توطئة: قطرات السوائل الصغيرة أهم بكثير مما نظن!
قد يبدو للكثيرين مشهد هطول المطر حادثةً طبيعية تبعث على نوعٍ معينٍ من المشاعر. البعض قد يحبها والآخر قد يبغضها، ولكنها بالنسبة لغالبيتنا لن تتعدى كونها قطرات ماء تسقط على الأرض، أليس كذلك؟ أو لنستذكر مشهدًا آخر قد نتفق جميعًا على كونه من أكثر الأمور إزعاجاً لنا في الحياة اليومية: تساقط قطرات الماء من الصنبور بعد إغلاقه. بالنسبة لمعظمنا فإن هذه الظاهرة هي مجرّد أمرٌ مزعج نتمنى ألا نسمعه. هل يمكن أن تمتلك هذه الظواهر أهميةً أكثر بكثير مما نتخيل؟ في الواقع نعم؛ إذ إن فهم حدوث هذه الأمور وكيفية انتشار قطرات الماء واتجاه حركتها بعد ارتطامها بالأسطح المُختلفة قد يساعدنا كثيراً في فهم كيفية انتقال البكتيريا، والأمراض والعوامل المُعدية المُختلفة.
هذا ما عملت عليه البروفيسورة الجزائرية ليديا بورويبة، الباحثة في جامعة إم آي تي بمجال ديناميك السوائل. اختارت البروفيسورة الجزائرية دراسة حركة السوائل بعد إنهائها لدراسة الرياضيات التطبيقية لتحاول أن تجد رابطاً بين الكيفية التي تتحرك بها السوائل البيولوجية الناتجة عن حوادث يومية وعابرة مثل العطس أو السعال، مما أفضى إلى تحقيق تقدمٍ في العلوم الصحية وتوسيعٍ لإدراكنا لكيفية انتقال الأوبئة والأمراض.
الدراسة، التحصيل العلمي والمنصب الحالي
ولدت ليديا بورويبة في الجزائر، وتذكر كيف أنها أثناء نشأتها بدأت بتكوين اهتمامٍ كبير بالرياضيات كلغة تواصل عالمية يمكن استخدامها لوصف كافة الظواهر من حولنا. إحدى الحوادث التي أثرت في ليديا أثناء نشأتها هو وفاة جدتها بمرض السل، وهو أحد الأمراض المعدية التي يمكن أن تنتقل عبر السوائل. شكلت هذه الخبرات دافعاً لليديا لاحقاً لتدرس الرياضيات حتى حصلت على درجة الدكتوراه في الرياضيات التطبيقية من جامعة ماك جيل في كندا عام 2008 بعد دراستها للاضطرابات الدائرية المُتجانسة من الناحية العددية والنظرية، ثم تابعت مسيرتها لتقرر استثمار معارفها الرياضية من أجل دراسة وتحليل انتقال العوامل الممرضة والبكتيريا كنتيجةٍ لديناميكية وحركة السوائل المختلفة.
انضمت ليديا بورويبة إلى قسم الرياضيات في جامعة إم آي تي عام 2010 ضمن كلية الهندسة المدنية والبيئية وذلك بعد أن عملت في مجال نمذجة انتقال الأمراض في تورونتو، كندا، وبشكلٍ خاص أمراض الرشح (الانفلونزا). تشغل بورويبة في الوقت الحالي منصب أستاذة مُساعدة حيث تتابع أعمالها البحثية بمجال ديناميكية وحركة السوائل، والنمذجة الرياضية للتّجمعات السكانية وانتقال الأمراض وذلك بهدف فهم وتوضيح الآليات الفيزيائية الأساسية المرتبطة بعلم الآوبئة وانتقال العوامل الممرضة عند البشر، والحيوانات والنباتات.
