لنكن واضحين منذ البداية: عند نقطةٍ زمنية ما في المستقبل، لن يكون بالإمكان مشاركة صور جديدة على فيسبوك، ولن تظهر فيديوهات جديدة على يوتيوب، ولن نشاهد مسلسلات جديدة على نتفليكس، ولن تظهر مقالات جديدة على ويكيبيديا أو أي موقع آخر. ببساطة، وفي لحظةٍ ما بالمستقبل، لن نكون قادرين على زيادة أي معلومة جديدة على وسائط التخزين الرقمية وشبكة الإنترنت، لأن مقدار الطاقة المتاح لن يسمح لنا بالاستمرار في ضخ المزيد من المعلومات والبيانات على الإنترنت (وغيرها من الشبكات الرقمية).
هذا الأمر هو ما دفع البعض للتفكير في المستقبل والسيناريوهات المحتملة الناتجة عن تزايد الاعتمادية على المحتوى الرقمي وما يرافق ذلك من متطلبات استهلاك الطاقة التي قد تصل إلى حدٍ لن نستطيع بعدها الاستمرار في إنشاء محتوى رقمي جديد، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بمأزق المعلومات (Information Catastrophe).
ما هو البت؟
نحن نعلم أن البت هو الواحدة المستخدمة من أجل توصيف البيانات الرقمية التي يمكن أن تأخذ حالتين: إما صفر أو واحد. لغوياً، تمثل كلمة بت (bit) باللغة الإنجليزية دمجاً لكلمتين هما (Binary) و (Digit) وترجمتها الحرفية تعني “رقم ثنائي”، وهو أمرٌ مفهوم؛ لأن البت بحد ذاته قد يكون إما صفراً أو واحداً، أي أنه سيكون حالة من اثنتين، فقط.
بهذه الصورة فإن البت نفسه عبارة عن وسيلة نستخدمها للتعبير عن كمية المعلومات والبيانات التي نتبادلها، ويمكن القول إن البت عبارة عن كيان رياضي مجرّد (Abstract Mathematical Entity)؛ كونه لا يمتلك أي معنى فيزيائي. هكذا إذن، وفي خلال حديثنا اليوميّ، فإننا نعتمد على أمرٍ لا يمكن لمسه والإحساس به بشكلٍ مباشر -أي البت- من أجل وصف العديد من الأمور والأجهزة والعمليات والنشاطات التي يتزايد اعتمادنا عليها يوماً بعد يوم.
لا يبدو أن الوضع سيبقى على ما هو عليه، أو هكذا يجد ميلفين فوبسون (Melvin Vopson)، الباحث في مجال الفيزياء في جامعة بورتسموث في بريطانيا؛ حيث طرح فوبسون نظريةً فريدة من نوعها في مجال المعلومات وفهمنا لماهية “البت”، وبدلاً من التعامل معه على أنه كائن رياضي مجرّد غير محسوس، يعتقد فوبسون أنه يمكن اعتبار المعلومات الرقمية حالة جديدة من المادة؛ نحن نعلم أن الحالات الأساسية للمادة هي الصلبة والغازية والسائلة والبلازما، إلا أن فوبسون -وبالاعتماد على بعض مبادئ الفيزياء الحرارية- استطاع أن يطور مفهوماً جديداً يتيح لنا النظر للبت الرقميّ على أنه الحالة الخامسة من المادة وأنه يمثل كياناً فيزيائياً ذا كتلة يمكن قياسها بالاعتماد على الطاقة اللازمة لإنشاء أو حذف بت واحد.
مبدأ التكافؤ بين الكتلة وطاقة المعلومات
نشر فوبسون ورقة بحثية في سنة 2019 طرح فيها مفهوماً يمكن عبره الربط بين الطاقة اللازمة لإنشاء أو حذف البت الرقمي، وبين الكتلة التي يمكن أن يمتلكها البت عند النظر إليه أو فهمه على أنه جسيم أو كيان فيزيائي، وتم تسمية هذا المفهوم بمبدأ التكافؤ بين كتلة وطاقة المعلومات (Mass-Energy-Information Equivalence Principle).
