إن السلاح الجديد المفضل لدى عددٍ متزايد من قوات الشرطة في مكافحة الجرائم حول العالم ليس المسدس الناري أو المسدس الصاعق أو رذاذ الفلفل، بل البيانات. ولكن هل بإمكان الخوارزمية الحاسوبية أن تساعد حقاً في الحد من الجريمة؟ أورد مارك سميث (من هيئة الإذاعة البريطانية BBC) هذا السؤال في أحد مقالاته على الموقع، وهو يجيب قائلاً:
تخيل أن تصل عصابة من لصوص البنوك إلى الموقع الذي ستُنفَّذ فيه عملية السرقة التالية، لتكتشف أن هناك وحدة استجابة مسلحة تنتظرها عند زاوية البنك. أو تصوَّر أنك تمشي في زقاق مظلم وأنت خائف، وإذا بالأضواء الزرقاء الباعثة على الطمأنينة تنبعث من سيارة للشرطة تم إرسالها لحراستك.
والآن، تخيل أن يصبح كل هذا ممكناً، بفضل الرياضيات!
منذ أن صدرت رواية "تقرير الأقلية The Minority Report" لمؤلفها فيليف ك. ديك -التي تحولت فيما بعد إلى أحد الأفلام الكاسحة لتوم كروز- في خمسينيات القرن الماضي، تناول الفلاسفة والمتنبئون بالمستقبل مفهوم "ما قبل الجريمة". وهي الفكرة القائلة بأنه يمكننا التنبؤ بموعد حدوث جريمةٍ ما، واتخاذ تدابير معينة لمنعها.
ووجود الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي الآن يعني أن هذا المفهوم قد قفز مباشرة من صفحات الخيال العلمي إلى العالم الحقيقي. وتزعم الشركة التقنية "بريدبول" -وهو اختصار للعبارة "الشُّرطة التنبؤية"- أن خوارزمياتها لتحليل البيانات يمكنها تحسين الكشف عن الجرائم بنسبة تتراوح من 10% إلى 50% في بعض المدن.
يتطلب الأمر سنوات من البيانات التاريخية، بما في ذلك نوع الجريمة، وموقعها ووقت حدوثها، وجمع هذه المعلومات مع الكثير من البيانات الأخرى ذات الطبيعة الاقتصادية الاجتماعية، ثم يتم تحليلها بعد ذلك بواسطة خوارزمية تم تصميمها أساساً للتنبؤ بالهزَّات الارتدادية التي تلي وقوع الزلازل.
ويحاول هذا البرنامج أن يتنبأ بالأماكن والمواعيد التي ستحدث فيها جرائم معينة على مدى الساعات الاثنتي عشرة المقبلة، ويتم تحديث الخوارزمية كل يوم عند ورود بيانات جديدة.
ويقول جيف برانتينجهام (المؤسس المشارك، وأستاذ علم الأجناس البشرية): "لقد استُلهِم بريدبول من تجارب أجرتها جامعة كاليفورنيا بالتعاون مع إدارة شرطة لوس أنجلوس".
ويضيف: "أثبتت تلك الدراسة أن التوقعات الموجهة حسابياً يمكنها التنبؤ بضعفي عدد الجرائم، وعند استخدامها ميدانياً، فإنها تساعد على منع جرائم بلغ عددها ضعفي ما تمنعه أفضل الممارسات الحالية".
ويتم عرض التنبؤات على خريطة باستخدام مربعات مرمَّزة لونياً، حيث يمثل كل منها 46 متراً مربعاً. ويتم تصنيف المربعات الحمراء على أنها "شديدة الخطورة"، ويتم تشجيع الضباط على قضاء 10% من وقتهم على الأقل حيث تتواجد هذه المربعات.
يقول الأستاذ الباحث برانتينجهام إن التعلم الآلي يسمح لبريدبول بتحليل البيانات، واستخلاص النتائج، وإيجاد الارتباطات بين كميات كبيرة من البيانات التي لا يمكن للمحللين البشر ببساطة أن يتعاملوا معها.
ولكن المشككين يصفون هذا الأمر بأنه علم زائف؛ حيث إن معالجة بيانات الجرائم لاتخاذ قرارات قائمة على المعرفة تتعلق بنشر قوات الشرطة ليس بالأمر الجديد، فعادةً ما كانت قوات الشرطة تستخدم "تحليل النقاط الساخنة"، حيث تكون الجرائم السابقة مسجَّلة ويتم تحميلها على الخريطة، مع تركيز الضباط على هذه المناطق.
ولكن بريدبول وغيرها من الشركات العاملة في هذا المجال -مثل بالانتير، وكرايم سكان، وشوت سبوتر ميشنز- تقول إن تحليل النقاط الساخنة التقليدي مجرد استجابة لما حدث بالأمس، وهو لا يتوقع ما الذي سيحدث غداً، في حين يمكن للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي أن يكتشفا أنماطاً لم يسبق لنا أنْ لاحظناها من قبل.