قامت البروفيسورة بورويبة بتأسيس مخبر ديناميكية السوائل وانتقال الأمراض حيث تتمحور أبحاثها حول تطوير تجارب متقدمة بمجال ديناميكية حركة السوائل، والفيزياء الحيوية والرياضيات التطبيقية، وعلى الرّغم من تقدّم التقنيات المخبرية والبرمجية التي تستخدمها البروفيسورة بورويبة في مخبرها، إلا أن الكثير من أبحاثها يرتكز على مبدأ بسيط: تسجيل حركة السوائل الناتجة عن ظواهر بسيطة، مثل العطس، حيث أجرت الكثير من التّجارب التحليلية لفهم كيفية حركة الكتلة السائلة الناتجة عن العطس وتأثيرها على مُحيطها.
بحسب الصفحة الرسمية للمجموعة البحثية الخاصة بالبروفيسورة بورويبة، فإن هدف عملها البحثيّ يندرج تحت قسمين رئيسيين:
- تفاعل العوامل الممرضة مع السوائل Pathogen-Fluid Interaction
- التدفقات البينية Interfacial Flows: تفاعل العوامل الممرضة مع السوائل ضمن الفقاعات، والقطرات والأغشية
- تجزئة السوائل Fluid Fragmentation وتشكل القطرات المؤدية لتلوث الهواء
- الاضطرابات والتدفقات متعددة الأطوار
- الاختلاط، والانتقال، والترسب والتلوث الناتج عن العوامل الممرضة
- حالات عدم الاستقرار المرتبطة بديناميكية السوائل والأمواج
- السوائل الحيوية المرنة Viscoelastic and Biological Fluids
- الصحة وانتقال الأمراض Health, Disease Transmission
- ديناميكيات الاتصال وانتقال العوامل الممرضة
- الأمراض المنتقلة في بيئة المستشفيات، والأمراض التنفسية، والأمراض المنتقلة بالماء
- التلوث وانتقال الأمراض ضمن البيئات المغلقة مُتضمنةً المستشفيات
تعتمد البروفيسورة بورويبة وفريقها البحثيّ على منهجيةٍ علمية تستند لطريقتين أساسيتين: طرق نظرية مبنية على الرياضيات التطبيقية والتي تتضمن الجبر الخطي، والديناميك اللاخطي، وطرق تجريبية مبنية على مشاهدة التدفقات، وتقنيات التصوير عالي السرعة، والتقنيات المجهرية ومعالجة الصورة.
أعمال بحثية ونشاطات أكاديمية
قامت البروفيسورة بورويبة بنشر العديد من الأبحاث المرتبطة بدراسة حركة وديناميكية السوائل عندما يقوم البشر بالسعال أو العطس، فمن ناحية تهدف هذه الدراسات لمعرفة كيفية حركة السوائل بعد العطس وإلى أي مدى يمكن للعطسة الواحدة أن تنقل عوامل ممرضة، ومن ناحيةٍ أخرى للبحث عن ارتباط بين طبيعة ونمط العطسة والحالة الصحية للفرد نفسه.
ففي بحثٍ منشور عام 2014، وجدت البروفيسورة بوريبة وفريقها البحثيّ وجود رابطٍ يشير إلى أن زيادة لزوجة اللعاب ستُساهم بزيادة المسافة التي ستقطعها السوائل الناتجة عن عملية العطس قبل أن تحط على الأرض أو تبقى ضمن الغيمة السائلة الناتجة عن عملية العطس، كما أن البحث نفسه أثبت أن نمط حركة السوائل المشكلة للعطسة الواحدة هو أعقد بكثير مما يظنه الكثيرون، فهي غير مُتجانسة أو مُوّحدة الشكل. بهذه الصورة وعبر فهم أنماط تشتت السوائل بعد العطسة يُمكن معرفة الأشخاص القابلين للتصنيف على أنهم ناشرين سريعين، بمعنى قدرتهم على توليد عطسةٍ ذات مجال انتشار واسع قد تُسهم برفع احتمالية العدوى ، فضلاً عن فهم الطبيعة البيولوجية الداخلية للأشخاص أنفسهم من خلال تحليل نمط وشكل تشتت السوائل بعد العطس. تم إجراء البحث اعتماداً على تقنيات تحليل الصور عالية السرعة لأكثر من 100 عطسة مختلفة.
