ما تأثير ثورة تشات جي بي تي على الاقتصاد؟

19 دقيقة
ما تأثير ثورة تشات جي بي تي على الاقتصاد؟
مصدر الصورة: ستيفاني أرنيت. إم آي تي تي آر

مهما كانت الدوافع، التي يمكن أن تصل في بعض الأحيان إلى مرحلة الأوهام والهلوسة، فقد انطلقت حمى الذهب الخاصة بالذكاء الاصطناعي على مدار الأشهر العديدة الماضية للتنقيب بحثاً عن فرص الأعمال التي يمكن استثمار نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي فيها، مثل تشات جي بي تي (ChatGPT). وحالياً، فإن مطوري التطبيقات، والشركات الناشئة المدعومة برأس مال استثماري، وحتى بعض الشركات الضخمة المعروفة على مستوى العالم، يسعون جميعاً إلى استكشاف البوت المذهل لتوليد النصوص وإدراك قدراته، والذي أطلقته أوبن أيه آي (OpenAI) في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم.

صرخة واحدة تلف العالم: كيف سنستثمر تشات جي بي تي؟

وإذا أصغينا جيداً، قد نستطيع سماع التساؤلات الصارخة الصادرة عن المكاتب في جميع أنحاء العالم: "ما الذي سنفعله بتشات جي بي تي؟ كيف يمكننا استثماره لتحقيق الأرباح؟".

ولكن، وعلى الرغم من أن الشركات ورؤساءها التنفيذيين يرون في هذا البوت فرصة واضحة للربح، فإن التأثير المحتمل لهذه التكنولوجيا على العاملين والاقتصاد بشكل عام يبدو أقل وضوحاً بكثير. فعلى الرغم من سلبياتها الواضحة –وأهمها الميل إلى ابتداع المعلومات المختلفة- فإن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية التي تم إطلاقها مؤخراً، بما فيها تشات جي بي تي، تحمل قدرات واعدة بأتمتة جميع المهام التي كنا نعتقد أنها تقتصر على الابتكار والتفكير البشري، بدءاً من الكتابة وانتهاءً بإنشاء الأشكال البيانية والتلخيص وتحليل البيانات. ولهذا، ما زال الاقتصاديون يشعرون بالحيرة إزاء تأثير هذه الأنظمة على الوظائف، وعلى الإنتاجية بشكل عام.

وبالنظر إلى جميع التطورات التي شهدناها في الذكاء الاصطناعي وغيره من الأدوات الرقمية على مدى العقد الماضي، سنجد أن سجلها في تحسين الازدهار وتحفيز النمو الاقتصادي ليس مشجعاً على الإطلاق. ومع أن بعض المستثمرين ورواد الأعمال حققوا الثراء الفاحش، إلا أن معظم الناس لم يستفيدوا من هذه التطورات بشيء يذكر. بل إن الأتمتة تسببت بفقدان بعضهم لوظائفهم.

أما النمو الاقتصادي، وهو المعيار المعبر عن زيادة ثراء الدول وازدهارها، فقد تضاءل منذ عام 2005 تقريباً في الولايات المتحدة ومعظم الاقتصادات المتقدمة، وعلى وجه الخصوص، المملكة المتحدة. ومع تضاؤل النمو الاقتصادي، بقيت الأجور على حالها بالنسبة للكثيرين.

أما النمو في الإنتاجية في ذلك الوقت فقد بقي محصوراً في بضعة قطاعات، مثل خدمات المعلومات، وفي الولايات المتحدة، بقي محصوراً في بضع مدن فقط، مثل سان خوسيه وسان فرانسيسكو وسياتل وبوسطن.

هل سيؤدي تشات جي بي تي إلى تفاقم التفاوت في الدخل والثروة في الولايات المتحدة والكثير من البلدان الأخرى، بعد أن وصل هذا التفاوت مسبقاً إلى مستويات تثير القلق؟ أم أنه سيساعد على التقليل من هذا التفاوت؟ وهل يستطيع، في الواقع، تلبية حاجتنا الملحة إلى زيادة الإنتاجية بقوة؟

اقرأ أيضاً: كيف يستخدم خبراء الذكاء الاصطناعي جي بي تي 4؟

يعتمد تشات جي بي تي، بقدراته الشبيهة بقدرات البشر على الكتابة، ودال-إي 2 (DALL-E 2)، وهو منتج آخر من منتجات أوبن أيه آي، على نماذج لغوية كبيرة مدربة باستخدام كميات هائلة من البيانات. وينطبق هذا على البوتات المنافسة، مثل كلود (Claude) من أنثروبيك (Anthropic) وبارد (Bard) من جوجل (Google). شهدت النماذج التي تُسمى أساسية، مثل جي بي تي 3.5 (GPT 3.5) من أوبن أيه آي، والذي يعتمد عليه تشات جي بي تي، أو النموذج اللغوي المنافس من جوجل، لامدا (LaMDA)، الذي يعتمد عليه بارد، تطوراً سريعاً في السنوات القليلة الماضية.

وتزداد قدرة هذه النماذج بصورة متواصلة، حيث يتم تدريبها على كميات أكبر من البيانات، كما أن عدد المعاملات الوسيطة –وهي المتحولات التي يتم تعديل قيمتها ضمن النماذج- يشهد ازدياداً حاداً. فمنذ فترة وجيزة، أطلقت أوبن أيه آي إصدارها الأحدث، جي بي تي 4. وعلى حين لم تفصح أوبن أيه آي عن مدى ضخامته، فمن الممكن أن نخمن هذا بأنفسنا، فنموذج جي بي تي 3، الذي يحتوي على 175 مليار معامل، كان أضخم من جي بي تي 2 بمئة مرة تقريباً.

