كان من المفترض أن نشهد إطلاق محركات البحث التي تعمل ببوتات الدردشة منذ فترة قريبة. وتقول الفكرة العامة إن هذه البوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي ستحدث تغييراً كبيراً في تجربتنا في البحث على الويب، وذلك بتوليد إجابات حوارية لأسئلتنا، بدلاً من مجرد عرض قوائم من الروابط كما تفعل محركات البحث الحالية. ولكن، يبدو أن الأمور لم تسر وفقاً للخطة.
فبعد ثانيتين تقريباً من قيام شركة مايكروسوفت (Microsoft) بفتح المجال أمام الناس لتجربة محرك البحث بينغ (Bing) الجديد الذي يعتمد على تشات جي بي تي (ChatGPT)، اكتشف الناس أنه يجيب عن بعض الأسئلة بإجابات خاطئة أو فارغة من المعنى، مثل نظريات المؤامرة. أما جوجل (Google) فقد نالت حصتها من الإحراج عندما اكتشف بعض العلماء أخطاء واقعية في إعلان الشركة حول بوت الدردشة الخاص بها بارد (Bard)، وهو ما أدى لاحقاً إلى هبوط مدوٍ في قيمتها السوقية بمقدار 100 مليار دولار.
وما يزيد من الصدمة إزاء كل هذا هو أن كل ما حدث لم يكن مفاجئاً على الإطلاق لأي شخص يتابع نماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية عن كثب.
بوتات الدردشة غير جاهزة بعد للاندماج بمحركات البحث
وهنا تكمن المشكلة، فهذه التكنولوجيا غير جاهزة ببساطة للاستخدام بهذه الطريقة، وعلى هذا المستوى. فنماذج الذكاء الاصطناعي اللغوية مشهورة بأنها تبتدع الهراء، وتقدم المعلومات الخاطئة على أنها صحيحة. وعلى الرغم من أنها بارعة للغاية في توقع الكلمة التي سترد تالياً في الجملة، فإنها لا تدرك المعنى الفعلي للجملة. وهو ما يجعل جمعها مع محركات البحث، حيث تُعتبر صحة المعلومات مسألة أساسية، أمراً في غاية الخطورة.
ولطالما أكدت أوبن أيه آي (OpenAI)، والتي ابتكرت بوت الدردشة الشهير الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي تشات جي بي تي، أن هذا البوت ما زال مجرد مشروع بحثي، وأنه يتحسن باستمرار مع تلقي ملاحظات وآراء المستخدمين. ولكن هذا لم يردع مايكروسوفت عن دمجه مع نسختها الجديدة من بينغ، وإن أرفقت هذه العملية بتحذيرات تقول إن نتائج البحث قد لا تكون موثوقة.
كانت جوجل تستخدم معالجة اللغات الطبيعية على مدى سنوات لمساعدة المستخدمين على البحث في الإنترنت باستخدام جمل كاملة بدلاً من الكلمات المفتاحية وحسب. ولكن الشركة ما زالت حتى الآن رافضة لفكرة دمج تكنولوجيا بوت الدردشة الخاصة بها مع محرك البحث الشهير جوجل، كما يقول الأستاذ في جامعة واشنطن والمختص في البحث على الإنترنت، شيراغ شاه. وقد كانت قيادة جوجل تشعر بالقلق إزاء "الخطر الذي يهدد سمعتها" إذا تسرعت في إطلاق أداة شبيهة بتشات جي بي تي. سخرية القدر
لم نصل إلى نهايات مسدودة بعد
لا تعني الإخفاقات الجديدة من الشركات التكنولوجية الكبرى أن محركات البحث التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وصلت إلى طريق مسدود. فإحدى الطرق التي عمدت كل من جوجل ومايكروسوفت إلى تجربتها لزيادة دقة ملخصات عمليات البحث التي يولدها الذكاء الاصطناعي، هي عن طريق إرفاقها بالمصادر. ويتيح الربط بالمصادر للمستخدمين فهم مصدر المعلومات التي يجمعها محرك البحث بشكل أفضل، كما تقول مارغريت ميتشل، وهي باحثة ومختصة بالأخلاقيات في شركة الذكاء الاصطناعي الناشئة هاغينغ فيس (Hugging Face)، وقد كانت عضوة في فريق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في جوجل.
