ما مستقبل الهندسة الجيولوجية الشمسية؟

8 دقائق
صورة جوية لولاية باخا كاليفورنيا المكسيكية.

أثارت التجارب التي قام بها أحد رجال الأعمال الأميركيين في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية في ولاية باخا كاليفورنيا المكسيكية، والتي أبلغ عنها لأول مرة موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 2022، انتقادات واسعة النطاق. والآن، تخطط الحكومة المكسيكية لمنع إجراء التجارب المماثلة.

يقول المؤسس المشارك لشركة ميك سنسيتس (Make Sunsets) الناشئة، لوك آيسمان (Luke Iseman)، والذي عمل سابقاً مديراً لموقع للأجهزة الصلبة في شركة واي كومبينيتور (Y Combinator)، إن الخبراء في شركته وضعوا بضعة غرامات من ثنائي أوكسيد الكبريت في المناطيد الجوية وأطلقوها من موقع لم يتم تحديده في شبه الجزيرة المكسيكية في ربيع عام 2022. يقول آيسمان إن الخطة تضمنت إيصال المناطيد إلى طبقة الستراتوسفير (طبقة الجو العليا)، حيث ستنفجر نتيجة للضغط وتطلق جزيئات مركب ثنائي أوكسيد الكبريت في الهواء.

ما حقيقة استخدام  المركبات العاكسة للضوء في التخفيف من الاحتباس الحراري؟

يعتقد العلماء أن إطلاق كميات كافية من هذا المركّب أو أي مركب آخر عاكس للضوء في الغلاف الجوي قد يسهم في التخفيف من آثار الاحتباس الحراري، وذلك من خلال محاكاة الأثر التبريدي للثورانات البركانية الكبيرة التي حدثت في الماضي. مع ذلك، يعتبر مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية مثيراً للجدل، وذلك نظراً لجهل العلماء بالكثير من التفاصيل المتعلقة بالآثار الجانبية المحتملة لإطلاق هذه المركّبات، والمخاوف المتعلقة بأن مجرد أخذ هذه الإجراءات بعين الاعتبار قد يعطل معالجة الأسباب الجذرية للتغيّر المناخي، ووجود أسئلة محيرة تتعلق بكيفية التحكم بهذه التكنولوجيا التي يمكن استخدامها في تغيير درجة حرارة الكوكب، والتي يمكن أن تتفاوت تأثيراتها بشكل حاد باختلاف المناطق في العالم.

صرح آيسمان لموقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو وغيره من المواقع التي أبلغت عن نشاطات شركته بأنه لم يحاول أن يحصل على موافقة حكومية أو علمية قبل إطلاق المناطيد. شارك آيسمان في تأسيس شركة ميك سنسيتس لطرح فكرته تجارياً، وصرحت الشركة سابقاً بأنها جمّعت نحو 750 ألف دولار من رأس المال المغامر، وخططت لبيع ما يدعى بـ "أرصدة التبريد" مقابل الجسيمات التي سيتم إطلاقها في الغلاف الجوي خلال عمليات إطلاق المناطيد المستقبلية.

لكن في 13 يناير/ كانون الثاني 2023، أعلنت وزارة البيئة والموارد الطبيعية المكسيكية أن الحكومة المكسيكية ستحظر إجراء التجارب المتعلقة بالهندسة الجيولوجية الشمسية في البلاد، وستوقفها عند الحاجة. أشارت هذه الوزارة إلى أن عمليات الإطلاق التي أجرتها شركة ميك سنسيتس تمت دون إشعار الحكومة أو الحصول على موافقتها. صرحت وزارة البيئة والموارد الطبيعية المكسيكية أيضاً بأنها قررت فرض هذا الحجر نتيجة لوجود مخاطر كبيرة لتطبيقات الهندسة الجيولوجية، وعدم وجود اتفاقيات دولية تهدف لممارسة الرقابة على النشاطات في هذا المجال، والحاجة لحماية المجتمعات والبيئة.

اقرأ أيضاً: ما سبب تعليق تجارب في مجال الهندسة الجيولوجية في السويد؟

قد تكون المكسيك من أولى الدول التي تعلن عن حظر صريح للتجارب في مجال الهندسة الجيولوجية، وذلك إن لم تكن الدولة الأولى التي تفعل ذلك. مع ذلك، هناك العديد من الدول التي سنّت القوانين البيئية وطبّقت سياسات أخرى قد تقيد بعض الممارسات. لا يوضّح التصريح الذي أعلنته الوزارة ما إذا كان سيتم حظر جميع الأبحاث المتعلقة بمجال الهندسة الجيولوجية أم لا، والتي قد تتضمن التجارب المخبرية وتصميم النماذج الحاسوبية. ينص البيان الصحفي الصادر عن هذه الوزارة أيضاً على أن المكسيك ستوقف جميع النشاطات واسعة النطاق في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية. وقد تتضمن هذه النشاطات التجارب الكبيرة والتطبيق العملي لتكنولوجيا الهندسة الجيولوجية الشمسية.

