لماذا يُعتبر ازدهار مراكز البيانات في أيسلندا مشكلة؟

5 دقائق
يصل متوسط درجة الحرارة المحلية في أيسلندا إلى 5 درجات مئوية، ويساعد الهواء البارد الخارجي على إبقاء مجموعات المخدمات باردة، وعلى تخفيض تكاليف الطاقة، وهو أمر جيد بالنسبة لمنقبي العملات المشفرة وعلماء البيانات النَّهِمين للحوسبة.

تسمى الزاوية الجنوبية الغربية من أيسلندا "ريكيانيسكاجي"، وهي عبارة عن شبه جزيرة بركانية جرداء، تحوي 19,000 نسمة في البلدتين التوأمين كيفلافيك ونياردفيك، إضافة إلى المطار الرئيسي للبلاد.

ويوجد على طرف التجمع السكاني مجمع من الأبنية المعدنية للشركة التكنولوجية أدفانيا، ويبلغ كل مبنى منها تقريباً حجم مسبح أولمبي. ومنذ أقل من 3 سنوات كان هناك 3 مبانٍ، وبحلول أبريل في 2018 أصبح العدد 8، أما اليوم فهي 10، وقد وُضعت الأساسات للمبنى الحادي عشر. ويعود هذا الازدهار جزئياً إلى شيء لا يجده سكان أيسلندا عادة مدعاةً للابتهاج، وهو: الطقس.

يسيطر البرد والضباب والرياح على الأجواء في منطقة شمال الأطلسي، على الرغم من أن الصقيع الشديد لا يحدث كثيراً. ويصل متوسط الحرارة السنوي في العاصمة ريكيافيك إلى حوالي 5 درجات مئوية، وحتى عندما "يلتهب" دفء الصيف، فإن ميزان الحرارة لا يكاد يصل إلى 20 درجة مئوية إلا فيما ندر. ويبدو أن أيسلندا أدركت أن هذا الطقس مناسبٌ تماماً لصناعة محددة، هي: البيانات.

في الواقع، فإن مباني أدفانيا في ريكيانيسكاجي هي مراكز كبيرة للبيانات، وموطن لآلاف الحواسيب. تعمل هذه الحواسيب باستمرار، وتعالج التعليمات، وتنقل البيانات، وتنقب عن البيتكوين. ومراكز البيانات مثل هذه تولد مقادير كبيرة من الحرارة، وتحتاج إلى تبريد متواصل، مما يؤدي عادة إلى استهلاك الكثير من الطاقة. أما في أيسلندا، فإن مراكز البيانات لا تحتاج إلى تشغيل أنظمة التبريد بشكل دائم، بل تسمح ببساطة بدخول الهواء البارد لهذه المنطقة تحت القطبية، وباستخدام نظام التبريد الطبيعي هذا، يُمكن تخفيض التكاليف.

تقول فيرني جلوبال إن أيسلندا هي المكان الوحيد في العالم الذي يمكن فيه تشغيل مركز بيانات بالاعتماد كلياً على الطاقة الخضراء المستدامة.
مصدر الصورة: فيرني جلوبال

نتج عن هذا الأمر توسع كبير لصناعة مراكز البيانات في أيسلندا على مدى السنوات القليلة الماضية، وذلك بقيادة 3 شركات تهيمن على السوق المحلية. تخصص أدفانيا جزءاً كبيراً من حواسيبها للتنقيب عن البيتكوين. وتعمل فيرني جلوبال -التي تأسست في 2012- بشكل أساسي على تلبية احتياجات الحوسبة الخارقة للشركات مثل بي إم دبليو، التي تستخدم الحوسبة الأيسلندية لحسابات معقدة مثل عمليات محاكاة حوادث التحطم. أما الشركة الثالثة، إيتيكس إفيريوير بورياليس، فتقول إنها تخدم العملاء الذين يستخدمون تكنولوجيا البلوك تشين، إضافة إلى العملاء الذين يحتاجون إلى الحوسبة الخارقة.

إذن فكيف يمكن قياس مدى نمو هذه الصناعة؟ تمثل وتيرة عمليات بناء مراكز البيانات إحدى الطرق، ولكن هناك مؤشرات أخرى، مثل مقدار الطاقة المستهلكة. وتتصف مراكز البيانات بنهم لا ينتهي للطاقة، وفي العام الماضي، تزايد استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات الكبيرة بمقدار يزيد على الضعف، ويُتوقع أن يزداد ثانية في 2019 بنسبة تتجاوز 50%.