يقول الأستاذ برانتينجهام: "يوفر التعلم الآلي مجموعة من الأساليب لتحديد الأنماط الإحصائية في البيانات، التي لا يمكن وصفها بسهولة باستخدام النماذج الرياضية القياسية، أو أنها تتجاوز قدرات الإدراك الطبيعية عند الخبراء البشر".
كما أن ألكسندر بابوتا (الذي يعمل في مجموعة دراسات الأمن والاستقرار الوطني في معهد الخدمات المتحدة الملكي) يوافق على هذا الرأي، قائلاً: "إن تحليل النقاط الساخنة الذي يعتمد على المعلومات السابقة لا يميز ما بين نوعين من المواقع الخطرة، وهي: تلك التي تشهد معدلات عالية من الجريمة مع مرور الوقت لأنها ببساطة أكثر جاذبية للمجرمين (مثل مواقف السيارات غير المحمية ومناطق التسوق المزدحمة)، وتلك التي تزايدت فيها احتمالات الجريمة بشكل مؤقت بسبب وقوع جريمة قربها منذ فترة قريبة".
ويضيف قائلاً: "ولكن أساليب الشرطة التنبؤية التي تعتمد على التعلم الآلي تميز بين هذه الأنواع دون شك"، ومن المؤكد أن قوات الشرطة بدأت تقتنع بهذه الفكرة.
تستخدم أكثر من 50 دائرة شرطة في الولايات المتحدة برنامج بريدبول، إضافة إلى بعض من أقسام الشرطة في المملكة المتحدة. وقد صرَّح قسم شرطة كينت -على سبيل المثال- أن العنف في الشوارع انخفض بنسبة 6% بعد تجربة البرنامج لأربعة أشهر.
ويقول ستيف كلارك (نائب قائد شرطة سانتا كروز): "لقد وجدنا أن النموذج يتمتع بدقة عالية للغاية في توقع الأوقات والأماكن التي يحتمل وقوع الجرائم فيها، وعندها أدركنا أننا أصبحنا نمتلك سلاحاً فعالاً".
ولكن الشرطة التنبؤية لم تعجب الجميع، على ما يبدو. حيث تتساءل فريدريكه كالثونر (مديرة البرنامج في مجموعة الحقوق المدنية برايفاسي إنترناشيونال) عما إذا كان ممكناً -باستخدام البرنامج أيضاً- توقُّع عنف الشرطة والجرائم المالية والاقتصادية، أو أنه ببساطة سيُستخدم ضد مجتمعات تعاني -على حد قولها- من التهميش بشكل سابق.
تقول كالثونر: "لقد بدأنا ننتقل من مبدأ (كل متهم بريء حتى تثبت إدانته) إلى عالم جديد، حيث كل شخص بريء حتى يصبح موضع شك من قبل أنظمة تمتلكها الشركات ولا نعرف طريقة عملها، ويعتبر تحدِّيها صعباً إن لم يكن مستحيلاً".
هناك أيضاً بعض المخاوف حول بعض أنواع التحيز (مثل التحيز العرقي) التي قد تكون كامنة في مجموعات البيانات، وقد تعرضت دائرة شرطة لوس أنجلوس -التي كانت تعمل مع بالانتير في مشروع الشرطة التنبؤية- للكثير من الانتقادات من مجموعات الناشطين المحلية حول الأخطار التي يمثلها هذا العمل بالنسبة للحريات المدنية والتفرقة العرقية. إضافة إلى أن شركة راند -وهي معهد بحثي متخصص في السياسات- قد نشرت عدداً من الدراسات حول الشرطة التنبؤية.
ويقول جون هوليوود (محلل راند) إن التطورات الأخيرة في التقنيات التحليلية لم تؤدِّ إلا إلى تحسينات "صغيرة وتدريجية" في توقع الجرائم، بنتائج تتفوق على أسلوب تحليل النقاط الساخنة التقليدي بنسبة تتراوح من 10% إلى 25%. ويقول: "إن التقنيات الحالية لا تتفوق كثيراً على الطرق التقليدية من ناحية الدقة".
ويضيف قائلاً: "إن هذه الزيادة كافية من أجل تحسين قرارات توزيع قوات الشرطة، ولكنها أبعد ما تكون عن الصورة المنتشرة شعبياً حول حاسوب يقول لرجال الشرطة أن يذهبوا إلى مكان معين حتى يقبضوا على المجرمين بالجرم المشهود".
ولكنه يقول أيضاً إن زيادة كمية البيانات من كاميرات المراقبة المزوَّدة بتقنيات التعرف على الصورة والسلوك، إضافة إلى مستشعرات التقاط إطلاق النار والاقتحام، يمكن أن تساعد على تحسين دقة التقنيات التنبؤية.
وفي النهاية، يبقى على المواطنين أن يقرِّروا ما إذا كان تخفيض معدل الجريمة يستحق احتمال تعرض حرياتهم المدنية إلى الخطر في حال إساءة استخدام هذه التقنية من قِبل ذوي السلطة.