ولكن إطلاق تشات جي بي تي في أواخر السنة الماضية هو الحدث الذي غيّر كل شيء بالنسبة للكثير من المستخدمين. فهو سهل الاستخدام إلى درجة كبيرة، كما أنه جذاب في قدرته على تركيب النصوص بسرعة وبصياغة شبيهة بصياغة البشر، مثل وصفات الطعام، وخطط التمارين الرياضية، بل وحتى –وبشكل مفاجئ للجميع- التعليمات الحاسوبية. وبالنسبة للكثيرين ممن لا يمتلكون الخبرة في هذا المجال، بما في ذلك عدد متزايد من رواد الأعمال ورجال الأعمال، فإن نموذج الدردشة سهل الاستخدام يمثل دليلاً واضحاً على القدرات الكامنة في ثورة الذكاء الاصطناعي، فهو أقل تجريداً وأقرب إلى الاستخدام العملي من التكنولوجيات الأخرى التي لا تقل عنه مستوى، ولكنها معزولة وكانت قيد التطوير لدى الأكاديميين وبعض الشركات المختصة بالتكنولوجيات المتطورة في السنوات القليلة الماضية.

اقرأ أيضاً: ما هو «جي بي تي-4»؟ ولماذا قد يمثل علامة فارقة في تاريخ الذكاء الاصطناعي؟

لقد بدأ مستثمرو رؤوس الأموال المغامرة وغيرهم من المستثمرين بضخ الملايين في الشركات المختصة بالذكاء الاصطناعي التوليدي، كما أن قائمة التطبيقات والخدمات التي تعتمد على النماذج اللغوية الكبيرة تزداد طولاً يوماً بعد يوم.

ومن بين كبار الجهات المستثمرة، استثمرت مايكروسوفت (Microsoft) مبلغاً تقول التقارير إنه يصل إلى 10 مليارات دولار في أوبن أيه آي ونظام تشات جي بي تي الخاص بها، على أمل أن تتمكن هذه التكنولوجيا من أن تبعث الحياة من جديد في محرك البحث بينغ (Bing) الذي يكافح منذ فترة طويلة، وتضيف قدرات جديدة لمنتجات أوفيس (Office) الخاصة بها. وفي أوائل مارس/ آذار، قالت سيلزفورس (Salesforce) إنها ستدمج تطبيقاً لتشات جي بي تي في منتجها سلاك (Slack) ذائع الصيت، وأعلنت في الوقت نفسه عن تأسيس صندوق بقيمة 250 مليون دولار للاستثمار في الشركات الناشئة للذكاء الاصطناعي التوليدي. وتطول قائمة الشركات التي تسعى للاستفادة من هذا النظام والاستفادة منه، بدءاً من كوكا كولا (Coca Cola) وصولاً إلى جنرال موتورز (GM). يبدو أن الجميع وضع رؤية للاستفادة من تشات جي بي تي.

وفي هذه الأثناء، أعلنت جوجل (Google) عن أنها ستستخدم أدواتها الجديدة للذكاء الاصطناعي التوليدي في جيميل (Gmail) ودوكس (Docs) وبعض من منتجاتها الشهيرة الأخرى.

هل سيؤدي تشات جي بي تي إلى تفاقم التفاوت في الدخل والثروة في الولايات المتحدة والكثير من البلدان الأخرى، بعد أن وصل هذا التفاوت مسبقاً إلى مستويات تثير القلق؟ أم أنه سيساعد على التقليل من هذا التفاوت؟
وعلى الرغم من كل هذا، لا يبدو أن أي شركة توصلت إلى تطبيق قادر على اكتساح المنافسة حتى الآن. ومع اندفاع الشركات نحو ابتكار وسائل مختلفة للاستفادة من هذه التكنولوجيا، يقول الاقتصاديون إنها فرصة نادرة لإعادة النظر في كيفية الاستفادة إلى أقصى حد من الجيل الجديد من تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.

تقول مديرة أبحاث الذكاء الاصطناعي والعمالة والاقتصاد في الشراكة حول الذكاء الاصطناعي في سان فرانسيسكو، كاتيا كلينوفا: "نحن نعيش لحظة أصبحنا فيها قادرين على لمس هذه التكنولوجيا. وقد أصبحنا قادرين على تجربتها والتلاعب بها دون الحاجة إلى أي مهارات في البرمجة. ويمكن للكثيرين أن يبدؤوا بوضع تصوراتهم حول تأثير هذه التكنولوجيا على سير العمل، وآفاق الوظائف لديهم".

وتضيف كلينوفا: "والسؤال الأهم: من سيجني الفوائد؟ ومن سيتخلف عن الركب؟"، حيث تعمل كلينوفا على وضع تقرير يوضح الآثار المحتملة للذكاء الاصطناعي التوليدي على العمل، ويتضمن توصيات لاستخدام هذه التكنولوجيا لتعزيز الازدهار المشترك.

تقول وجهة النظر المتفائلة إن هذه التكنولوجيا ستثبت أنها أداة عالية الفاعلية بالنسبة للكثير من العاملين، حيث ستحسّن من قدراتهم وتعزز خبراتهم، مع توفير دفعة إيجابية للاقتصاد بشكل إجمالي. أما وجهة النظر المتشائمة فتقول إن الشركات ستستخدمها بكل بساطة لتدمير الوظائف التي كانت تُعتَبَر عصية على الأتمتة، وهي وظائف تتميز برواتب عالية، وتحتاج إلى قدرات ابتكارية ومعالجة منطقية، وسيؤدي هذا إلى زيادة ثراء بعض شركات التكنولوجيات المتطورة وبعض أفراد نخبة التكنولوجيا، ولكنه لن يؤثر على النمو الاقتصادي الإجمالي إلا بدرجة ضعيفة.

مساعدة الأشخاص الأقل مهارة

إن التساؤلات حول أثر تشات جي بي تي على مكان العمل ليست مجرد تأملات نظرية.