لم يتمكن موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو من الوصول إلى ممثلي وزارة البيئة والموارد الطبيعية المكسيكية وحكومة ولاية باخا كاليفورنيا للتعليق على الموضوع بشكل مباشر.

"معلّق إلى أجل غير مسمى"

قال آيسمان، والذي لم يستجب لطلب موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو للتعليق على الموضع، لموقع ذا فيرج (The Verge) إن عمليات الإطلاق المستقبلية "معلقة إلى أجل غير مسمى". قال آيسمان أيضاً لصحيفة وول ستريت جورنال إنه "فوجئ بسرعة استجابة الحكومة المكسيكية وتعدد الجوانب التي شملتها"، وإنه "توقّع إجراء حوار وتأمّل ذلك".

مع ذلك، لم تفاجئ هذه الاستجابة الجميع. في المقال الأصلي الذي نُشر في موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو حول نشاطات شركة ميك سنسيتس، حذّرت الباحثة المقيمة في الجامعة الأميركية، شوتشي تالاتي (Shuchi Talati)، والتي تؤسس حالياً منظّمة غير ربحية تركز على مسائل الحوكمة والعدالة في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية، من أن ممارسات هذه الشركة قد تعّطل البحث في مجال الهندسة الجيولوجية. قالت تالاتي إن الجهود غير المصرّح بها يمكن أن تدفع الحكومات للتقليل من الدعم الذي تقدّمه للأبحاث في هذا المجال، وتزيد من حدة المطالبات بالحد من التجارب.

وبالفعل، استغل نقاد الهندسة الجيولوجية الفرصة بعد الإعلان الذي أصدرته الحكومة المكسيكية، وقالوا إن جهود شركة ميك سنسيتس بيّنت أن الأبحاث في هذا المجال ستؤدي بسهولة إلى تطبيق التكنولوجيا بشكل عملي. أشاد مركز القانون البيئي الدولي باستجابة الحكومة المكسيكية، ودعا "جميع الحكومات إلى اتخاذ الإجراءات لحظر تجارب الهندسة الجيولوجية الشمسية التي تتم في الهواء الطلق وعمليات تطوير هذه التكنولوجيا وتطبيقها".

اقرأ أيضاً: الإجراءات الهندسية الجيولوجية قد تؤدي إلى التقليل من التفاوت الاقتصادي العالمي

يدّعي الكثير من نقاد هذا المجال أنه تم بالفعل فرض حظر مؤقت على إجراء تجارب الهندسة الجيولوجية التي تتم في الهواء الطلق بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للتنوّع الحيوي. وهو ادعاء ذُكر أيضاً في البيان الذي أصدرته الحكومة المكسيكية. مع ذلك، قال الباحثون في مجال الهندسة الجيولوجية منذ زمن طويل إن هذا الادعاء ناجم عن تفسير غير صحيح لهذه الاتفاقية. وصف مؤلفو ورقة بحثية نُشرت في عام 2016 سلّطت الضوء على "5 ممارسات في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية لم تعد ملاءمة" هذا الادعاء بأنه "غير دقيق من نواحٍ عدة".

انتقد الباحثون في مجال الهندسة الجيولوجية ونقاد هذا المجال على حد سواء قرار إطلاق المناطيد من المكسيك دون الحصول على أي موافقات. قالت تالاتي في رسالة عبر البريد الإلكتروني إن استجابة الحكومة المكسيكية "تسلّط الضوء على الطريقة المتهورة التي تصرفت وفقها شركة ميك سنسيتس"، وأضافت: "إن الذهاب إلى بلد آخر والقيام بنشاطات تشبه التجارب العلمية دون مشاورة الأطراف المعنية أو الإعلان عن هذه النشاطات هو أمر غير مقبول".

قال آيسمان من قبل إن ما دفعه لتأسيس شركة ميك سنسيتس هو مكافحة مخاطر التغيّر المناخي المتزايدة. أمل آيسمان بأن إجراء التجارب سيتسبب في تقدّم مجال الهندسة الجيولوجية الذي واجه الباحثون فيه مراراً وتكراراً، في خضم الانتقادات واسعة النطاق، تحدّيات صعبة عندما يتعلق الأمر بإجراء التجارب الميدانية ضيقة النطاق.

