كيف يمكن إنقاذ الرأسمالية من أزمتها؟

5 دقائق
مصدر الصورة: إراتا كارمونا

حتى قبل تفشي وباء كوفيد-19 وتسبُّبه في انهيار معظم الاقتصاد العالمي، كان واضحاً للعيان أن الرأسمالية تعاني من أزمة؛ حيث إن الأسواق الحرة غير المقيدة دفعت عدم المساواة في الدخل والثروة إلى مستويات عالية للغاية في الولايات المتحدة. وأدى بطء نمو الإنتاجية في العديد من البلدان الغنية إلى إعاقة الفرص المالية لجيل كامل. وبدت الشركات، رغم إدراكها الآن لمشكلة الاحتباس الحراري، عاجزةً عن إجراء تغييرات لإبطائه.

ثم حلّ الوباء الذي أدى إلى فقدان الكثيرين لوظائفهم. وبعده اشتعلت حرائق الغابات المستعرة التي أجّجها التغيّر المناخي في أرجاء الساحل الغربي للولايات المتحدة. فجأة، أصبحت كل المؤشرات الكامنة وراء اختلال النظام الاقتصادي عبارة عن كوارث كاملة الوضوح والتأزُّم.

لا عجب -والحال كهذه- أن يبدأ الكثيرون في الولايات المتحدة وأوروبا التشكيك في أسس الرأسمالية، لا سيما تكريسها للأسواق الحرة وثقتها في قوة النمو الاقتصادي لخلق الازدهار وحل المشاكل.

إن فكرة الكراهية للنمو الاقتصادي ليست جديدة؛ إذ تمت صياغة مصطلح “تراجع النمو” في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. لكن في هذه الأيام، أدت المخاوف بشأن تغير المناخ، فضلاً عن تزايد عدم المساواة، إلى عودة ظهورها كحركة.

ورغم أن الدعوات المطالبة بـ “نهاية النمو” ما زالت على الهامش الاقتصادي، ولكن تم تبني حجج تراجع النمو من ِقبل حركات سياسية مختلفة مثل تمرد الانقراض (Extinction Rebellion) وحركة الخمس نجوم الشعبوية في إيطاليا. “وكل ما يمكنكم التحدث عنه هو المال والحكايات الخرافية عن النمو الاقتصادي الأبدي، كيف تجرؤون على ذلك!” وفق ما أرعدت به جريتا ثونبرج، الناشطة السويدية الشابة في مجال المناخ، أمام جمهور من الدبلوماسيين والسياسيين في أسبوع الأمم المتحدة للمناخ العام الماضي.

تنطوي حركة تراجع النمو في صميمها على نقدٍ للرأسمالية نفسها؛ إذ كتب جيسون هيكيل، العالم المختص بعلم الإنسان، في كتابه (الأقل أفضل: كيف سينقذ تراجع النمو العالم): “تعتمد الرأسمالية في جوهرها على النمو”، وهو “ليس نمواً لأي غاية معينة، وإنما نموٌّ من أجل ذاته”.

يؤكد هيكيل ورفاقه المؤمنين بتراجع النمو أن هذا النمو الطائش سيءٌ للغاية لكوكبنا ورفاهيتنا الروحية. ويقول هيكيل في كتابه إنه ينبغي علينا تطوير “نظريات جديدة للوجود” وإعادة التفكير في مكاننا في “العالم الحي”. (يتطرق هيكيل إلى النباتات الذكية وقدرتها على التواصل، وهو موضوع مرتبط بعلم نباتات مثير للجدل واقتصاديات مربكة). ومن المغري تجاهل كل ذلك باعتباره يتمحور حول الهندسة الاجتماعية لأنماط حياتنا أكثر من كونه مرتبطاً بالإصلاحات الاقتصادية الفعلية.

على الرغم من أن هيكيل يقدم بعض الاقتراحات (“إيقاف الإعلانات” و”إنهاء التقادم المخطط له”)، إلا أن كتابه لا يتضمن الكثير حول الخطوات العملية لإنجاح اقتصاد دون نمو. عذراً، لكن الحديث عن ذكاء النبات لن يحل مشاكلنا ولن يُطعم الجياع ولن يخلق وظائف ذات رواتب جيدة.

ومع ذلك، فإن حركة تراجع النمو مُحقّة بعض الشيء؛ فالرأسمالية لم تنجح حتى الآن في مواجهة تغير المناخ وحلّ الصعوبات المالية للعديد من العمال.