ففي أحد التحليلات الحديثة، وجدت مجموعة مؤلفة من تينا إيلوندو وسام مانينغ وباميلا ميشكين من أوبن أيه آي، ودانييل روك من جامعة بنسلفانيا، أن النماذج اللغوية الكبيرة مثل جي بي تي يمكن أن تؤثر بشكل أو بآخر على 80% من القوى العاملة الأميركية. ووفقاً لتقديرات الباحثين، فإن نماذج الذكاء الاصطناعي، مثل جي بي تي 4 وغيرها من الأدوات البرمجية المُنتَظَرة، ستؤثر بدرجة كبيرة على 19% من الوظائف، حيث تصبح 50% من المهام في تلك الوظائف "عرضة للتأثر". وعلى العكس مما رأيناه في الموجات السابقة من الأتمتة، تشير نتائج البحث إلى أن الوظائف ذات الرواتب المرتفعة ستتعرض إلى أقوى التأثيرات. ومن الأمثلة على الأشخاص الذين ستتعرض وظائفهم إلى التأثيرات الأقوى: الكتّاب، ومصممو الويب والمصممون الرقميون، ومختصو التحليل الكمي المالي، ومهندسو البلوك تشين (في حال كنت تفكر في تغيير تخصصك إلى أي من هذه المجالات).

اقرأ أيضاً: كيف تسعى أوبن أيه آي إلى جعل تشات جي بي تي أكثر أماناً وأقل تحيزاً؟

يقول الخبير الاقتصادي المختص بالعمالة في معهد إم آي تي، وأحد أهم الخبراء في تأثير التكنولوجيا على الوظائف، ديفيد أوتور: "لا شك في أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيصبح محط استثمار فعلي، لا مجرد تقليعة عابرة". ويضيف: "فقد بدأت الشركات القانونية باستخدامه، وهذا مثال واحد فقط. فقد أدّى إلى فتح مجال جديد من المهام القابلة للأتمتة".

ديفيد أوتور في مكتبه
ديفيد أوتور. مصدر الصورة: بيتر تينزر/ إم آي تي

أمضى أوتور عدة سنوات في توثيق الأثر التدميري للتكنولوجيات الرقمية المتطورة على الكثير من وظائف التصنيع والوظائف المكتبية الروتينية التي كانت تتميز من قبل برواتبها المرتفعة. ولكنه يقول إن تشات جي بي تي وغيره من تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي أدّت إلى تغيير هذه الحسابات.

ففي السابق، تم استخدام الذكاء الاصطناعي لأتمتة بعض الأعمال المكتبية، ولكنها كانت مهاماً رتيبة وروتينية مؤلفة من خطوات محددة يمكن ترميزها لتتولى الآلة تنفيذها. أما الآن، بات بإمكان الذكاء الاصطناعي القيام بمهام كنا نعتبرها إبداعية، مثل الكتابة وإنتاج الرسوميات. ويقول: "من الواضح جداً لأي شخص يعير الموضوع بعض الانتباه أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يفتح الباب أمام تحويل الكثير من المهام اليومية التي كنا نعتقد أن أتمتتها صعبة إلى عمليات محوسبة".

اقرأ أيضاً: ميتا تنافس تشات جي بي تي بنموذج ذكاء اصطناعي يتحدث 20 لغة

يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يساعد شرائح واسعة من الناس على اكتساب المهارات المطلوبة للتنافس مع من يتمتعون بدرجات أعلى من التعليم والخبرة.
ولكن مبعث القلق ليس البطالة واسعة النطاق التي يمكن أن يؤدي إليها تشات جي بي تي –فكما يشير أوتور، هناك الكثير من الأعمال والوظائف في الولايات المتحدة- بل احتمال قيام الشركات بالاستعاضة عن الوظائف المكتبية ذات الرواتب المرتفعة نسبياً بهذا الشكل الجديد من الأتمتة، ما يؤدي إلى انتقال هؤلاء العمال إلى وظائف خدمية برواتب أقل، على حين تؤول جميع الفوائد إلى المجموعة الصغيرة من الأشخاص القادرين على استغلال هذه التكنولوجيا الجديدة بأفضل ما يمكن.

وفي هذا السيناريو، يمكن للشركات والعاملين البارعين في مجال التكنولوجيا إتقان استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بسرعة، ما يجعلهم أكثر إنتاجية إلى درجة الهيمنة على أماكن العمل والقطاعات الخاصة بهم. أما من يمتلكون مستوى أقل من المهارات والمعرفة التكنولوجية، فسوف يتخلفون عن الركب.

ولكن أوتور يلاحظ نتيجة ممكنة أكثر إيجابية، فقد يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أن يساعد شرائح واسعة من الناس على اكتساب المهارات المطلوبة للتنافس مع من يتمتعون بدرجات أعلى من التعليم والخبرة.

وتشير إحدى أولى الدراسات المعمقة التي أجريت حول أثر جي بي تي على الإنتاجية إلى أن هذه النتيجة ممكنة.

فقد أجرى طالبا دراسات عليا من قسم الاقتصاد في إم آي تي، شاكد نوي وويتني تشانغ، تجربة شارك فيها المئات من أصحاب المهن الحاصلين على شهادات جامعية الذين يعملون في مجالات مثل التسويق والموارد البشرية، وطلبا من نصفهم استخدام تشات جي بي تي في مهامهم اليومية، وطلبا من النصف الآخر عدم استخدامه. وكانت النتيجة أن تشات جي بي تي أدّى إلى زيادة الإنتاجية الإجمالية (وهي ليست بالنتيجة المفاجئة)، أما النتيجة الأخرى المثيرة للاهتمام فهي أن أداة الذكاء الاصطناعي قدمت أكبر قدر من المساعدة إلى العاملين الأقل مهارة وخبرة، وساعدت على تخفيف فجوة الأداء بين الموظفين. وبتعبير آخر، فقد أصبح الكتّاب غير المهرة أكثر مهارة بكثير، أما الكتاب المهرة فقد أصبحوا ببساطة أكثر سرعة بقليل.