لا تزال تبعات ممارسات شركة ميك سنسيتس وردود الفعل المحتملة عليها على هذا المجال مجهولة بالنسبة للباحثين في الهندسة الجيولوجية.

أسس عدد متزايد من الدول والجامعات برامج بحثية رسمية في مجال الهندسة الجيولوجية. بالإضافة إلى ذلك، يخطط بعض العلماء في هذا المجال لإجراء التجارب ضيقة النطاق والخاضعة للرقابة في الأماكن المفتوحة، مثل إحدى المجموعات البحثية في جامعة هارفارد، والتي عملت لزمن طويل على إجراء الدراسات حول المناطيد الجوية. أجرى باحثون أستراليون بالفعل أولى التجارب الميدانية في مجال تبييض السحب البحرية، وقاموا أيضاً بجمع البيانات من هذه التجارب. ينطوي هذا المجال على نهج مختلف يعتمد على رش حبيبات الملح لزيادة قدرة السحب الساحلية على عكس ضوء الشمس.

أثار هذا النهج بعض المخاوف الأكبر مع ازدياد رواجه في المجتمع العلمي. في أوائل عام 2022، دعت مجموعة من عشرات العلماء الذين يعملون في مختلف المجالات إلى إبرام "اتفاقية دولية تنص على عدم استخدام تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية الشمسية". طالبت هذه الدول بحظر التجارب في الأماكن المفتوحة ومنع وكالات التمويل الوطنية من دعم تطوير تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية الشمسية.

اقرأ أيضاً: مواجهة التغير المناخي: هل تتسرع الشركات بعقد آمالها على طحالب الكِلب؟

"حجّة إنسانية محقّة"

أكّد الباحثون في مجال الهندسة الجيولوجية أنهم يريدون استكشاف إمكانات هذه التكنولوجيا نظراً لأنها قد تفيد في تقليل عدد الوفيات بشكل كبير مع تزايد انتشار موجات الحر والمجاعات وحرائق الغابات وغيرها من الظواهر الجوية المتطرفة في العقود القادمة.

قالت مؤلفة كتاب "ما بعد الهندسة الجيولوجية: مأساة المناخ، الإصلاح، والترميم" (Geoengineering: Climate Tragedy, Repair, and Restoration)، هولي باك (Holly Buck)، في مقال رأيٍ نشر في موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو، منتقدةً الحظر الذي طالب العلماء بتطبيقه في عام 2022: "يمكن أن تساعد الهندسة الجيولوجية الشمسية في التخفيف من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى حد كبير، كما يمكن أن تساعدنا في التخفيف من الآثار الثانوية الخطيرة، مثل انخفاض غلة المحاصيل وزيادة تواتر الأعاصير وشدّتها"، وأضافت: "لا نعلم بعد الآثار الجانبية لهذه التكنولوجيا، لكن هناك حجّة إنسانية محقّة تدعم السعي لتعلم المزيد عن هذا المجال".

يعتقد الكثيرون أيضاً أن تطبيق تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية من قبل دولة أو جهة فاعلة ما بغض النظر عن المخاطر أو غياب الإجماع الدولي هو أمر حتمي، وذلك نظراً لأن إطلاق المواد في طبقة الستراتوسفير يعتبر سهلاً نسبياً. لذلك، يقول بعض الخبراء إن الخيار الأسلم هو إجراء الأبحاث التي قد تكشف عن أكثر الطرق أماناً وفعالية لتطبيق تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية، أو تحدد المخاطر الكبيرة قبل أن تقوم جهة ما بإطلاق المواد في الغلاف الجوي على نطاق واسع.

كتب مؤلفو تقرير نُشر عام 2017، وأوصى ضمنه برنامج أبحاث التغيير العالمي الأميركي (US Global Change Research Program)، والذي يدير الأبحاث المناخية المدعومة فيدرالياً، لأول مرة بإجراء الدراسات في مجال الهندسة الجيولوجية: "تصبح الحاجة لفهم كل من إمكانات وقيود التدخلات المناخية وآثارها الجانبية أكثر بديهية مع الإدراك أن بعض الجهات، مثل البلدان الأخرى والقطاع الخاص، قد تقرر إجراء تجارب التدخّل بشكل مستقل عن حكومة الولايات المتحدة".

تتمثل إحدى المخاوف الرئيسية التي وصفها العلماء لموقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو في أن عمليات إطلاق المناطيد الأولية التي تجريها شركة ميك سنسيتس ومحاولتها لطرح منتجاتها تجارياً ستشوه صورة مجال الهندسة الجيولوجية بالنسبة لعوام الناس وصانعي السياسات.