في عملٍ بحثيّ آخر تم نشره عام 2018، كشفت البروفيسورة بورويبة عن الأخطار المحتملة للفقاعات السائلة من حيث قدرتها على نقل العوامل الممرضة والكائنات الميكروية المرضية، فإذا تم تشكيل فقاعة سائلة مغطاة بالبكتيريا، فإنها ستكون قادرة على المحافظة على شكلها بمعدلٍ أكبر بعشر مرات من الفقاعات السائلة الطبيعية التي لا تحوي أي بكتيريا أو كائناتٍ ميكروية مرضية، حيث تستطيع أن تحافظ على طبيعتها لعدة دقائق بدلاً من ثواني قصيرة، وخلال هذه الفترة سيُصبح الهيكل الخارجيّ للفقاعة أكثر سماكة ما سيؤثر لاحقاً على مدى انتشار البكتيريا والكائنات الميكروية الممرضة التي تحتويها الفقاعة، فكلما كان هيكلها أكثر سماكةً كلما ازداد مدى انتشار القطرات السائلة الناتجة عن انفجار الفقاعة نفسها.
واستكمالاً لأعمالها البحثية الرامية لفهم سلوك السوائل وآلية انتشارها، قامت البروفيسورة بورويبة بنشر بحثٍ آخر هام عام 2018 يهدف لتحديد السماكة التي سيمتلكها الإطار الناتج عن ارتطام قطرةٍ بسطحٍ سائل، وبذلك سيُمكن معرفة عدد، وحجم وسرعة القطرات الصغيرة التي ستقذف من الإطار السائل إلى الهواء. أعربت البروفيسورة بورويبة عن نظرتها لأهمية البحث من ناحية القدرة على استخدام نتائجه في نمذجة وفهم الآلية الفيزيائية لانتشار السوائل من البخاخات، مثل المبيدات الحشرية التي ستصطدم القطرات السائل الخارج منها بأوراق الشجر، أو قطرات المطر التي قد تُسهم بانتشار العوامل المرضية والبكتيريا عند اصطدامها بسطحٍ ملوّث. استخدمت البوفيسورة بورويبة وفريقها البحثيّ نظام تصوير بكثافةٍ ودقةٍ عاليتين للإطارات المُلتقطة والمُخصص لتسجيل حركة ارتطام قطراتٍ سائلة بأسطح مختلفة، ومن ثم تم تحليل هذه الفيديوهات من أجل البحث عن نمطٍ رياضيّ يمكن عبره فهم كيفية تشكل الإطار الناتج عن ارتطام قطرة السائل بالسطح المقابل.
بالإضافة للإسهامات الكبيرة بالمجال البحثيّ، تقوم البروفيسورة بورويبة بتدريس مجموعةٍ من المقررات الدراسية في كلية الهندسة المدنية والبيئية في جامعة إم آي تي، مثل ديناميكية السوائل والأمراض، والديناميك اللاخطي والاضطرابات، وعلم الحساب متعدد المتحولات، والمعادلات التفاضلية، والجبر الخطي والرياضيات التطبيقية في الفيزياء.
جوائز وتكريمات
- جائزة أوليه مادسن لإسهاماتها البارزة في إلهام، الإشراف وتدريس الطلاب (2019)
- جائزة مؤسسة عائلة سميث نظراً لأعمالها المُبتكرة والأبحاث عالية التأثير التي أدت لإنجازاتٍ غير مسبوقة في المجال الطبي الحيوي (2018).
- كرسي إستر وهارولد إردغتون للزمالة البروفيسورية في كلية الهندسة المدنية والبيئية، جامعة إم آي تي
- جائزة تسي تشوك نغ تاي للأبحاث الخلاقة في مجال العلوم الصحية
- اختيارها كعضوة في جمعة سيغما إكسي البحثية تقديراً للأثر الذي أحدثته أبحاثها