غازات الدفيئة المتهم الوحيد
على مدار العقدين الأخيرين، اكتسبت قضايا التغير المناخي أهمية متزايدة، وشيئاً فشيئاً أصبح الحديث عن مكافحة الاحترار العالمي ومواجهة ارتفاع درجة حرارة الأرض موضوعاً متواتراً في الندوات والمؤتمرات والخطط الحكومية المستقبلية. ولا تكاد الصحف والمواقع تخلو من الأخبار والمقالات التي تحذر من الآثار المدمرة لهذه التغيرات التي يشهدها كوكبنا، والمحاولات التي تعهدت الدول والحكومات ببذلها لإبطاء وتيرتها قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة، المتمثلة في ارتفاع متوسط درجات الحرارة إلى أكثر من 1.5-2.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي.
وفي خضم هذه الأخبار والمؤتمرات، تشير أصابع الاتهام دائماً إلى نوع من الغازات يُطلق عليه "غازات الدفيئة" أو "غازات الاحتباس الحراري"؛ كونها المسؤولة عن هذا الخطر المحدق. وللوهلة الأولى يبدو الاسم عادياً ولا يوحي بهذا القدر من الخطورة، وكثيراً ما لا يصاحبه شرح يتيح لغير المتخصصين فهم الدور الكارثي الذي تلعبه هذه الغازات في تغيير مناخ الأرض.
لذا، تصحبكم إم آي تي تكنولوجي ريفيو، في هذا التقرير، في جولة للتعرف على غازات الدفيئة وسبب تسميتها بهذا الاسم، وأنواعها ومصادرها، والمحاولات المبذولة للتخفيف من انبعاثاتها.
نسبة صغيرة وتأثير كبير
عندما تضرب أشعة الشمس الأرض، يمتص الغلاف الجوي والسطح بعضاً من هذه الطاقة، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب. ثم تنبعث هذه الحرارة من الأرض مرة أخرى إلى الفضاء على شكل أشعة تحت حمراء. هنا يأتي دور غازات الدفيئة التي تتمتع بالقدرة على امتصاص الأشعة تحت الحمراء المنعكسة، أي أن هذه الغازات تمتص الطاقة الحرارية الكلية وتعيدها إلى الأرض، فتتسبب في جعل الغلاف الجوي للأرض أكثر دفئاً، وبالتالي تحدث ظاهرة الاحتباس الحراري.
وهكذا تلعب هذه الغازات نفس الدور الذي تلعبه الصوبة (التي تعرف في بعض الدول العربية باسم الدفيئة)، ومن هنا جاءت هذه التسمية.
وعلى الرغم من أن غازات الدفيئة لا تشكل سوى نسبة صغيرة من الغازات التي يتكون منها الغلاف الجوي للأرض، إلا أن لها تأثيراً كبيراً على التغيرات المناخية التي نشعر بها حالياً.
ويعتمد مدى تأثير كل غاز من غازات الدفيئة على الاحترار العالمي على ثلاثة عوامل رئيسية: مقدار وجوده في الغلاف الجوي، والمدة التي يبقى فيها هناك، ومدى قدرته على امتصاص الحرارة. ويتم التعبير عن هذا التأثير بمقياس "احتمالية حدوث احترار عالمي" (Global Warming Potential "GWP") الذي يقيس إجمالي الطاقة التي يمتصها الغاز خلال فترة زمنية معينة (عادةً خلال 100 عام).
أهم غازات الدفيئة
1- بخار الماء (H2O)
بخار الماء هو الحالة الغازية للماء الذي ينتج عن غليان وتبخر الماء السائل. وعلى الرغم من أنه أكبر مساهم في ظاهرة الاحتباس الحراري، إذ يتسبب في حوالي 60% من تأثير الاحترار العالمي، إلا أنه لا يتحكم في درجة حرارة الأرض بشكل مباشر، إنما درجة حرارة الغلاف الجوي المحيط به هي التي تتحكم فيه (إذا انخفضت درجة الحرارة يتكثف ويتحول إلى سحب).
وعلى الرغم من الاعتراف بأن بخار الماء يشكل أحد المحركات الهامة لعملية التغير المناخي، إلا أنه غالباً ما لا يحظى باهتمام كافٍ عند الحديث عن غازات الدفيئة؛ ربما لأن وجوده في الغلاف الجوي لا يمكن أن يُعزى في معظم الأحيان بشكل مباشر إلى الأنشطة البشرية. كما أن تأثيره يرتبط بزيادة غازات الدفيئة غير القابلة للتكثف، مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز.
إذا لم تحدث زيادة في كميات غازات الدفيئة غير القابلة للتكثف، فلن تتغير كمية بخار الماء في الغلاف الجوي. بينما يؤدي تراكم الغازات غير القابلة للتكثف إلى زيادة درجة الحرارة وهو ما يزيد بدوره من بخار الماء، وبالتالي يتضاعف تأثير الاحتباس الحراري، في حلقة تعيد تعزيز نفسها بنفسها.
