هل سيصمد المال النقدي في وجه إغراء العملات الرقمية؟

4 دقائق
هل حافظ الدولار على بعض المحاسن التي تستحق الإطراء وسط إغراء العملات الرقمية؟
حقوق الصورة: إم إس تك/ صور جيتي.

على الباب الزجاجي اللامع لأحد المقاهي التي أرتادها، توجد لافتة تعلن بكل فخر: "نحن لا نستخدم المال النقدي". وعلى الرغم من أن هذه اللافتة أقدم من قائمة إجراءات كوفيد-19 اللامعة الملصقة بجانبها، فإن اللافتتين تشكلان إعلاناً فريداً عن فعالية العمل دون الحاجة إلى اللمس، والذي يعد بالاستمتاع بالمساحات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي والتبادل الاستهلاكي بأعلى مستوى من الراحة والنظافة. وعلى الرغم من كل الاحتكاكات التي تمكن المقهى من التخلص منها بإنهاء التعامل بالمال النقدي، فقد أدى إلى ظهور حواجز وتباينات اجتماعية أثقل وطأة. 

إغراء المحافظ الرقمية

فبالنسبة للأفراد والمجتمعات، فإن تكنولوجيات التعاملات المالية، مثل المحافظ الرقمية والدفع باستخدام الأجهزة الخلوية وغير ذلك، يمكن أن تزيد من الاستقلالية في اتخاذ القرار، والمرونة والصمود في أوقات الأزمات، والقدرة على مكافحة الاستهداف والاستغلال والامتهان. وتؤدي الثقة بهذه التكنولوجيات إلى بناء القدرة على التخطيط والبناء بعيدي المدى –للثروات والبنى التحتية وأسس الازدهار للأجيال المقبلة- إضافة إلى القدرة على التجريب والمخاطرة. وبطبيعة الحال، فإن النتيجة المنطقية لهذه التكنولوجيات صحيحة أيضاً، فالنسخ الخبيثة من هذه الأدوات يمكن أن تسلب استقلال المجتمعات والأفراد.

اقرأ أيضاً: ما التغييرات الكبرى التي ستحدثها العملات الرقمية في النظام المالي العالمي؟

فالمال النقدي هو أفضل أداة اخترعناها لإجراء الصفقات حتى الآن لزيادة الاستقلال المجتمعي والفردي. ويتمتع بالكثير من المزايا التي لا يمكن محاكاتها بسهولة. فالمال النقدي لا يحتاج إنفاقه إلى توقيع شخص آخر. ولا يشترط عليك متى يمكن أن تنفقه أو على ماذا. كما أنه غير مرتبط بهوية معينة، فلا أحد يحتاج إلى معرفة هويتك حتى تستطيع إنفاقه. ولا يولد أي بيانات لأطراف أخرى حول تعاملاتك. ويمكن استخدامه دون رسوم إضافية على الدافع أو المدفوع إليه. ويمكنك بسهولة تحديد المبلغ المتاح لديك على الفور، ولا يمكن تجميده في حسابك لسبب تافه يفرضه نظام دفع غامض تابع لطرف ثالث، ولا يمكن عكس عملية التعامل من قبل نصاب ما، ولن يتآكل المبلغ بالتدريج بسبب الرسوم حتى تصل إلى مرحلة السحب المكشوف دون أن تدرك ما حدث. ولا يعتمد على الكثير من الطبقات من البنى التحتية الضعيفة المؤلفة من العتاد البرمجي والمادي حتى يمكن استخدامه عند نقطة البيع.

ماذا سيحدث لو تخلينا تماماً عن المال النقدي؟

هناك بعض الدروس التاريخية التي تستحق أن نأخذ العبرة منها. فالعملة النقدية –التي تُعرّف بأنها وسيلة مالية مطبوعة عامة ومتعددة الاستخدامات- إنجاز تكنولوجي وسياسي جديد نسبياً. فعلى مر التاريخ، كان المال في معظم الأحيان خاصاً ومتعدد الأشكال. ففي الولايات المتحدة، لم يتم اعتماد العملة التي تصدرها الدولة بشكل كامل إلى ما بعد الحرب الأهلية. وقبل ذلك، كانت العملات الأجنبية، وأوراق البنوك الخاصة، وسندات شركات السكك الحديدية والتأمين والشركات التجارية وغيرها من الشركات الخاصة، قيد التداول جنباً إلى جنب مع العملات التي تصدرها الخزانة الأميركية.