اقرأ أيضاً: كيف غيّر «تشات جي بي تي» نظرة العالم إلى الذكاء الاصطناعي؟

تشير النتائج الأولية إلى أن تشات جي بي تي -وغيره من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية- يمكن أن يزيد من مهارة الأشخاص الذين يجدون صعوبة في العثور على عمل، وفقاً للمصطلحات الاقتصادية. يقول أوتور إن ثمة الكثير من العمال المخضرمين "الكاسدين" بعد فصلهم من أعمالهم في المكاتب والمصانع على مدى العقود الماضية. وإذا أمكن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي ليكون أداةً عملية لتوسيع خبراتهم وتزويدهم بالمهارات الاختصاصية المطلوبة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم، حيث توجد الكثير من الوظائف المتاحة، فمن الممكن أن يؤدي هذا إلى تنشيط القوة العاملة من جديد.

إن تحديد السيناريو الأكثر إيجابية سيتطلب بذل المزيد من الجهد في التفكير بالطريقة الأمثل لاستثمار هذه التكنولوجيا.

يقول أوتور: "لا أعتقد أننا يجب أن ننظر إلى التكنولوجيا على أنها شيء خارج عن السيطرة وعلينا أن نتكيف معه. فنظراً لأنها في طور الإنشاء، يمكن استثمارها وتطويرها بعدة أساليب مختلفة". ويضيف: "ولن نبالغ مهما قلنا عن أهمية التخطيط للأغراض التي صُنعت لأجلها".

وببساطة، فنحن على مفترق طرق، فإما أن يصبح بإمكان العاملين الأقل مهارة الدخول في مجال أصبح معروفاً الآن باسم العمل المعرفي، وبالتدريج، وإما أن يتمكن العاملون الأكثر كفاءة في مجال العمل المعرفي من زيادة أفضلياتهم على الآخرين بدرجة كبيرة للغاية. وستعتمد النتيجة النهائية، إلى حد كبير، على كيفية استخدام أرباب العمل للأدوات التي على شاكلة تشات جي بي تي. ولكن الخيار الأفضل أصبح في متناول أيدينا منذ الآن.

أكثر من شبيه بالبشر

ولكن، ما زال لدينا بعض الأسباب التي تدعو إلى التشاؤم. ففي الربيع الماضي، وفي كتاب "فخ تورينغ: الإمكانات الواعدة والمخاطر الكامنة للذكاء الاصطناعي الشبيه بالبشر" (The Turing Trap: The Promise And Peril of Human-Like Artificial Intillegence)، حذّر الاقتصادي من جامعة ستانفورد، إريك برينيولفسون، من أن مبتكري الذكاء الاصطناعي كانوا مهووسين بشأن التركيز على فكرة محاكاة الذكاء البشري بدلاً من العثور على أساليب لاستخدام هذه التكنولوجيا على نحو يُتيح للبشر القيام بمهام جديدة وتوسيع قدراتهم.

وفقاً لبرينيولفسون، فإن التركيز على محاكاة القدرات البشرية أدّى إلى ابتكار تكنولوجيات تُتيح للآلات الحلول محل البشر ببساطة، فانخفضت الأجور، وتفاقم التفاوت في الثروة والدخل. وهذه الظاهرة، كما قال في كتابه، هي "التفسير الوحيد الأكثر منطقية" لزيادة تركيز الثروات.

إريك برينيولفسون. مصدر الصورة: نيلسون برنارد. غيتي إيميدجيز
إريك برينيولفسون. مصدر الصورة: نيلسون برنارد. غيتي إيميدجيز

وبعد سنة من هذا، يقول برينيولفسون إن تشات جي بي تي، بمخرجاته الشبيهة بما يقدّمه البشر، "دليل فاقع الوضوح على ما كنت قد حذّرت منه": فقد "أشعل" الجدل حول إمكانية استخدام التكنولوجيات الجديدة لمنح الناس قدرات جديدة بدلاً من الحلول محلهم ببساطة.

وعلى الرغم من مخاوفه بشأن استمرار مطوري الذكاء الاصطناعي في اندفاعتهم العمياء نحو تحقيق التفوق فيما بينهم في محاكاة القدرات البشرية في أعمالهم الإبداعية، فإن برينيولفسون، وهو مدير مختبر الاقتصاد الرقمي في جامعة ستانفورد، يشعر بالتفاؤل عموماً إزاء تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. فمنذ سنتين، تنبأ بحدوث زيادة كبيرة في الإنتاجية بسبب الذكاء الاصطناعي وغيره من التكنولوجيات الرقمية، وفي هذه الفترة، يشعر بالتفاؤل حول أثر نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة.

ويُعزى تفاؤل برينيولفسون بنسبة كبيرة، إلى قناعته بأن الشركات يمكن أن تستفيد بدرجة كبيرة من استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل تشات جي بي تي، لتوسيع عروضها وتحسين إنتاجية القوى العاملة فيها. يقول برينيولفسون: "إن هذه الأنظمة أداة إبداعية رائعة. إنها ممتازة في مساعدتك على فعل أشياء جديدة. والتعامل معها يتجاوز فكرة القيام بالمهمة نفسها بتكلفة أقل". ويضيف قائلاً إن "هذه الأنظمة ستصبح مهمة للغاية" شريطة تخلّي الشركات والمطورين "عن طريقة التفكير التي تقول إنه لم تعد ثمة حاجة للبشر".

