في الطابق الأرضي بأحد المجمعات التجارية الشهيرة بالعاصمة الألمانية برلين، يقف بضعة أشخاص يحدقون في أجهزة فضية اللون موضوعة على حامل رفيع. تشبه الأجهزة كرات البولينج لولا أنها مليئة بالكاميرات. يتولى أحد المسؤولين عن هذه الأجهزة الرد على تساؤلات الجمع الصغير، فيما يشرح زميله الخطوات المطلوبة لشخص متحمس لهذه التجربة الجديدة.
يحمل الموظف إحدى الكرات ويطلب من الشخص أن يعرض الرمز الشريطي (Barcode) الموجود على هاتفه المحمول أمام الكاميرا، ثم يطلب منه النظر إلى الكرة لعدة ثوانٍ ريثما تُجري له مسحاً لقزحية العين. تهانينا: لقد تأكدنا أنك إنسان حقيقي، ويمكنك الآن الحصول على "هوية عالمية".
"وورلد كوين" تهدف إلى حل مشكلة "إثبات الشخصية"
هذه العملية هي الجزء الأساسي من مشروع وورلد كوين (Worldcoin)، وهو مشروع للعملات المشفرة والهويات الرقمية أطلقه سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة الذكاء الاصطناعي الناشئة "أوبن أيه آي"، يوم الاثنين الماضي، بعد سنوات من التطوير.
الفكرة العامة للمشروع هي إيجاد طريقة لـ "إثبات الشخصية" (Proof of personhood)، وهي مشكلة لم تجد طريقها بعد للحل على المستوى العالمي، ما يجعل من الصعب التصويت عبر الإنترنت أو توزيع الثروة على نطاق واسع. وتتفاقم هذه المشكلة اليوم لأن نماذج الذكاء الاصطناعي الآخذة في التطور ستزيد من صعوبة التمييز بين البشر والخوارزميات التي يمكنها محاكاة السلوك البشري.
worldcoin launches today: https://t.co/UXXE5AFznS
— Sam Altman (@sama) July 24, 2023
لتجربة التقنية، يتعين على الشخص تحميل تطبيق (World) من أحد متاجر التطبيقات على الهواتف المحمولة، ثم زيارة أقرب موقع يوجد به جهاز للتحقق البيومتري -وهو جهاز يسمى أورب (Orb)- لإجراء مسح لقزحية العين، بهدف إنشاء هوية رقمية فريدة يُطلق عليها اسم وورلد آي دي (World ID). وتقول الشركة إنه بمجرد الحصول على هذه الهوية العالمية، فإن الفرد يمكنه تأكيد أنه شخص حقيقي على الإنترنت دون الحاجة إلى الكشف عن هويته في العالم الحقيقي.
الشركة التي تقف وراء "وورلد كوين" هي شركة ناشئة تسمى تولز فور هيومانتي (Tools for Humanity)، وهي شركة ألمانية تأسست عام 2019، وتمتلك مقرين أحدهما في برلين والآخر في سان فرانسيسكو، وقد جمعت حتى الآن تمويلاً يقدر بنحو 250 مليون دولار.
تقول الشركة إنها تستهدف "ضمان تحقيق نظام اقتصادي أكثر عدلاً"، موضحة أنها تطور البرمجيات والمعدات اللازمة لتوفير تقنيات البلوكتشين والهوية الرقمية ومنتجاتها لمليارات الأشخاص، بطرق منها المساهمة في تطوير ونمو نظام "وورلد كوين" وغيره من المشروعات، وفقاً للحساب الرسمي للشركة على منصة "لينكدإن".
اقرأ أيضاً: بعيداً عن البيتكوين: ما يجب معرفته قبل الاستثمار في العملات المشفرة المغمورة
هوية عالمية وشبكة مالية مملوكة للجميع
قال ألتمان وشريكه المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة أليكس بلانيا، إن "وورلد كوين" انطلقت قبل أكثر من ثلاث سنوات، بهدف "إنشاء هوية جديدة وشبكة مالية مملوكة للجميع". وأضافا، في الإعلان الرسمي لإطلاق العملة، أنه إذا نجحت الفكرة فإنها قد تؤدي إلى زيادة الفرص الاقتصادية بصورة كبيرة، وتوسيع نطاق الحلول الموثوقة لتمييز البشر عن الذكاء الاصطناعي عبر الإنترنت مع الحفاظ على الخصوصية، وتمكين الآليات الديمقراطية العالمية. وفي نهاية المطاف، تقديم مسار محتمل إلى الدخل الأساسي الشامل الممول من الذكاء الاصطناعي.
وأوضح ألتمان لوكالة رويترز للأنباء، أن "وورلد كوين" يمكن أن تساعد أيضاً على معالجة كيفية إعادة تشكيل الاقتصاد من خلال الذكاء الاصطناعي التوليدي، مضيفاً أن "الذكاء الاصطناعي سوف يعظّم أداء البشر، الأمر الذي سيكون له تداعيات اقتصادية هائلة".