استهلاك الطاقة للمراكز الكبيرة للبيانات في أيسلندا

توقعات البيانات في 2019.
المصدر: المؤسسة الوطنية للطاقة في أيسلندا

تم بناء الشكل البياني باستخدام داتارابر.

هناك طريقة أخرى للقياس؛ فقد أصبحت هذه الصناعة تمثل جزءاً لا يستهان به من الاقتصاد الأيسلندي. ويشير تقرير من كي بي إم جي إلى أنه في 2016 -وقبل أن يبدأ الازدهار الحالي- كان قطاع مراكز البيانات يساهم في الناتج المحلي الإجمالي بما يقارب 1%. وعلى الرغم من عدم وجود أرقام مؤكدة حول الوضع الحالي، فلا شك في أن التوسع الجديد أدى إلى زيادة دور هذا القطاع في الاقتصاد المحلي.

ويُعزى هذا النمو السريع إلى مجموعة من العوامل، مثل الطقس المناسب، والأسعار التنافسية للكهرباء، وتوافر مصادر الطاقة المتجددة، وذلك وفقاً لإينار هانسين توماسون، مدير المشاريع في "إنفست إن آيسلند"، وهو مشروع مشترك بين القطاعين العام والخاص للترويج لأيسلندا عبر البحار. ويبدو أن البلاد تحاول المحافظة على هذا الزخم؛ حيث إن مشروع إنفست يستخدم شعاراً ترويجياً يصف أيسلندا بأنها "أروع وأبرد مكان لمراكز البيانات".

غير أن التبريد الطبيعي للبيانات ليس ابتكاراً أيسلندياً، وهناك أيضاً منافسة من بلدان شمالية أخرى. وعلى سبيل المثال، فقد افتتحت فيسبوك مركز بيانات طبيعي التبريد في شمال السويد في 2013. كما قررت شركات تكنولوجية عملاقة أخرى، بما فيها جوجل وآبل، أن تبني مراكز بياناتها في البلدان الشمالية. وتتوقع وكالة الطاقة الدانماركية أنه في الفترة بين 2017 و2030، ستساهم مراكز البيانات الجديدة بنسبة 85% من الزيادة المتوقعة لاستهلاك الطاقة لقطاع الأعمال في الدنمارك.

تتنامى صناعة البيانات بسرعة في البلدان الشمالية. وتتوقع الدنمارك أن مراكز البيانات ستساهم بنسبة 85% في الزيادة المتوقعة لاستهلاك الكهرباء بحلول العام 2030.
مصدر الصورة: فيرني جلوبال

مزيد من الأموال، ومزيد من المشاكل

تروج مراكز البيانات في أيسلندا لنفسها على أنها نظيفة، وهو أمر متوقع، نظراً لاعتماد البلاد بشكل كلي عملياً على الكهرباء المولَّدة من المصادر المتجددة، مثل الطاقة الحرارية الأرضية والطاقة الكهرمائية.

غير أن صورة أيسلندا كبلاد للطاقة الخضراء أصبحت أكثر تعقيداً في السنوات الأخيرة؛ حيث إن الاتحاد الأوروبي يعتمد نظاماً شبيهاً ببرامج الإزاحة الكربونية، ويقوم منتجو الطاقة في أيسلندا في إطار هذا النظام ببيع علامات الطاقة الخضراء إلى عملاء في أماكن أخرى من أوروبا، مما يسمح لهم بالقول بأنهم ينتجون الكهرباء من مصادر متجددة، حتى لو لم تكن كذلك في الواقع، لأنها مُزاحة كربونياً عن طريق الإنتاج الأيسلندي.

غير أن هناك تقريراً أوصت الحكومة الأيسلندية بوضعه في 2016 حذَّر من أن مبيعات علامات الطاقة التي لا تخضع لمراقبة مناسبة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى مضاعفة الحسابات، حيث تُنسب نفس المقادير من الطاقة الخضراء إلى الإزاحات الأجنبية والشركات المحلية في نفس الوقت، مما قد يسبب المتاعب بالنسبة للشركات الأيسلندية التي تروج لخدماتها ومنتجاتها على أنها نظيفة تماماً.