اقرأ أيضاً: هل يجب عليك استخدام بوت تشات جي بي تي للتقدم للوظائف؟

ويتنبأ بأن الذكاء الاصطناعي سيتمكن خلال عقد واحد من تحقيق نمو اقتصادي بقيمة عدة تريليونات من الدولارات في الولايات المتحدة. ويقول: "تتألف النسبة الكبرى من اقتصادنا بشكل أساسي من العاملين في مجال المعرفة والعاملين في مجال المعلومات، ومن الصعب أن نتخيل فئة لن يطولها التأثير مهما كان نوعها -وإنْ جزئياً على الأقل- من فئات العاملين في مجال المعلومات".

أما تحديد الموعد الذي ستبدأ فيه الإنتاجية باكتساب هذه النمو السريع -في حال حدوثه- فهو مسألة تخمين اقتصادي. وربما ما نحتاج إليه هو التحلّي ببعض الصبر فقط.

ففي 1987، قال روبرت سولو -وهو اقتصادي من إم آي تي، والفائز بجائزة نوبل لذلك العام لتفسيره أثر الابتكار في دفع النمو الاقتصادي- مقولته الشهيرة: "يمكننا أن نرى عصر الحاسوب في كل مكان بسهولة، باستثناء إحصائيات الإنتاجية". ولم تظهر آثار عصر الحاسوب –خاصةً التطورات في أنصاف النواقل- على بيانات الإنتاجية حتى وقت لاحق، في منتصف التسعينيات، حيث وجدت الشركات عدة طرق للاستفادة من القدرات الحاسوبية التي كانت تتناقص تكلفتها باستمرار، إضافة إلى التطورات المرافقة في البرمجيات.

هل يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع الذكاء الاصطناعي؟ يقول الاقتصادي في جامعة تورونتو، آفي غولدفارب، إن هذا يعتمد على قدرتنا على التوصل إلى طرق لاستخدام أحدث التكنولوجيات في إحداث تحول كبير في الأعمال، كما فعلنا في بدايات عصر الحاسوب.

ويضيف قائلاً إن الشركات -حتى الآن- لا يزال استخدامها للذكاء الاصطناعي مقتصراً على القيام ببعض المهام على نحو أفضل بقليل فقط: "سيزيد الذكاء الاصطناعي من الفاعلية، قد يزيد من الإنتاجية بشكل تدريجي، ولكن المكاسب الفعلية في المحصلة ستكون صغيرة. لأن كل ما تقوم به الشركات هو تنفيذ المهام نفسها على نحو أفضل بقليل". ولكن، حسب رأيه، "لا يقتصر مفعول التكنولوجيا على تمكيننا من القيام بما كنا نقوم به على الدوام على نحو أفضل بقليل أو أقل تكلفة بقليل. بل قد يتيح لنا ابتكار عمليات جديدة تقدم قيمة جديدة للعملاء".

ولكن، حتى لو سلّمنا بأن هذا الأمر سيحدث فعلاً، فإن الحكم بشأن موعد حدوثه مع الذكاء الاصطناعي التوليدي يظل مسألة غامضة. يقول غولدفارب: "عندما نكتشف أوجه الاستفادة التي ستتيحها الكتابة الاحترافية بكميات كبيرة أمام شتى القطاعات لإنجاز أعمالها بأسلوب مختلف، أو -فيما يخص النموذج دال-إي- أوجه الاستفادة التي سيتيحها لنا التصميم الرسومي بكميات كبيرة لإنجاز أعمالنا بأسلوب مختلف، فإننا سنشهد حينها زيادة حادة في مستوى الإنتاجية". ويضيف مستدركاً: "ولكن، لا أدري ما إذا كان هذا سيحدث في الأسبوع المقبل أو السنة المقبلة أو بعد عشر سنوات".

اقرأ أيضاً: كيف سيحدث بوت الدردشة تشات جي بي تي ثورة في مجال الأعمال؟

صراع على النفوذ

عندما تمكن الاقتصادي في جامعة فرجينيا والزميل في معهد بروكينغز، أنتون كورينيك، من الوصول إلى الجيل الجديد من النماذج اللغوية الكبيرة مثل تشات جي بي تي، قام بما قام به كثيرون منا، فقد بدأ يجربها في محاولة منه لمعرفة إمكانية استخدامها في عمله. وقام بتوثيق أداء هذه النماذج بدقة في ورقة بحثية نشرها في فبراير/ شباط، حيث تحدث عن أدائها في 25 "حالة استخدام"، بدءاً من العصف الدماغي وتحرير النصوص (مفيدة جداً) وصولاً إلى البرمجة (جيدة للغاية مع بعض المساعدة) وانتهاءً بالحسابات الرياضية (أداء مخيّب).

ويقول كورينيك إن تشات جي بي تي قدّم شرحاً خاطئاً لأحد أهم المفاهيم الأساسية في الاقتصاد، وأضاف قائلاً: "لقد ارتكب خطأ فادحاً". ولكن هذه الغلطة، والتي اكتشفها بسهولة، ظهرت ضئيلة مقارنة بالفوائد. ويقول: "يمكنني أن أؤكد أن هذا النموذج جعلني أكثر إنتاجية بالنسبة لشخص يعمل في مجال يعتمد على القدرات المعرفية. وأصبحت على ثقة تامة بأنني أغدو أكثر إنتاجية عند استخدام نموذج لغوي".

عندما تم إطلاق جي بي تي 4، قام باختبار أدائه باستخدام الأسئلة الخمسة والعشرين نفسها التي استخدمها في الورقة البحثية التي نشرها في فبراير/ شباط، وتبين له أن أداءه أفضل. حيث يقول كورينيك إن عدد المرات التي يبتدع فيها (النموذج) المعلومات دون أساس واقعي قد تراجع، كما أنه حقق نتائج أفضل بكثير في أسئلة الرياضيات.