ويمكن لهذه الطريقة حتى أن تساعد الناس على تشكيل وجهة نظر أكثر شمولية وتنوعاً، وذلك بدفعهم نحو التفكير في مصادر أكثر مما كانوا يريدون أخذه بعين الاعتبار فيما لو اتبعوا طريقة أخرى.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل اعتماد بوتات الدردشة بدلاً من محركات البحث فكرة سيئة؟
ابتداع المعلومات: عيب هذه النماذج
ولكن هذا لا يساعد على حل المشكلة الأساسية التي تعاني منها هذه النماذج، وهي أنها تبتدع المعلومات وتقدمها بثقة على أنها حقائق. وعندما يبدو النص الذي ولده الذكاء الاصطناعي محكم الصياغة ومزوداً بالمصادر، فقد يؤدي هذا –لسخرية القدر- إلى دفع المستخدمين إلى الثقة العمياء بهذه المعلومات دون التحقق منها.
"لا يقوم الكثيرون بالتحقق من المصادر. فوجود المصادر يضفي على المعلومة مسحة من الدقة التي قد لا تكون حقيقية"، كما تقول ميتشل.
ولكن دقة نتائج البحث ليست الهدف الفعلي للشركات التكنولوجية الكبرى، كما يقول شاه. فعلى الرغم من أن جوجل هي التي ابتكرت التكنولوجيا التي تعتمد عليها موجة الذكاء الاصطناعي الحالية، فإن الإشادة والاهتمام مركزان بقوة على الشركة الناشئة ذات السمعة الرنانة أوبن أيه آي، وراعيتها مايكروسوفت. "إنه أمر محرج بالنسبة لجوجل دون شك. فهي في موقع الدفاع عن النفس في الوقت الحالي. وهو وضع لم تجد نفسها فيه منذ فترة طويلة للغاية"، كما يقول شاه.
مغامرة مايكروسوفت: لا أسوأ مما هو موجود
من ناحية أخرى، قررت مايكروسوفت أن تغامر، معتمدة على كون التوقعات المحيطة ببينغ سيئة للغاية إلى درجة أن بضعة أخطاء لن تحدث تأثيراً يستحق الذكر. تبلغ حصة مايكروسوفت من سوق البحث على الإنترنت أقل من 10%. وبالتالي، فإن زيادتها وإن بنسبة 2% وحسب يمكن أن يكون أمراً بالغ الأهمية بالنسبة لها.
ويضيف شاه أن تكنولوجيا البحث التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي ليست سوى واجهة لأمر أكبر بكثير، فالبحث ليس سوى مجال واحد من المجالات التي تتصارع فيها الشركتان التكنولوجيتان الكبيرتان. فهما تتنافسان أيضاً في خدمات الحوسبة السحابية، وبرمجيات الإنتاجية، وبرمجيات الشركات. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي الحواري وسيلة لاستعراض أحدث التكنولوجيات، بشكل يدعم تلك المجالات الأخرى من العمل.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن التوصل إلى ذكاء اصطناعي غير منحاز؟ وما تأثير انحيازه على أماكن تطبيقاته؟
ويعتقد شاه أن الشركات ستعلن عن هذه الإخفاقات الأولية كفرص للتعلم. "بدلاً من التعامل مع المسألة بحذر، ستواصل الشركات اندفاعتها بجرأة. وستعتبر أنه من الأفضل مواصلة العمل والسماح لنظام الذكاء الاصطناعي بارتكاب الأخطاء، لأنه لم يعد هناك من مجال للتراجع".
وهذا يعني أننا، نحن المستخدمون، نجري عمليات الاختبار لهذه التكنولوجيا مجاناً. يقول شاه: "لقد تحولنا بفضل هذه الشركات إلى فئران تجارب".