ومن ناحية أخرى، ينظر أنصار صناعة البيانات إلى الموضوع بشكل مختلف، ويؤكد إينار هانسين توماسون أن الكهرباء الأيسلندية ما تزال متجددة المصادر، على الرغم من بيع العلامات الخضراء إلى الخارج؛ حيث إن شبكة الطاقة الأيسلندية غير متصلة ببلدان أخرى، ولهذا فإن الطاقة "لا تذهب إلى أي مكان" عند بيع العلامات.

ولكن العلامات ليست المشكلة الوحيدة؛ فقد تعرضت الصناعة مؤخراً إلى انتقادات من الناشطين البيئيين، الذين ينظرون إلى التنقيب عن العملة المشفرة على أنه تضييع لموارد أيسلندا. يقول أندري سناير ماجناسون، وهو مؤلف محلي وبيئي معارض لصناعة البيتكوين في البلاد: "إن الطاقة في أيسلندا ليست غير محدودة"، ويضيف قائلاً إن من الأفضل توفيرها لأشياء أخرى مثل السيارات الكهربائية. ولكن جيسلي كاترينارسون، المسؤول التجاري الأساسي في مراكز بيانات أدفانيا، يقول بدوره إن الطاقة الأيسلندية تُستثمر "بشكل مسؤول للغاية".

وحتى لو تمكنت مراكز البيانات الأيسلندية من حل هذه المشاكل، فقد يقف عامل آخر في وجه النجاح على المدى البعيد، ألا وهو: الاتصال.

يمثل اتصال مراكز البيانات مشكلة في أيسلندا؛ فقد تعطل أحد الخطوط الأساسية إلى جرينلاند وكندا عدة مرات في السنوات الماضية.
مصدر الصورة: فيرني جلوبال

تفصل بين أيسلندا والاقتصادات الأوروبية الكبيرة مسافة 800 كيلومتر من مياه المحيط، وتتصل مع باقي العالم بثلاثة خطوط بحرية لنقل البيانات، ولكن هذا قد لا يكون كافياً للمشاركة في السوق بشكل فعال. وفي الواقع، فإن أحد هذه الكابلات -خط جرينلاند الذي يصل أيسلندا بأميركا الشمالية- تعطَّل في ديسمبر المنصرم، ولم يبقَ لدى أيسلندا لبعض الوقت سوى خطين. ووفقاً لتقرير حكومي من العام 2018، فإن تحسين تنافسية أيسلندا قد يحتاج إلى إضافة المزيد من الخطوط وزيادة المنافسة وتخفيض الأسعار. (ومن الجدير بالذكر أن التحضيرات بدأت لمدِّ كابل رابع قد يصل إلى إيرلندا أو المملكة المتحدة). وإلى ذلك الحين، فإن الشركات التي لا تعتمد فقط على قوة الحوسبة المحضة، والتي تحتاج أيضاً إلى نقل البيانات بسرعة، قد تفضِّل الاستثمار في مكان آخر.

غير أن علماء البيانات ومنقبي العملات المشفرة ما زالوا نَهِمين للمزيد من استطاعة الحوسبة، مما يعني أن الشركات الأيسلندية ستبني المزيد من مراكز البيانات.

وهذا العام، أكملت إيتيكس إفيريوير بورياليس أول مركز كبير للبيانات خارج المنطقة الجنوبية الغربية في أيسلندا. وفي قرية بلوندوس على الساحل الشمالي -التي يسكن فيها أقل من 1,000 شخص- افتتحت الشركة مركز بيانات تبلغ مساحته أكثر من 3,700 متر مربع، بعد أقل من سنة من بدء أعمال الإنشاء.

وفي تجمع سكاني صغير إلى هذه الدرجة -حيث كان السكان يعتمدون على دوام الزراعة وصيد السمك- أدى هذا الاستثمار إلى تأثير إيجابي "يكاد لا يوصف"، كما يصفه عمدة القرية فالديمار هيرمانسون؛ وذلك لأن تدفق الأموال يعني ظهور الوظائف وبناء المنازل، كما أنه توجد خطط لإقامة مجمع أكبر بعدة مرات من المنشأة الحالية. ولكن حتى يتحقق هذا الأمر، ستحتاج البلدة إلى نفس الأشياء التي تحتاجها صناعة مراكز البيانات في أيسلندا بشكل عام، وهي: المزيد من الطلب، والمزيد من الزبائن، والمزيد من الطاقة.