ويُضيف أيضاً أنه بما أن بوتات الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جي بي تي، قادرة على أتمتة الأعمال المعرفية، على عكس المهام الجسدية التي تتطلب الاستثمار في التجهيزات والبنى التحتية، فمن الممكن أن نشهد زيادة في الإنتاجية الاقتصادية بسرعة أكبر مما حدث في الثورات التكنولوجية السابقة. ويقول: "أعتقد أننا فد نشهد زيادة أكبر في الإنتاجية بحلول نهاية هذا السنة، ومن المؤكد أننا سنشهدها بحلول عام 2024".

من سيتحكم بمستقبل هذه التكنولوجيا المذهلة؟
ويقول، إضافة إلى هذا، فإن قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي على زيادة إنتاجية الباحثين من أمثاله يمكن أن تشكّل دافعاً لتعزيز التقدم التكنولوجي على المدى الطويل.

وقد بدأت إمكانات النماذج اللغوية الكبيرة تؤثّر إيجابياً في الأبحاث التي تجري في العلوم الفيزيائية. وعلى سبيل المثال، فإن بيريند سميت، الذي يدير مختبر الهندسة الكيميائية في المعهد السويسري الفدرالي للتكنولوجيا في لوزان بسويسرا، خبير في استخدام التعلم الآلي لاكتشاف مواد جديدة. وفي السنة الماضية، وبعد أن تمكن أحد طلابه في الدراسات العليا، كيفن مايك يابلونكا، من الحصول على بعض النتائج المثيرة للاهتمام باستخدام جي بي تي 3، طلب سميت منه أن يبيّن أن جي بي تي 3 غير مفيد في الواقع في الدراسات المعقدة التي تجريها مجموعته باستخدام التعلم الآلي للتنبؤ بخواص المواد المركبة.

ويقول سميت مازحاً: "لقد فشل في مهمته فشلاً ذريعاً".

وتبيّن أن بضع دقائق من المعايرة الدقيقة باستخدام بعض الأمثلة المهمة تكفي لرفع أداء النموذج إلى مستوى أدوات التعلم الآلي المتطورة، والمصممة خصيصاً لفرع الكيمياء، في الإجابة عن الأسئلة الأساسية حول أشياء مثل مستوى قابلية مركب كيميائي ما للانحلال أو التفاعل. ويكفي تلقيمه باسم مركب ما كي يتنبأ بمجموعة متنوعة من الخصائص بناء على بنيته.

وعلى غرار أثرها في مجالات أخرى من العمل، يمكن للنماذج اللغوية الكبيرة أن تساعد على توسيع خبرات مختصي الكيمياء غير الخبراء وقدراتهم، وهم في هذه الحالة مختصو الكيمياء الذين يمتلكون معلومات محدودة حول أدوات التعلم الآلي المعقدة. وبما أن استخدام هذا النموذج بسيط ومشابه لعملية البحث في المراجع العلمية، "فمن الممكن أن يفتح أبواب مجال التعلم الآلي أمام جميع الكيميائيين"، على حد تعبير يابلونكا.

إن هذه النتائج المثيرة للاهتمام –والمفاجِئة- ليست سوى إشارات واعدة إلى القدرات الكبيرة التي تنطوي عليها الأشكال الجديدة من الذكاء الاصطناعي، والتي يمكن أن تؤثر إيجاباً على نطاق واسع من الأعمال الإبداعية، بما في ذلك الاكتشاف العلمي، إضافة إلى سهولة استخدامها التي قد تصل إلى درجة صادمة للجميع. ولكن هذا يستوجب أيضاً طرح بعض الأسئلة الجوهرية.

اقرأ أيضاً: بيل غيتس: الذكاء الاصطناعي سيغزو كافة القطاعات ويتولى مهام الموظفين

فمع تزايد وضوح القدرات الكامنة للذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيراتها على الاقتصاد والوظائف، فمن سيحدد الرؤية المتعلقة بتوجيه أساليب تصميم هذه الأدوات وتطبيقها؟ من سيتحكم بمستقبل هذه التكنولوجيا المذهلة؟

ديان كويل. مصدر الصورة: ديفيد ليفينسون/ غيتي إميدجيز
ديان كويل. مصدر الصورة: ديفيد ليفينسون/ غيتي إميدجيز
تقول الاقتصادية في جامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، ديان كويل، إن أحد المخاوف المتعلقة بقدرات النماذج اللغوية الكبيرة هو هيمنة الشركات التكنولوجية الكبيرة التي تتحكم بمعظم العالم الرقمي عليها. وتشير كويل إلى أن جوجل (Google) وميتا (Meta) تعرضان نماذجهما اللغوية الكبيرة الخاصة بهما إلى جانب أوبن أيه آي، وتمثّل التكاليف الضخمة للإمكانات الحاسوبية المطلوبة لتشغيل هذه البرمجيات عائقاً أمام أي شخص (أو جهة) يسعى للمنافسة.

وتقول كويل إنها تشعر بالقلق من أن هذه الشركات تعتمد نماذج أعمال متشابهة، فهي "نماذج أعمال تعتمد على الإعلانات، ومن ثم، من الواضح أنك ستحصل على أسلوب موحد من التفكير إلى حد ما، إذا لم يكن لديك أشخاص متنوعون من حيث أنماطهم ودوافعهم".

 

تقرّ كويل بعدم وجود حلول سهلة، ولكنها تقول إن أحد الحلول الممكنة هو تأسيس مؤسسة بحثية عالمية ممولة من القطاع العام للذكاء الاصطناعي التوليدي، على غرار سيرن (CERN)، المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية والتي مقرها في جنيف، حيث تم ابتكار شبكة الويب العالمية في 1989. وستكون مزودة بالقدرات الحاسوبية الضخمة المطلوبة لتشغيل النماذج، والخبرات العلمية المناسبة لمواصلة تطوير هذه التكنولوجيا.