نمو بطيء

حتى بعض الاقتصاديين من خارج معسكر تراجع النمو، ورغم عدم رفضهم المطلق لأهمية النمو، يشككون في إخلاصنا الأعمى له.

ويتمثل أحد العوامل الواضحة التي تهز ثقتهم في أهمية النمو في أنه كان رديئاً منذ عقود من الزمن. ورغم وجود استثناءات لهذا التباطؤ الاقتصادي، مثل الولايات المتحدة خلال أواخر التسعينيات وأوائل القرن الواحد والعشرين والدول النامية مثل الصين أثناء سباقها للحاق بالركب، غير أن بعض العلماء -ولا سيما روبرت جوردون، الذي أثار كتابه الصادر عام 2016 بعنوان “صعود وسقوط النمو الأميركي” الكثيرَ من الأبحاث الاقتصادية المتعمقة- يكتشفون أن النمو البطيء قد لا يكون مجرد طفرة مؤقتة، وإنما يمثل الوضع الطبيعي الجديد بالنسبة لمعظم دول العالم.

اعتبر جوردون أن هذا النمو قد “انتهى في 16 أكتوبر 1973، أو ما يقرب من ذلك”، كما كتب الاقتصاديان في إم آي تي إستر دوفلو وأبهيجيت بانيرجي، الحائزان على جائزة نوبل لعام 2019، في كتابهما “اقتصاديات صالحة لظروف عصيبة”. وبالإحالة إلى جوردون، حدد الاقتصاديان ذلك التاريخ الذي بدأ فيه الحظر النفطي لمنظمة أوبك الذي لم يتعافَ بعده نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة وأوروبا بشكل كامل أبداً.

لا شك أن الاقتصاديَّين يوظِّفان أسلوباً ساخراً إلى حد ما في تحديد يوم معين باعتباره تاريخ نهاية النمو. وغايتهما الأساسية من ذلك هي توضيح أن النمو القوي قد اختفى بين عشية وضحاها تقريباً، ولا أحد يعرف ما السبب وراء ذلك.

يقدم دوفاو وبانيرجي تفسيرات محتملة وتفنيداتها في الوقت نفسه؛ حيث جاء في كتابهما: “خلاصة القول هي أنه على الرغم من الجهود الجبارة لأجيال من الاقتصاديين، فإن الآليات العميقة للنمو الاقتصادي المستمر لا تزال بعيدة المنال”، ولا نعرف كيف نعيد إحياءها. وخلصوا إلى أنه: “مع أخذ ذلك بعين الاعتبار، ربما حان الوقت للتخلي عن هوس مهنتنا بالنمو”.

من هذا المنظور، فإن النمو ليس المسؤول عن أزمة الرأسمالية الراهنة، ولكنه -على الأقل كما يُقاس بالناتج المحلي الإجمالي- يمثل مطمحاً يفقد أهميته. يقول ديتريش فولراث، الاقتصادي بجامعة هيوستن، إن النمو البطيء ليس مدعاة للقلق، على الأقل في البلدان الغنية. ويمكن عزوه بشكل أساسي إلى انخفاض معدلات المواليد -تقلص قوة العمل يعني إنتاجاً أقل- والتحول إلى الخدمات لتلبية متطلبات المستهلكين الأكثر ثراءً. ويقول فولراث إنه في ظل عدم توافر طرق كثيرة لتغيير ذلك، قد نضطر إلى تقبّل النمو البطيء. ويضيف: “هذا هو الأمر الواقع”.

يشير فولراث إلى أنه عندما صدر كتابه: “النمو كاملاً: لماذا يعد الاقتصاد الراكد مؤشراً على النجاح” في يناير الماضي، قد “تم تبنيه من قبل معتنقي تراجع النمو”. ولكن خلافاً لهؤلاء، فإن فولراث لا يكترث ما إذا كان النمو سينتهي أو لا. وإنما يريد عوضاً عن ذلك تحويل النقاش إلى طُرق لخلق تقنيات أكثر استدامة وتحقيق أهداف اجتماعية أخرى، سواء كانت هذه التغييرات تعزز النمو أو لا. ويقول: “هناك حالياً انقطاع بين الناتج المحلي الإجمالي من جهة وما إذا كانت الأمور تتحسن من جهة أخرى”.

