنها تشير إلى هذا الاتجاه". وبعد أن حقق مقطع الفيديو الخاص بها انتشاراً واسعاً وسريعاً، تفاجأت ببعض الردود المسيئة. فمن بين جميع الذين شاهدوا الفيديو سريع الانتشار، لم تتجاوز نسبة من شاهدوا الفيديو اللاحق الذي وصفت فيه فكرتها بمزيد من التعمق سوى 10%. وفي نهاية المطاف، قالت نارباي إنها متمسكة بما وصفته "نظرتها الفلسفية" الأصلية.

إذاً، أهي فلسفة أم علم مزيف؟ عندما ناقشت هذه الفكرة مع أوكيف –المتحدثة العلمية وطالبة الدكتوراة الأسترالية- بدت غير مرتاحة لاعتماد مقاربة ثنائية بشكل قاطع.  تقول أوكيف: "أعتقد أن التوجه العلمي البحت أمر خطر، حيث نقيّم كل شيء في العالم من حولنا وفق وجهة نظر حصرية تعتمد على وجود الدليل العلمي فقط. لقد بدأ العلم كفرع من الفلسفة، وما كانت الطريقة العلمية لتكتسب رسوخها الحالي لو لم نقم باختبار النظريات عن طريق طرح الأسئلة الصحيحة".

قالت لي أوكيف إنه لا شك في أن الروحانية الكمومية تبالغ في طروحاتها التي لا ترتكز على أي أساس، ولكن هذا لا يسمح للعلماء بالتعامل بفظاظة مع الناس ذوي التوجهات الروحانية. بل إنها قامت بنشر مقطع فيديو يحمل عنوان "دفاع براغماتي عن تجسيد العصر الجديد"، حيث تطرح الاحتمال أن ما يشير إليه بعض الروحانيين على أنه "تجسيد لواقعهم" يمكن تفسيره وفق العلوم الصحيحة على أنه تحيز إدراكي قد يحمل بعض الفائدة.

من وجهة نظر واقعية، لن تقوم تيك توك بحظر جميع منشورات محتوى الروحانية الكمومية قريباً. ولمَ تفعل هذا؟ فكل هذه الفيديوهات حول بشر يزعمون أنهم تمكنوا من "القفز الكمومي" من واقع إلى واقع آخر ولدت ملايين المشاهدات لمنصة التواصل الاجتماعي الجديدة، ما أدى إلى توليد عائدات بقيمة 4.6 مليار دولار في 2021.

اقرأ أيضاً: لماذا يحصل المحتوى المتعلق بالخرف على تيك توك على مليارات المشاهدات؟

وما يهم هو تطبيق المستخدمين لأدوات الوعي المعلوماتي (أو محو الأمية المعلوماتية) لقياس مصداقية المرجعية، ما يعني تذكر الهدف الأساسي لتيك توك. من الواضح أن تيك توك ليست ويكيبيديا، وليست بالمكان المناسب للعثور على عرض موجز موثوق عن ميكانيك الكم كما يفهمه العلماء. إنها بشكل أساسي منصة يستطيع فيها صناع المحتوى الاستجابة للأحداث الثقافية وتقديم وجهات نظرهم الخاصة حولها. وباستخدام المصطلحات الكمومية، يمكن أن نتوقع من تيك توك اللف الذاتي في أي اتجاه.

المحتوى محمي