وفي ظل هذه الفوضى المالية، أصبح الإنفاق اليومي مهمة صعبة تتطلب قدراً عالياً من الذكاء العملي والمتابعة. فمن المحتمل أن الأوراق النقدية صادرة عن بنك مفلس أو غير موجود، أو أنها نسخة مزورة عن أوراق بنك حقيقي. كما أن الأوراق النقدية التي كانت مقبولة بقيمتها الافتراضية في مدينة ما يمكن أن تُقبل فقط بقيمة منخفضة في مدن أخرى. وهكذا، تحولت الحياة اليومية إلى معركة يخوضها الجميع ضمن بيئة مالية عشوائية تعمها الفوضى والتعقيدات.

كما أدى هذا الوضع الفوضوي إلى ظهور منظومات منغلقة من حيث التعاملات المالية. فقد كان الأثرياء يعتمدون على أوراق نقدية تصدرها بنوك مستقرة ويمكن استبدالها برسائل اعتماد أو قطع ذهبية، وكان الفقراء يستخدمون بشكل عام "قطعاً نقدية ثانوية" منخفضة القيمة من البرونز أو النحاس، أو أوراقاً من بنوك متردية. 

اقرأ أيضاً: استنفار على أعلى درجة في البنك المركزي الصيني بسبب عملة فيسبوك الرقمية

وقد يبدو مستقبل أوساط التعاملات المالية شبيهاً إلى حد ما بالماضي. وقد قال لي أحد المستشارين في الصناعة إن "المستقبل سيشهد تحول المال النقدي إلى وسيلة منبوذة ومشبوهة للتعامل". وبالفعل، يبدو أن المستقبل سيشهد تراجعاً كبيراً في استخدام المال النقدي، ولكن دون اختفائه تماماً. وسيكتشف من يستخدمون المال النقدي فقط أن تعاملاتهم لم تعد على قدم المساواة مع التعاملات الإلكترونية.

اليوم، يمثل المال النقدي وسطاً شاملاً يعتمد على تكنولوجيا الطباعة. ولكنه يتسم بعيوب كبيرة أيضاً، فمن الممكن أن يضيع، أو يتعرض للإتلاف، أو السرقة. أما الأمر الأكثر أهمية فقد يكون استحالة إنفاقه على الإنترنت، أي أنه لا يتحرك بنفس سرعة حياتنا التي تعتمد بدرجة كبيرة على الاتصالات.  

لا نعرف حتى الآن ما سيكون شكل هيكلية التعاملات في المستقبل، أو شكل أوساط التعاملات ومشهدها العام، فقد نحاول منع تحول المال إلى شكل مشابه لمنصات التواصل الاجتماعية الحالية، والذي يتسم بالخصخصة والاعتماد الكبير على نماذج الأعمال التي تعتمد على البيانات. 

اقرأ أيضاً: السويد في طور اختبار إي-كرونة نسختها الرقمية من العملة النقدية

وفي أوساط العملات المشفرة، غالباً ما كنت أسمع هذه العبارة بصياغة أو بأخرى: "لو تم اختراع المال النقدي اليوم، لاعتُبِر مخالفاً للقانون". والمقصود بهذا هو أن المال النقدي منخفض التكلفة، ولا يمكن حصر حركته بسهولة، كما لا يمكن مراقبته بسهولة. وفي هذا الزمن الذي تتحرك فيه كل اتصالاتنا وتعاملاتنا وغيرها في قنوات محددة ضمن منصات احتكارية ومهيمنة تجمع أجور عملها على شكل رسوم أو بيانات أو كليهما، فليس من السهل أن نجد حجة تناقض هذا الأسلوب في التفكير. 

وفي نفس الوقت، يجب أن نضمن أن تكون الأشكال الجديدة من المال موثوقة ومستقرة من حيث القيمة، وهو شيء تبين أنه صعب للغاية مع العملات المشفرة. وعلى الرغم من كل إيجابياته كوسيلة للتعامل، يجب أن يكون المال النقدي –وأي بديل رقمي له- مستقراً من حيث القيمة حتى يحقق النجاح. 

اقرأ أيضاً: هل ستنجح عملة ميتا المشفرة التي تحمل اسم مارك زوكربيرج أم سيكون مصيرها كسابقاتها؟

ولهذا، وفيما أدفع ثمن القهوة بالحليب، أحدق بلافتة "نحن لا نستخدم المال النقدي" بعيني الباحثة. هناك الكثير على المحك. وستؤثر أدوات التعامل التي نستطيع الوصول إليها على قدراتنا على السيطرة على كافة نواحي حياتنا. ومع محاولتنا لتخيل شكل المال المناسب لحقبة الإنترنت، فإن السؤال الكبير يتمحور حول كيفية تصميم بيئة الدفع بشكل مناسب للصالح العام. فنحن نحتاج إلى أسلوب يحمل جميع ميزات المال النقدي، ويعوض نواقصه أيضاً.