وتقول كويل إن القيام بعمل كهذا خارج إطار الشركات التكنولوجية الكبيرة "سيؤدي إلى تعزيز التنوع في الدوافع التي توجه عمل مبتكري النماذج عند إنتاجها".

اقرأ أيضاً: أهم الاستخدامات المحتملة لنموذج تشات جي بي تي في منتجات شركة مايكروسوفت

وعلى الرغم من أن السياسات العامة التي يمكن أن تساعد على ضمان استخدام النماذج اللغوية الكبيرة لخدمة الصالح العام ما زالت غير واضحة، كما تقول كويل، فقد أصبح من الواضح أن الخيارات حول طريقة استخدام التكنولوجيا يجب ألا تُترَك لأهواء السوق ورغبات بضع شركات مهيمنة.

ويقدّم لنا التاريخ الكثير من الأمثلة حول أهمية الأبحاث التي تعتمد على التمويل الحكومي في تطوير التكنولوجيات التي تحقق الازدهار على نطاق واسع. فقبل اختراع الويب في سيرن بوقت طويل، أدّى مشروع آخر بتمويل من القطاع العام في أواخر الستينيات إلى ظهور الإنترنت، عندما قدمت وزارة الدفاع الأميركية الدعم إلى أربانيت (ARPANET)، التي حققت الريادة في ابتكار أساليب للتواصل المتبادل بين عدة حواسيب.

في كتاب "النفوذ والتقدم: صراع البشرية على التكنولوجيا والازدهار طوال 1000 عام" (Power and Progress: Our 1000-Year Struggle Over Technology & Prosperity)، يقدّم الاقتصاديان من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، دارون أيسموغلو وسيمون جونسون، استعراضاً جذاباً لتاريخ التطور التكنولوجي، وسجله المتقلب في نشر الازدهار على نطاق واسع. ويمكن تلخيص وجهة نظر المؤلفين بأنه من الأهمية القصوى بمكان توجيه التطور التكنولوجي على نحو مدروس بطرق تؤمّن الفوائد على أوسع نطاق ممكن، وألا تجعل النخبة الأثرياء أكثر ثراءً وحسب.

سيمون جونسون (يسار) ودارون أيسموغلو
سيمون جونسون ودارون أيسموغلو مصدر الصورة: ستيفن جافي. صندوق النقد الدولي عبر غيتي إيميدجيز، جارود تشارني/ إم آي تي

وبدءاً من العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى بداية السبعينيات، شهد الاقتصاد الأميركي تغيرات تكنولوجية سريعة وتأثر بها، فقد ارتفعت أجور الشريحة العظمى من العاملين، في حين تراجعت مستويات التفاوت في الدخل بحدة. أما السبب الكامن وراء ذلك، وفقاً لأيسموغلو وجونسون، فهو أن التطورات التكنولوجية استُخدمت لإحداث مهام ووظائف جديدة، على حين ساعدت الضغوط الاجتماعية والسياسية على ضمان مشاركة المكاسب بين العاملين وأرباب العمل بشكل متكافئ أكثر مما يحدث الآن.

وخلافاً لذلك، كما يورد الكاتبان، فإن الانتقال الجديد والسريع إلى استخدام روبوتات التصنيع في "المعقل الصناعي للاقتصاد الأميركي في منطقة وسط غرب أميركا" على مدى العقود القليلة الماضية أدّى ببساطة إلى تدمير الوظائف و"تراجع طويل الأمد على المستوى إقليم الغرب الأوسط الأميركي".

ويُعتبر هذا الكتاب، والذي سيصدر في مايو/ أيار، مهماً على وجه الخصوص لفهم النتائج المحتملة للتطورات السريعة للذكاء الاصطناعي، وكيف ستؤثر القرارات المتعلقة بالطريقة المثلى لاستثمار هذه التطورات علينا جميعاً في المستقبل. وفي مقابلة أجراها مؤخراً، قال أيسموغلو إنهما كانا يعملان على الكتاب عندما تم إطلاق جي بي تي 3 لأول مرة. وأضاف بنبرة تجمع بين المزاح والجدّيّة: "لقد تنبأنا بظهور تشات جي بي تي".

ويؤكد أيسموغلو أن مبتكري الذكاء الاصطناعي "يسيرون في الاتجاه الخاطئ". فالمنظومة البنيوية التطويرية برمتها، التي يقوم عليها الذكاء الاصطناعي، "تعمل في طور الأتمتة، ولكن الذكاء الاصطناعي التوليدي، أو الذكاء الاصطناعي بشكل عام، لا يحتوي في جوهره على أي شيء يدفعنا نحو هذا الاتجاه بالضرورة. وإنما نحن نتجه وفقما تسوقنا نماذج الأعمال ورؤية الأشخاص في أوبن أيه آي ومايكروسوفت وأوساط رؤوس الأموال المغامرة".

وإذا صدقنا بأنه من الممكن لنا أن نوجه مسار تطور التكنولوجيا، فالسؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو: من المقصود بكلمة "نحن"؟ وإزاء هذه النقطة تحديداً، وصل أيسموغلو وجونسون إلى أعلى درجات الجرأة وإثارة الجدل. فقد كتبا ما يلي: "يجب على المجتمع والقيّمين عليه أن يتوقفوا عن النظر بذهول وإعجاب إلى مليارديرات التكنولوجيا وأجنداتهم. ليس من الضروري أن يكون الشخص خبيراً في الذكاء الاصطناعي كي يكون لديه رأي بشأن اتجاه التطور ومستقبل المجتمع الذي يعتمد على هذه التكنولوجيات".

اقرأ أيضاً: لماذا عليك ألا تثق بمحركات البحث التي تعمل بالذكاء الاصطناعي؟

لا شك بأن مبتكري تشات جي بي تي ورجال الأعمال المشاركين في طرحه في السوق، ولا سيما الرئيس التنفيذي لأوبن أيه آي، سام ألتمان، يستحقون الاعتراف بفضلهم في تقديم تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي المذهلة هذه إلى العامة، فقدراتها الكامنة كبيرة للغاية. ولكن، هذا لا يعني أن رغباتنا في توجيه هذه التكنولوجيا وكيفية استخدامنا يجب أن تكون متطابقة بالضرورة مع رؤيتهم وطموحاتهم.