غير أن بخار الماء يبقى في الغلاف الجوي لفترة زمنية أقصر بكثير (عدة أيام) بالمقارنة مع غازات الدفيئة الأخرى، مثل ثاني أكسيد الكربون أو الميثان، التي تظل لفترات زمنية طويلة تتراوح بين سنوات إلى قرون، فتتسبب في ارتفاع درجة الحرارة لفترة طويلة.
2- ثاني أكسيد الكربون (CO2)
على الرغم من وجود غازات أكثر فاعلية في قدرتها على حبس الحرارة، إلا أن ثاني أكسيد الكربون يُعد أخطر غازات الدفيئة لأنه أكثرها انتشاراً. وقد شكّل نحو 81% من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن النشاط البشري في الولايات المتحدة عام 2016. ويُنتج هذا الغاز بشكل رئيسي من احتراق الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز الطبيعي) والنفايات الصلبة والتصنيع العالمي للأسمنت. ويتسبب هذان النشاطان في أكثر من 75% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بينما تقع مسئولية النسبة الباقية على إزالة الغابات وتغيير الممارسات الزراعية؛ لأنها تتسبب في إطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون المخزّن في التربة.
وتشير دراسة حديثة منشورة في دورية "نشرة جمعية الأرصاد الجوية الأميركية" إلى أن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ارتفعت خلال القرنين الماضيين، من 278 جزءاً في المليون في بداية الثورة الصناعية إلى 409.8 جزءاً في المليون عام 2019. وآخر مرة وصلت فيها كميات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى هذا الارتفاع كانت قبل أكثر من 3 ملايين سنة، عندما كانت درجة الحرارة أعلى بما يتراوح بين درجتين إلى ثلاث درجات مئوية مما كانت عليه خلال عصر ما قبل الصناعة، وكان مستوى سطح البحر مرتفعاً بما بين 15-25 متراً عن مستواه اليوم.
3- الميثان (CH4)
يعد الميثان من الغازات الدفيئة الرئيسية بالرغم من أن نسبة تركيزه في الغلاف الجوي أقل من نسبة ثاني أكسيد الكربون؛ وذلك لأن قدرته على إحداث الاحترار العالمي على مدار 100 عام تزيد بمقدار 25 ضعفاً عن قدرة ثاني أكسيد الكربون. وخلال العقدين الأولين من إطلاقه تزيد قدرته على حبس الحرارة بمقدار 84 ضعفاً عن ثاني أكسيد الكربون.
وتشمل الأنشطة البشرية التي تُنتج الميثان: إنتاج الطاقة من الغاز الطبيعي والفحم والنفط، وعمليات التحلل في مدافن النفايات، وتربية الثروة الحيوانية، وزراعة الأرز. في الوقت نفسه، تُعد الأراضي الرطبة هي المصدر الطبيعي الرئيسي للميثان.
وقد تجاوزت انبعاثات الميثان من الأنشطة البشرية الانبعاثات الطبيعية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وباتت تمثل حالياً 60% من الانبعاثات. ويشير تقرير أصدرته الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بالولايات المتحدة (NOAA)، في شهر أبريل الماضي، إلى أن تركيز الميثان في الغلاف الجوي وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق، عند 1875 جزءاً في المليار، وهو ما يزيد بمرتين ونصف عن مستويات ما قبل العصر الصناعي.
4- أكسيد النيتروز (N2O)
شكّل أكسيد النيتروز -الذي يُعرف أيضاً بأكسيد النيتروجين الثنائي- حوالي 6.5% من إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة في الولايات المتحدة من الأنشطة البشرية عام 2018. وعلى الرغم من هذه النسبة القليلة إلا أن تأثير هذا الغاز هام؛ إذ تزيد قدرته على رفع حرارة الغلاف الجوي بنحو 300 مرة عن ثاني أكسيد الكربون، وتظل جزيئاته في الغلاف الجوي لمدة 114 عاماً في المتوسط.
وتُعد الأنشطة البشرية مثل الزراعة واستخدام الأسمدة النيتروجينية واحتراق الوقود وروث الماشية مصدر حوالي 40% من كمية أكسيد النيتروز التي تنبعث سنوياً إلى الغلاف الجوي. كما يوجد أكسيد النيتروز أيضاً بشكل طبيعي في الغلاف الجوي كشكل من أشكال النيتروجين.
5- الغازات المفلورة (Fluorinated Gases)
تُعد الغازات المُفَلْوَرة (أي: المعالجة بالفلور) أكثر أنواع غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الأنشطة البشرية قوة وأطولها بقاءً، حيث يمكن أن يستمر تواجدها في الغلاف الجوي في بعض الأحيان لآلاف السنين. وعلى عكس الغازات الأخرى، لا تنبعث معظم الغازات المفلورة من مصادر طبيعية ولم تكن موجودة قبل العصر الصناعي، وإنما تخرج نتيجة العمليات الصناعية، مثل تصنيع الألمنيوم وأنصاف النواقل ومكيفات الهواء والثلاجات.