يقول المحاضر في التغيّر المناخي والهندسة الجيولوجية الشمسية في كلية لندن الجامعية، بيتر إرفاين (Peter Irvine): "أعتقد أنه من المحتمل أن يتم الخلط بين العلماء الجديين والتجارب الدقيقة من جهة، والأشخاص الذين قد يطلقون المناطيد الجوية ويحاولون كسب المال من هذه التجارب".

يضيف إرفاين قائلاً: "هناك الكثير من العلماء الذين يعتقدون أن دراسة فكرة المناطيد بجدية تستحق العناء، وذلك لأن تطبيقها قد يخفف من آثار التغيّر المناخي بشكل ملحوظ. مع ذلك، لا يجب علينا أن نتسبب في آثار سلبية جديدة في محاولتنا للتخفيف من تلك الموجودة بالفعل. وهنا تكمن المشكلة في فكرة المناطيد".

اقرأ أيضاً: هل ينجح الرمل الأخضر في التقاط ثاني أكسيد الكربون ومواجهة التغير المناخي؟

يقول إرفاين أيضاً إنه ليس متأكداً مما إذا تسببت المناطيد التي تم إطلاقها في أثر تبريدي، أو إذا ستتسبب في أثر تبريدي في المستقبل، ويشير إلى أنه ليس من الواضح ما إذا دعمت الحكومة المكسيكية إجراء التجارب في مجال الهندسة الجيولوجية في المقام الأول. لا يعتقد إرفاين أن هذا الحدث وحده من شأنه أن يدفع الحكومة الفيدرالية الأميركية إلى التراجع عن خططها لإنشاء برنامج بحثي وصياغة مبادئ توجيهية لهذا المجال، أو إلى ثني العلماء عن مواصلة إجراء الأبحاث فيه.

"حاجة ملحّة"

يقول خبير اقتصاد المناخ في كلية كولومبيا للأعمال، غيرنوت فاغنر (Gernot Wagner)، والذي درس عن كثب القضايا المتعلقة بالهندسة الجيولوجية، إن فرض حظر مؤقت على تطبيق تكنولوجيا الهندسة الجيولوجية الشمسية يعتبر خياراً ملائماً حالياً لأن المجتمع العلمي يفتقر للمعلومات الكافية لتطبيق التكنولوجيا على نطاق واسع. لكن يؤكد فاغنر أنه بالوقت نفسه، هذا هو السبب الذي يجعل إجراء الأبحاث العلمية في هذا المجال بالغ الضرورة، وذلك حتى يتمكن العلماء من فهم الهندسة الجيولوجية بشكل أفضل.

قد لا تكون جميع عواقب الجدل القائم حالياً سيئة بالنسبة لمجال الهندسة الجيولوجية؛ إذ يأمل البعض في أن تحفّز حادثة شركة ميك سنسيتس وعواقبها المزيد من الدول لوضع قواعد واضحة بهدف توجيه الأبحاث، أو تحفيز إجراء اتفاقيات الرقابة الدولية التي تقول تالاتي إن هناك "حاجة ملحة" لوجودها.

بالإضافة إلى ذلك، يقول بعض الخبراء إن العوامل مثل الاستجابة شديدة السلبية لنشاطات شركة ميك سنسيتس، ورد الفعل العنيف من قبل الحكومة المكسيكية، بالإضافة إلى النقص المحتمل في الطلب على أرصدة التبريد في السوق، ستقلل احتمالية تأسيس الشركات الناشئة الجديدة الهادفة للربح في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية، وإجراء عمليات إطلاق المناطيد الممولة ذاتياً.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: زراعة الأشجار أكثر أهمية بكثير لمواجهة التغير المناخي مما كنا نعتقد

مع ذلك، يتفق معظم الباحثين في مجال الهندسة الجيولوجية الذين أجرى موقع إم آي تي تكنولوجي ريفيو مقابلات معهم على أن قيام هذه الشركة الناشئة المدعومة برأس المال المغامر بإجراء التجارب في بلد أجنبي دون الحصول على الموافقة، وسعيها لإتمام هذه التجارب بسرعة والتسبب في اضطراب مجال الهندسة الجيولوجية البحثي كان تصرفاً غير مقبول. يخشى الكثيرون من أنه لا يزال من المحتمل أن تشوه ممارسات هذه الشركة صورة هذا المجال البحثي الذي يعاني بالفعل من صعوبات كبيرة حتى في إجراء أبسط التجارب.