في زمنٍ أصبحت فيه النماذج اللغوية تُنتِج صوراً تُبهر، ونصوصاً تُقنِع، ومشاهد فيديو تُحرِّك الوجدان، بل وتخطُّ القصص وتُصمِّم لوحات تظنها لوهلة أنها من صُنع فنان محترف له باع طويل في الرسم! هنا يبرز تساؤل مُحق، بل وشائك نوعاُ ما، يتعدى حدود التقنية ليصل إلى مفهوم أعمق وأكثر تعقيداُ! إلى مَن تعود ملكية هذه الأعمال؟ هل هي نتاج نموذج لغوي ذكي مجرد أم تعبير عن روح المبدعين الذين صاغوا الأوامر التي قادت إلى ظهور النتائج؟
كما ذكرتُ قبل قليل، إن الأمر شائك والجواب معقد بعض الشيء. على سبيل المثال، إن أي نتاج إبداعي من الذكاء الاصطناعي سبقه إبداع شخص ما في كتابة التوجيه والمطالبة التي قادت للنتيجة، وترافق معه عمل النموذج اللغوي! ربما لا يمكن الفصل بين الاثنين، ولكن ربما يتبادر إلى أذهاننا سؤال آخر! هل المُنتَج بحدِّ ذاته عابر للملكية، بلا حدود قانونية؟
حقيقة ثمة فرق جوهري بين أمر بسيط يُدخَل إلى نموذج ذكاء اصطناعي مثل: "أنشئ صورة قطة" وأمر دقيق مفصّل يتضمن تحديد أسلوب الرسم والخلفية والإضاءة والحالة الشعورية وزاوية التصوير. هنا لا يمكننا إنكار أن مَن كتب الأمر الثاني مارس ضرباً من ضروب الإبداع؛ مزيج من التذوُّق الفني، واللغة الدقيقة، والقدرة على توجيه "خيال اصطناعي" جامح.
اقرأ أيضاً: لندق ناقوس الخطر إذا لم يُدمَج الذكاء الاصطناعي في التعلُّم والتعليم
تعقيباً على ما سبق، يبرز دور مهندس الأوامر وأهميته في دقة النتيجة وسلامتها، إذ يُعدُّ اختيار الكلمات وتحديد النبرة والأسلوب أمراً محورياً في كتابة الأوامر، إذ يمكن لتغيير بسيط في الصياغة أن يحوِّل استجابة الذكاء الاصطناعي من جواب تقليدي إلى نصٍّ يحمل عمقاً أدبيّاً، بل وتحليلياً، كذلك يمكن للإبداع في كتابة الأوامر أن يشمل وضع إطار سياقي واضح يتضمن تفاصيل دقيقة حول البيئة أو الشخصيات أو المشاهد، إن كان المشروع أدبياً أو سردياً، وتفاصيل دقيقة حول المشاريع العلمية والأبحاث والمقالات بمختلف أنواعها وسياقاتها.
لا يخفى على أحد أن النماذج اللغوية وحدها لا تكفي لنتيجة مميزة، فعلى الرغم من الإمكانات الهائلة، فقد يواجه المبدعون تحديات في صياغة أوامر دقيقة ومتوازنة؛ إذ يجب أن يكون الأمر موجزاً بما يكفي لتجنب الغموض، وفي الوقت نفسه غنياً بالمعلومات والإشارات التي تدفع الذكاء الاصطناعي نحو إنتاج نتائج متميزة. في هذا السياق، يشبه دور مهندس الأوامر دور المخرج السينمائي أو الشاعر الذي لا يمسك بالريشة، لكنه يُخرِج من الكلمات كائناً بصرياً ذا حضور، فهل يحق لهذا الشخص أن يطالب بملكية ما أخرجه ذكاء لا وعي له؟ يكمن الفرق هنا أنه يمتلك فريقاً مميزاً من المنفذين وهم وكلاء الذكاء الاصطناعي.
بعد هذه المقدمة الموسعّة، هل يمكن اعتبار النتيجة ملكاً لمبدعها مهندس الأوامر أمْ أنها مجرد نتيجة مشاع لا حقوق ملكية لها لأن من نفَّذها هو نموذج ذكاء اصطناعي لغوي؟
تعيش النُظم القانونية في العالم لحظة ارتباك لم تعرفها من قبل، إذ لا توجد سوابق قانونية راسخة، ولا تشريعات واضحة تحدِّد إلى مَن تعود ملكية المحتوى الناتج عن الذكاء الاصطناعي. يُشكّل موضوع ملكية الإبداع في عصر الذكاء الاصطناعي تحدياً قانونياً متكاملاً يدعو إلى إعادة تقييم الأطر القانونية الراسخة وتطوير نظم تتماشى مع الإبداع الذي تولده التكنولوجيا الحديثة مع الحفاظ على توازن حقوق الأطراف المختلفة وتوفير الحماية المناسبة للإبداع في أشكاله كافة، لكن يمكن رصد 3 اتجاهات رئيسية:
لعل الاتجاه الأول، حقوق الملكية لمهندس الأوامر، إذ يرى هذا الاتجاه أن مَن يكتب الأمر الإبداعي هو المؤلف الحقيقي، باعتبار أن الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تنفيذ لا أكثر. تماماً كما يُنسب العمل المعماري إلى المصمِّم، لا إلى الحاسوب الذي حوَّل المخطط إلى رسم ثلاثي الأبعاد، بينما يرى اتجاه آخر أن الملكية هي للنموذج اللغوي، إذ تُعدُّ بعض الشركات الكبرى نفسها المالكة لكل ما يُنتج من خلال نماذجها، وتضع ذلك بوضوح في شروط الاستخدام وتُضيف علامة مائية لها، فهي ترى أن الفضل يعود إلى بنيتها الهندسية، أي إلى الكود، وإلى النماذج المدربة، لا إلى مَن كتب بضع كلمات أمام الشاشةـ وأخيراً ثمة رأي ثالث يذهب إلى أن الناتج لا يملك مؤلفاً إنسانياً بالمعنى القانوني، وبالتالي لا يحق لأحد المطالبة بملكيته، وهذه الرؤية منتشرة خاصة في الدول التي لا تعترف بأي إنتاج ذكي على أنه "مصنف محمي" ما لم تكن هناك مشاركة بشرية مباشرة.
أعتقد بشدة أنّ العالم يتجه -شاء أم أبى- نحو إعادة تعريف الملكية الفكرية، إذ سيصبح الذكاء الاصطناعي يوماً ما مشاركاً دائماً في الإنتاج المعرفي والثقافي والاقتصادي، ولذلك أجد أنه من الضروري: وضع نماذج ترخيص جديدة تأخذ في الحسبان دور مهندس الأوامر، وتمييز المنتجات التي تعتمد على أوامر معقدة ومفصّلة عن تلك الناتجة عن أوامر سطحية، وصولاً إلى إيجاد صيغة قانونية هجينة تعترف بمشاركات المستخدم والمطور والنموذج في آنٍ واحدٍ، كل بنسبة عادلة.
اقرأ أيضاً: هل ستفقد جوجل سيطرتها على عالم محركات البحث لصالح أوبن إيه آي؟
نحن أمام لحظة مشابهة لما حدث عند اختراع الكاميرا، ثم الحاسوب، ثم الإنترنت. تفرض كل أداة جديدة إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان وأدواته، فالإبداع في كتابة أوامر الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقاً لا حدود لها للتجديد والابتكار، إذ يُتيح لنا كأفراد ومجتمعات استغلال قدرات النماذج الذكية لتحقيق تفاعل إبداعي يتجاوز مجرد معالجة البيانات.