“هجرة الأدمغة” مشكلةٌ تعترض طريق الصين نحو الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي

3 دقائق
صورة مكاتب خاوية.

أحلامُ دولة عظمى
بذلت الصين على مدار الأعوام القليلة الماضية جهوداً مركّزة نحو سعيها لتصبح قوة محرّكة رائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد رأت العاصمة بكين، في وقت مبكرٍ عام 2012، أن هذا المجال بحاجة إلى اهتمام خاص، وبحلول العام 2017 أصدرت إستراتيجية وطنية مفصلة تتمحور حول تطوير هذه التقنية وتسخيرها لصالح البلاد.

جيشٌ من نتاج الوطن
في هذا السياق، أظهرت "جوي دانتونغ ما"، وهي مديرة مساعدة لدى مركز الأبحاث المتخصص في النمو الاقتصادي الصيني "ماكرو بولو" (MacroPolo) الذي يقع مقره في شيكاغو، في دراسة تحليلية جديدة أجراها المركز، أن هذا التوجه الآتي من فوق لأسفل (من الإدارة للعليا إلى الشعب) أثّر على مجتمع المواهب والكفاءات داخل قطاع الذكاء الاصطناعي. وقد حللت الدراسة مؤلفي الأوراق البحثية المقبولة لدى "مؤتمر نُظم مُعالجة المعلومات العصبية" (NeurIPS)، أحد أرقى المؤتمرات الدولية المرموقة المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي، وخَلُصت إلى وجود ارتفاع يقدر بعشرة أضعاف عدد المؤلفين الذين أجروا دراساتهم الجامعية في الصين خلال العقد الأخير.

ومع أن الدراسة وجدت أنه لم يكن هناك أكثر من نحو 100 باحث صيني في 2009 -وهو ما  يمثل نسبة 14% من إجمالي مؤلفي الأوراق البحثية المقبولة لدى هذا المؤتمر- إلا أن عددهم ارتفع ليناهز الألف باحث وباحثة بحلول العام 2018، أي رُبع إجمالي المؤلفين. وكشفت الدراسة أن أكبر زيادة حصلت في الفترة ما بين 2017 و2018، بعد صدور الإستراتيجية الوطنية الصينية الخاصة بالذكاء الاصطناعي، وترجع هذه الزيادة بشكل رئيسي إلى مُسارعة الجامعات الصينية من الدرجة الثانية إلى فتح تخصص الذكاء الاصطناعي ضمن صفوفها وإطلاق برامج ومقررات دراسية تمنح شهادات جامعية فيه.

لكن.. العقول هجرت
صحيحٌ أن الصين نجحت في تنمية عدد كبير من المواهب المحلية في هذا المجال، إلا أنها لم تنجح تماماً في الاحتفاظ بها؛ ذلك أن ما يناهز ثلاثة أرباع (75%) المؤلفين الصينيين الذين شملتهم الدراسة يعملون حالياً خارج الصين، وحوالي 85% من هؤلاء يعملون في الولايات المتحدة الأميركية، إما لدى الشركات التقنية العملاقة مثل جوجل وآي بي إم، أو لدى الجامعات المرموقة مثل جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس، وجامعة إلينوي أوربانا شامبين.

أهمية القضية
تعتبر "المواهب" هي العنصر ذا الأثر الأعظم من بين العناصر الرئيسية الأربعة التي تكوّن أي منظومة متكاملة لقطاع الذكاء الاصطناعي في إحدى البلدان؛ والتي تتمثل في: المواهب، والبيانات، ورأس المال (الاستثمارات)، والعتاد. هذا لأن حشد الخبرات هو الذي يحدد ما إن كان أصحاب المهنة سيوجهون طاقاتهم أكثر نحو الأبحاث النظرية في الذكاء الاصطناعي أم نحو تطبيقاته. كما يعتبر عنصر "المواهب" أيضاً هو المحرّك الرئيسي الدافع لعجلة الابتكار في حقلي الخوارزميات والعتاد، وهما العاملان اللذان لهما أهمية كبيرة في تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل، أكثر من عامل توافر البيانات على سبيل المثال.

وبهذا الصدد، أظهرت الدراسة التحليلية أن الاستثمارات التي ضختها الصين في المجال لا تكفي لبناء قدراتها البشرية طويلة الأجل اللازمة للتربع على عرش الريادة عالمياً في حقل الذكاء الاصطناعي. والحكومة الصينية على دراية بهذه المشكلة، وقد شرعت بالفعل مؤخراً في اتخاذ بعض الخطوات لمعالجتها؛ من بينها ما نصت عليه في إستراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي، الصادرة عام 2017، التي تشير إلى بذل ما في الوسع لاستقطاب نخبة العلماء الصينيين في المجال ليعودوا للوطن، من خلال توفير رواتب تنافسية ومزايا وظيفية مُغرية وغيرها من الحوافز. وعلى الضفة الأخرى، استفادت مكانة الولايات المتحدة بصفتها بلداً عالمياً رائداً في الذكاء الاصطناعي إلى حدٍّ بعيد من تدفق العلماء الصينيين إليها، حتى مع تعارض هذا التدفق مع سياسات الإدارة الحالية للبلاد التي تحاول تقليل التعاون العابر للبلدان في مجال تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وتُعلّق المديرة "ما" على هذا بقولها: "إنه وضع مؤسف للغاية؛ فالكثيرون يرونه سباقاً لا يمكن إلا لطرف واحد فقط الفوز به". وتشير "ما" إلى أن تدفق المزيد من العلماء سيفيد كلا البلدين: الصين والولايات المتحدة على حدٍّ سواء، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز القدرات البشرية في قطاع الذكاء الاصطناعي في كلا البلدين، الأمر الذي سييسّر بدوره عملية إرساء معايير عالمية نحن في أمسّ الحاجة إليها لنبني عليها مدونة سلوكٍ أخلاقي لاستخدامات الذكاء الاصطناعي.

ولتوضيح كيفية استفادة كلا البلدين، تقول "ما" إن الكثير من الباحثين الصينيين ينالون شهادة الدكتوراة في الولايات المتحدة، ثم يعودون إلى الصين ليقضوا الفترة الأولى من حياتهم المهنية، ثم يعودون للولايات المتحدة لمتابعة تطورهم الوظيفي. وتختتم كلامها قائلة: "إن هذا النوع من الحراك يفتح أمام الباحثين والباحثات البابَ للتعاون في تأليف دراسات مشتركة في بلدان متعددة، مما يفسح المجال أمام البشر ليناقشوا بشكل أوسع أفضل الممارسات التي ينبغي اتباعها في هذا القطاع الحيوي".