استند فوبسون في طرحه على مبدأ آخر تم تطويره في بداية ستينيات القرن الماضي عبر الفيزيائي الألماني رولف لانداور (Rolf Landauer)، الذي كان يعمل آنذاك في شركة آي بي إم؛ حيث توصل لانداور إلى تحديد الحد الأدنى للطاقة اللازمة لإنشاء (تخزين) أو حذف بت رقمي واحد، وهي القيمة التي تم التعبير عنها بالمعادلة:
يشير الحد KB إلى ثابت بولتزمان في الفيزياء، ويشير الحد T إلى درجة الحرارة التي تم عندها تخزين أو حذف البت الرقمي، وبناءً على هذه الفرضية توصل فوبسون إلى معادلةٍ يمكن عبرها حساب كتلة البت الرقمي:
وجد فوبسون خلال حساباته أن كتلة البت الواحد عند إنشائه بدرجة حرارة الغرفة ستكون 3.19×10^-38 كيلوغرام، وهو بالطبع رقم ضئيل جداً ويمثل الحالة المثالية، أي أنه يأخذ بعين الاعتبار الحد الأدنى للطاقة اللازمة لإنشاء البت. من الجدير بالذكر في هذا السياق أن حسابات فوبسون ونظريته الخاصة بكتلة البت لا تزال ضمن الإطار التجريبي ولا يوجد أي إثبات تجريبي عليها.
ماذا عن كمية المعلومات التي نقوم بتوليدها؟
إذا كنا قادرين على معرفة كتلة البت الواحد، فسنكون قادرين -عبر بمعرفة عدد البتات الكلي الذي يتم توليده- على معرفة الكتلة الكلية لكامل المعلومات المتوفرة. بحسب تقديرات شركة آي بي إم، فإننا نقوم يومياً بتوليد 2.5 كوانتليون بايت من المعلومات في كل يوم (البايت هو 8-بت)، وبذلك فإن عدد البتات التي يتم توليدها سنوياً هو:
عند ضرب الرقم السابق (أي عدد البتات الكلي في سنة واحدة) في كتلة البت الواحد، فإننا سنحصل على كتلة المعلومات التي تم إنشاؤها خلال سنة واحدة، التي تبلغ -اعتماداً على الأرقام السابقة- حوالي 23.3×10^-17 كيلوغرام، وهو لا يزال رقماً صغيراً جداً وأصغر بترليونات المرات من وزن حبة الرز الواحدة.
كتلة وطاقة البتات: مأزق المعلومات
كافة الحسابات السابقة مبنية على التقديرات التي قدمتها شركة آي بي إم حول كمية المعلومات التي يتم إنشاؤها في كل يوم، ولكن مع تزايد الاعتماد على شبكة الإنترنت والمحتوى الرقمي، ومع تزايد عدد المستخدمين حول العالم، فإن كمية المعلومات التي يتم إنشاؤها ستكون في حالة نمو مستمر. كم ستكون إذاً كمية المعلومات بعد فترةٍ زمنية محددة؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب اللجوء لمعادلة النمو الأسيّ في الرياضيات (قدمنا شرحاً تفصيلياً حولها في مقالٍ سابق مرتبط بفهم تزايد إصابات فيروس كورونا). وباختصار، تتيح معادلة النمو الأسيّ معرفة كمية معينة بعد فترة محددة اعتماداً على معرفة عدد من الأمور مثل معدل النمو والكمية الأساسية التي ننطلق منها. وفي حالة عدد البتات، استخدم فوبسون المعادلة التالية لحساب كمية البتات بعد عددٍ من السنوات قدره n اعتماداً على قيمٍ مختلفة لمعدل النمو f انطلاقاً من كمية المعلومات التي يتم توليدها سنوياً في وقت الحاليّ، أي Nb:
تكشف المعادلة السابقة عن أنه في حالة معدل نمو قدره 1%، سيكون عدد البتات الرقمية التي تم إنشاؤها مساوياً لعدد الذرات على كوكب الأرض (أي 10^50) بعد حوالي 6000 سنة، ولكن هذا الرقم سينخفض إلى 340 سنة عند معدل نمو قدره 20%، وأخيراً، وفي حال كان معدل النمو الخاص بزيادة إنشاء المحتوى الرقمي (أي البتات) مساوياً لـ 50%، فإن عدد البتات الكليّ سيصبح مساوياً لعدد كل الذرات على كوكب الأرض بعد 150 سنة فقط.