ووفقاً لرؤيتهم، فإن الهدف النهائي هو بناء الذكاء العام الاصطناعي، والذي يمكن –في حال سارت كل الخطط على ما يرام- أن يقودنا إلى تحقيق مستوى عالٍ من الرخاء الاقتصادي والوفرة. بالنسبة لألتمان، على سبيل المثال، فقد روّج لهذه الرؤية مطولاً في الفترة الماضية، وقدّم مبررات إضافية لموقفه القديم الداعم للدخل الأساسي الشامل (UBI)، وذلك لتوفير دخل للأشخاص الذين لا يتمتعون بالمهارات التكنولوجية. قد يبدو هذا مغرياً بالنسبة للبعض. فسوف يحصلون على الأموال دون مقابل ودون عمل! إنه أمر رائع!

ولكن المرعب في الأمر هي الافتراضات التي تقوم عليها هذه الرؤية، فهي تقول إن الذكاء الاصطناعي يتحرك على مسار سيؤدي إلى تدمير الوظائف والمهن لا محالة، وليس أمام معظمنا سوى الاستمتاع بهذه الرحلة (التي لا نعلم بعد ما إذا كانت مجانية!). إن وجهة النظر هذه تكاد تنفي تماماً إمكانية استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لإحداث طفرة على صعيدي العمل الإبداعي والإنتاجية لجميع العاملين، بشكل يتجاوز النخبة من الملمّين بالتكنولوجيا، وذلك بمساعدتهم على إطلاق العنان لمواهبهم وقدراتهم الذهنية الكامنة. ولا يوجد حوار يستحق الذكر حول فكرة استخدام التكنولوجيا لتحقيق الازدهار على نطاق واسع، وذلك بتوسيع القدرات والخبرات البشرية على كامل امتداد القوى العاملة.

تستطيع الشركات أن تختار استخدام تشات جي بي تي لمنح عامليها المزيد من الخبرات والإمكانات، أو لتسريحهم وتخفيف التكاليف ببساطة.
ووفقما كتب أيسموغلو وجونسون قائلَين: "نحن نتجه نحو تفاقم في تفاوت توزيع الثروة، وهو أمر غير محتوم، ولكنه سيحدث نتيجة الخيارات الخاطئة بشأن الجهات التي تتمتع بالنفوذ في المجتمع، واتجاه تطور التكنولوجيا. وفي الواقع، فإن الدخل الأساسي الشامل يتناسب تماماً مع رؤية نخبة الأعمال والتكنولوجيا، الذين يعتبرون أنفسهم الفئة المتنورة من الموهوبين، والذين يجدر بهم تمويل البقية بسخاء".

وقد كتب أيسموغلو وجونسون عن عدة أدوات يمكن استخدامها لتحقيق "توازن أفضل في المجال التكنولوجي"، بدءاً من الإصلاحات الضريبية وغيرها من السياسات الحكومية التي يمكن أن تشجع على تصميم أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر توافقاً مع عموم العاملين، وصولاً إلى إصلاحات تسمح للمؤسسات الأكاديمية بالاستغناء عن تمويل الشركات التكنولوجية الكبيرة في أبحاث علوم الحاسوب ومدارس الأعمال.

ولكن، وفق اعتراف الاقتصاديَين، فإن هذه الإصلاحات "هدف بعيد المنال"، كما أن نزعة المجتمع الإصلاحية نحو إعادة توجيه التغير التكنولوجي "ليست بالأمر الذي يمكن أن نتوقع حدوثه بسرعة".

اقرأ أيضاً: الجميع في انتظار جي بي تي 4 وأوبن أيه آي ما زالت تحاول إصلاح الإصدار السابق

أما الخبر السار فهو أننا نستطيع، في الواقع، أن نقرر كيفية استخدامنا لتشات جي بي تي وغيره من النماذج اللغوية الكبيرة. ومع إطلاق عدد كبير من التطبيقات المبنية على هذه التكنولوجيا في السوق بسرعة، ستتاح الفرصة أمام الشركات والأفراد لاختيار كيفية الاستفادة منها، حيث يمكن للشركات أن تختار استخدام تشات جي بي تي لمنح عامليها المزيد من الخبرات والإمكانات، أو لتسريحهم وتخفيف التكاليف ببساطة.

أما التطور الإيجابي الآخر، فثمة على الأقل بعض الزخم في المشاريع مفتوحة المصدر في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما يمكن أن يكسر احتكار الشركات التكنولوجية الكبيرة لهذه النماذج. ومن الجدير بالذكر أن أكثر من ألف باحث من مختلف أنحاء العالم اشتركوا في العام الماضي في بناء نموذج لغوي كبير يحمل اسم بلوم (Bloom)، ويستطيع هذا النموذج صياغة النصوص بعدة لغات، مثل الفرنسية والإسبانية والعربية. وإذا كانت كويل وغيرها على حق، فإن زيادة التمويل العام لأبحاث الذكاء الاصطناعي يمكن أن تساعد على تغيير مسار الإنجازات المستقبلية.

يرفض برينيولفسون من ستانفورد أن يقول إنه متفائل بالمستقبل. ولكنه لا يستطيع إنكار حماسته إزاء هذه التكنولوجيا في هذه الفترة. ويقول: "يمكن أن نشهد عقداً من الزمن من أفضل العقود التي مرّت علينا على الإطلاق إذا أحسنّا استخدام هذه التكنولوجيا في الاتجاه الصحيح، ولكنه أمر غير مؤكد".