اقرأ أيضاً: ما إيجابيات وسلبيات الدفع بالعملات المشفرة بدلاً من العملات التقليدية؟
يركز الرئيس التنفيذي لـ "أوبن أيه آي" على فكرة الدخل الأساسي الشامل (UBI)، وهو برنامج للاستحقاقات الاجتماعية عادة ما تديره الحكومات، حيث يحق لكل فرد الحصول على منحة مالية. ويعتقد ألتمان أن هذا الدخل يمكن أن يساعد على مكافحة التفاوت في الدخل لأن الذكاء الاصطناعي "سيقوم بالمزيد من العمل الذي يؤديه البشر الآن". ونظراً لأن الأشخاص الحقيقيين هم فقط من يمكنهم الحصول على الهويات العالمية "وورلد آي دي"، فإنه من الممكن استخدامها لتقليل الاحتيال عند توزيع الدخل الأساسي الشامل.
ومع أنه يقول إن الوصول إلى الدخل الأساسي الشامل لن يتحقق في المستقبل القريب، وليست لديه فكرة واضحة عن الكيان الذي يمكن أن يوزع الأموال، إلا أن "وورلد كوين ترسي الأساس ليصبح هذا الأمر حقيقة واقعة"، على حد قول مؤسسي الشركة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن لشركات تدقيق العقود الذكية حماية أنظمة العملات المشفرة من الأخطاء البرمجية؟
مليونا مستخدم قبل الطرح
تُثير فكرة تسليم بيانات مسح قزحية العين التي تمثّل جانباً فريداً للهوية الشخصية- إلى شركة خاصة مخاوف الكثيرين. ومع ذلك، فقد تمكنت الشركة من تسجيل أكثر من مليوني فرد عبر أكثر من 30 دولة مختلفة خلال فترة ما قبل الطرح، وتحديداً خلال الفترة بين مايو 2021 ويوليو 2023. وقد منحت كل فرد من أولئك الذين أجروا عمليات المسح 25 وحدة من عملتها المشفرة. وتقول الشركة إن التقنية متاحة الآن في 35 مدينة في 20 دولة، ويمكن العثور على أجهزة "أورب" حالياً في برلين ودبي ولندن ومكسيكو سيتي وميامي ونيويورك وسان فرانسيسكو وسيول وطوكيو.
حققت العملة المشفرة، التي يتم تداولها تحت رمز (WLD)، ارتفاعاً سريعاً في أول أيام طرحها على منصة "بينانس" وهي أكبر بورصة للعملات في العالم، حيث قفزت إلى 3.58 دولار انطلاقاً من سعر أولي بلغ نحو 1.70 دولار، لكنها تراجعت في أعقاب موجة الشراء الكبيرة، ووصل سعرها إلى 2.30 دولار بتداولات بلغت نحو 145 مليون دولار لحظة كتابة هذه السطور.
يُتيح التطبيق للمستخدمين إجراء عمليات الدفع والشراء والتحويلات بهذه العملة وبغيرها من العملات الرقمية. وبحسب المستند التقني (الورقة البيضاء) لـ "وورلد كوين"، فإن كل إنسان مؤهل للحصول على حصة من هذه العملة لمجرد كونه إنساناً.
اقرأ أيضاً: ما هي العملات الرقمية؟ وهل ستكون بديلاً للعملات الورقية التقليدية؟
توفير الخدمات المالية لـ 4 مليارات شخص؟
على الرغم من أن "وورلد كوين" لن تكون متاحة للتداول في الولايات المتحدة في البداية بسبب القيود التنظيمية المفروضة هناك والمخاوف بشأن المضاربة والاحتيال، فإن المؤسسين يقولان إنه "حيثما تكون القواعد أقل وضوحاً، كما الحال في الولايات المتحدة، سيتم اتخاذ خطوات حتى يتمكن المزيد من الأشخاص من الاستفادة من العملة والهوية الرقمية".
وقال بلانيا لمجلة "فيرتشافتس فوخي" الألمانية: "نترك المرحلة التجريبية، ونقوم الآن بتعزيز قدراتنا بشكلٍ كبير. نريد أن نُتيح التسجيل في مدينة جديدة كل أسبوع". وتمتلك الشركة حالياً 250 جهازاً فقط من أجهزة "أورب"، لكن الرئيس التنفيذي يقول إن شركته تستهدف الوصول إلى 1500 جهاز بحلول نهاية العام.
اقرأ أيضاً: ما ملامح المرحلة المقبلة في مجال العملات المشفرة؟
ترى شركة "تولز فور هيومانتي" أن تقنية "وورلد كوين" قد يكون لديها ما يلزم لتوفير الخدمات المالية لأكثر من 4 مليارات شخص يفتقرون إلى هذه الخدمات. ورغم ما يحمله هذا الطموح من مبالغة، فإن مؤسسي الشركة يعترفان بأن إنشاء نظام مصادقة موثوق به على المستوى العالمي هو رحلة صعبة ونتيجتها غير مؤكدة. ورغم ذلك، فإنهما يؤكدان أن التحدي الحاسم في العصر الحالي هو إيجاد طرق جديدة لمشاركة الازدهار التكنولوجي القادم على نطاق واسع.