ماذا عن الكتلة؟ قام فوبسون أيضاً بتطوير معادلةٍ تتيح حساب الكتلة الناتجة عن البتات الرقمية بعد عددٍ معين من السنوات، وذلك أيضاً باللجوء لفرضية لانداور (أي الحد الأدنى للطاقة اللازمة لإنشاء أو حذف بت رقمي واحد) وبالاستعانة بمعادلة النموّ الأسيّ، وذلك من أجل قيم مختلفة لمعدل النمو f. وجد فوبسون أن كتلة البتات الرقمية (المعلومات) ستصبح مساوية لنصف كتلة الأرض بعد حوالي 225 سنة من الآن عند معدل نمو قدره 50%، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حساباته تستند للحد الأدنى للطاقة اللازمة لإنشاء البتات.
بنفس الطريقة قام فوبسون بحساب الطاقة اللازمة للحفاظ على كافة المعلومات التي تم إنشاؤها، ووجد أنها ستكون مساوية لحوالي 18.5×10^15 واط، وذلك بعد 130 سنة من الآن في حال كان معدل نمو المعلومات الرقمية مساوياً لـ 50%. من الجدير بالذكر أن هذه القيمة الطاقية تعادل كمية الطاقة المستهلكة سنوياً على كوكب الأرض بأكمله، بما يشمل كافة النشاطات الصناعية والبشرية.
هل نحن مقبلون على مأزق معلومات؟
بحسب الحسابات والنظريات التي قدمها فوبسون، فإننا مقبلون لا محالة على مأزقٍ كبير فيما يتعلق بالمعلومات الرقمية؛ حيث سنصل إلى النقطة التي لن نكون عندها قادرين على الاستمرار في إنشاء المعلومات الجديدة وتخزينها؛ نظراً لأن الموارد الطاقية المتاحة محدودة. يجب الإشارة أيضاً إلى أن مبدأ التكافؤ بين كتلة وطاقة المعلومات هو أيضاً مبدأ نظري بحد ذاته، وفرضية اعتبار البتات الرقمية حالة جديدة للمادة لا تزال فكرة لم تحظَ بعد بقبول المجتمع العلمي، كما أنها تستوجب إثباتاتٍ تجريبية.
بكل الأحوال، تظهر الحسابات أنه عند لحظةٍ معينة ستتجاوز عدد البتات الرقمية التي تم إنشاؤها كامل عدد الذرات على كوكب الأرض، وسيتطلب عدد هائل من المعلومات -مثل هذه- كميةً كبيرة من الطاقة لضمان سلامتها، وهو ما سيفرض بدوره تحدياتٍ كبيرة على كافة الأصعدة؛ كيف سنستمر في تطوير عالمنا الرقميّ إن لم نكن قادرين على تزويده بالطاقة اللازمة لعمله؟ ربما هذا هو السؤال الأبرز الذي يجب أن يتم العمل على إيجاد جوابٍ له، بغض النظر إن اعتبرنا البت الرقمي حالة جديدة للمادة أم لا، وبغض النظر إن أصبحت كتلة المعلومات نصف كتلة الأرض أم لا.