العيش على نحو أفضل

على الرغم من أن الولايات المتحدة تمتلك أكبر اقتصاد في العالم حسب الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنها لا تُبلي حسناً فيما يتعلق بمؤشرات مثل الأداء البيئي والوصول إلى التعليم والرعاية الصحية ذات الجودة العالية، وفقاً لمؤشر التقدم الاجتماعي الصادر في أواخر هذا الصيف عن مجموعة دراسات مقرها واشنطن؛ حيث احتلت الولايات المتحدة المرتبة 28 في الترتيب السنوي (الذي تم إجراؤه قبل وباء كوفيد)، متخلفة كثيراً عن البلدان الغنية الأخرى، بما في ذلك البلدان ذات معدلات النمو البطيئة في الناتج المحلي الإجمالي.

تقول ريبيكا هندرسون، الخبيرة الاقتصادية في كلية هارفارد للأعمال: “يمكنك إنتاج كل الناتج المحلي الإجمالي الذي تريده، ولكن إذا ارتفعت معدلات الانتحار وارتفعت معدلات الاكتئاب، وارتفع معدل الأطفال الذين يموتون قبل سن الرابعة، فإن هذا لا يمثل نوع المجتمع الذي ترغب في بنائه”. وتقول إنه لابدّ لنا من “التوقف عن الاعتماد الكلي على الناتج المحلي الإجمالي، ويجب أن يشكل مقياساً واحداً فقط من بين العديد من المقاييس”.

وترى أن جزءاً من المشكلة يعود إلى “الفشل في تخيل إمكانية إنجاز الرأسمالية بشكل مختلف، وإمكانية نجاحها دون تدمير الكوكب”.

من وجهة نظرها، يتوجب على الولايات المتحدة أن تشرع في قياس وتقييم النمو تبعاً لتأثيره على تغير المناخ والوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية. وتختم هندرسون بالقول: “نحن نحتاج إلى نمو واعٍ لذاته، ولا نريد تحقيق النمو لمجرد النمو ومهما كانت تبعاته”.

يدعو دارون أسيموغلو، خبير اقتصادي آخر في إم آي تي، إلى “إستراتيجية نمو جديدة” تسعى إلى خلق التقنيات اللازمة لحل المشاكل الأكثر إلحاحاً. يصف أسيموغلو النمو في الوقت الحاضر بأنه مدفوع من قِبل الشركات الكبيرة الملتزمة بالتقنيات الرقمية والأتمتة والذكاء الاصطناعي. لقد أدى تركُّز الابتكار بين أيدي عدد قليل من الشركات المهيمنة إلى عدم المساواة، وإلى جمود الأجور بالنسبة للكثيرين.

ويقول أسيموغلو إن الناس في وادي السيليكون غالباً ما يعترفون له بأن هذا التركُّز يمثل مشكلة، ولكنهم يجادلون بأن “هذا ما تريده التكنولوجيا، إنه المسار الذي تسير عليه التكنولوجيا”. يعترض أسيموغلو على هذا الكلام، ويقول إننا نتخذ خيارات مدروسة بشأن التقنيات التي نخترعها ونستخدمها.

ويرى أنه ينبغي توجيه النمو من خلال حوافز السوق والتنظيم. ويعتقد أن هذه هي الطريقة الأفضل للتأكد من أننا نبتكر وننشر التقنيات التي يحتاجها المجتمع، بدلاً من إنتاج التقنيات التي تؤدي ببساطة إلى توليد أرباح ضخمة لفئة قليلة.

ما هي تلك التقنيات؟ يقول: “لا أعرف بالضبط، فأنا لست مستبصراً. لم يكن تطوير مثل هذه التقنيات أولوية، ولسنا على علم بإمكاناتها”.

إن تحويل مثل هذه الإستراتيجية إلى واقع يتوقف على السياسة. ومن غير المرجح أن يحظى منطق الاقتصاديين الأكاديميين مثل أسيموغلو وهندرسون -كما يخشى البعض- بشعبية سياسية، في ظل تجاهله للدعوات اليسارية الصاخبة لإنهاء النمو والمطالب اليمينية الواثقة في استمرار الأسواق الحرة غير المقيدة.

ولكن بالنسبة لأولئك الذين لا يعتزمون التخلي عن بناء مستقبل النمو والإمكانات الكبيرة الواعدة للابتكار في تحسين الحياة وإنقاذ الكوكب، فإن توسيع آفاق خيالنا التكنولوجي هو الخيار الحقيقي الوحيد.