وتضم هذه الغازات أربع فئات رئيسية، وهي مركبات الكربون الهيدروفلوروية (HFCs)، ومركبات الكربون الفلورية (PFCs)، وسداسي فلوريد الكبريت (SF6)، وثلاثي فلوريد النيتروجين (NF3).
وغالباً ما تستخدم الغازات المفلورة كبدائل للمواد المستنفدة للأوزون، لأنها لا تضر بطبقة الأوزون الموجودة في الغلاف الجوي. ومع ذلك، فإن تأثيرها على الاحترار العالمي قوي للغاية؛ إذ تصل قدرة أنواع معينة منها على حبس الحرارة إلى 23 ألف ضعف قدرة ثاني أكسيد الكربون.
من المسؤول؟
تسهم 10 دول فقط في أكثر من ثلثي انبعاثات غازات الدفيئة السنوية في العالم، وتمثل هذه الدول مجتمعة أكثر من 50% من سكان العالم وحوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. الدولة الأولى هي الصين، التي تُعد أكبر مصدر لانبعاثات الغازات بنسبة 26% تقريباً، تليها الولايات المتحدة بنسبة 13%، ثم دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 7.8%، والهند بنسبة 6.74%، وروسيا (5.26%) واليابان (2.73%) والبرازيل (2.28%) وإندونيسيا (1.88%).
وخلال السنوات الماضية، تلقت جهود إبطاء وتيرة الانبعاثات ضربة قوية، لا سيما بعدما تسبب انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ في أزمة داخلية ودولية، واجتذب انتقادات واسعة باعتبار بلاده ثاني أكبر مصدر لغازات الدفيئة في العالم.
ويشير علماء في اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) إلى أن تحقيق الهدف المتمثل في إبقاء الزيادة في متوسط درجات الحرارة العالمية تحت 1.5 درجة مئوية لا يزال ممكناً، لكنه يتطلب تخفيض حجم انبعاثات غازات الدفيئة إلى النصف بحلول عام 2030، ووصول صافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول منتصف القرن الحالي.
محاولات للإنقاذ
تحاول العديد من دول العالم اتخاذ خطوات عملية لإيقاف الضرر الذي تسببت فيه هذه الغازات في الوقت القليل المتاح أمامنا. كما يحاول العلماء جاهدين الوصول إلى حلول جديدة لتخفيف سرعة التغيرات المناخية، أو على الأقل التكيف معها.
أبرز الحلول السهلة نسبياً تدور حول إعادة زراعة الغابات، التي وجدت دراسة نشرت في مجلة ساينس أنها يمكن أن تمتص حوالي ثلثي الكمية التي أطلقها البشر منذ الثورة الصناعية. كما يمكن استخدام أدوات تكنولوجيا حديثة، مثل آلات امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وتحويل الأشجار الميتة وغيرها من المخلفات الغنية بالكربون إلى وقود نظيف مثل الهيدروجين.
ثمة مبادرات أخرى دخلت حيز التنفيذ فعلاً، منها الاعتماد على بدائل نباتية للحوم بهدف تعطيل صناعة الإنتاج الحيواني. وأبرز الشركات العاملة في هذا المجال هي شركة إمبوسيبل فودز التي أسسها بات براون، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة ستانفورد عام 2011، والتي ترى أن هذه الطريقة قد تخفف الأثر البيئي لقطاع الثروة الحيوانية، الذي ينتج -وفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة- حوالي 14.5% من التلوث الناتج عن غازات الدفيئة في العالم.
أحد الحلول الأخرى المبتكرة هي تحويل غاز الميثان شديد الخطورة إلى ثاني أكسيد الكربون ذي الفعالية الأضعف. وفي ورقة بحثية نشرت العام الماضي في دورية نيتشر، اقترح روب جاكسون، أستاذ علوم الأرض بجامعة ستانفورد، تطويرَ أنظمة يمكنها التقاط مليارات الأطنان من الميثان من الغلاف الجوي، موضحاً أن هذا الأمر سيكون أكثر فعالية بكثير -على المدى القصير- في تقليل الاحترار من إزالة المزيد من ثاني أكسيد الكربون. وأضاف أن "إزالة الميثان ستوفر لنا وقتاً طويلاً لمعالجة المشكلة [الأكبر] المتمثلة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون".
ولا شك أن هذه الجهود تلقت دفعة قوية خلال الأيام الماضية بعد فوز الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، وتعهده في أول تغريدة له بعد انتخابه بأن تعود بلاده إلى اتفاقية باريس للمناخ في أول يوم لتوليه السلطة رسمياً.