كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصيغ قوانيننا؟

12 دقيقة
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصيغ قوانيننا؟
مصدر الصورة: ستيفاني أرنيت. إم آي تي تي آر. إنفاتو

تبلغ قيمة مجموعات الضغط الفيدرالية في الولايات المتحدة عدة مليارات من الدولارات، وتعمل بنسبة 90% تقريباً لصالح الشركات. وفي بعض الحالات، فإن الهدف من إنفاق هذه الأموال واضح تماماً. فشركة جوجل (Google) تنفق الملايين من الدولارات على الضغط بشأن مشاريع القوانين المتعلقة بتنظيم مكافحة الاحتكار. أما شركات الطاقة الكبيرة فتتوقع اتخاذ الإجراءات المناسبة عند أي تحرك يهدف إلى إنهاء عقود الحفر في الأراضي الفيدرالية، وذلك لقاء عشرات الملايين من الدولارات على شكل مساهمات في حملات إعادة انتخاب أعضاء الكونغرس.

ولكن استراتيجيات الضغط لم تكن دائماً بهذا المستوى من الفجاجة، كما أن المصالح المتعلقة بها لم تكن بهذا الوضوح على الدوام. وعلى سبيل المثال، فقد تم طرح مشروع قانون في ماساتشوستس في 2013، في محاولة لتقييد الاستخدام التجاري للبيانات المجمّعة من تلاميذ المدارس ورياض الأطفال الذين يستخدمون خدمات يمكن الوصول إليها عبر الإنترنت. وكان مشروع القانون هذا متوافقاً، وبشكل محقّ، مع تطلعات الكثيرين من مناصري التعليم الداعين إلى حماية الخصوصية. ولكن مبرر حماية التلاميذ كان يخفي سياسة يمكن أن تحدث تغييراً في السوق، فقد تم تقديم مشروع القانون بطلب من مجموعات الضغط التابعة لشركة مايكروسوفت (Microsoft)، وذلك في محاولة لمنع استخدام برنامج جوجل دوكس (Google Docs) في الصفوف.

ولكن، ماذا سيحدث إذا أصبحت هذه الاستراتيجيات القانونية والماكرة في الوقت نفسه، والتي تهدف إلى تعديل القواعد لصالح هذه المجموعة أو تلك، أكثر انتشاراً وفاعلية؟ يمكن أن نرى لمحات من الإجابة في السرعة المذهلة لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي وتحسينها لاستخدامها في كل شيء، بدءاً من الكتابة وصولاً إلى تصميم الرسوميات. ويمكن أن نتوصل إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الذكاء الاصطناعي سيجعل عملية الضغط أكثر مكراً، وربما أكثر نجاحاً.

اقرأ أيضاً: مساعٍ دولية لوضع قوانين تنظّم استخدام الذكاء الاصطناعي

ما هو التشريع متناهي الصغر؟

وبالفعل، تبين وجود مدخل طبيعي لاستخدام التكنولوجيا في هذا المجال، وهو التشريع متناهي الصغر.

ويعبّر مصطلح "التشريع متناهي الصغر" عن اقتراح بنود قانونية مصغرة تتوافق -وبصورة غير متوقعة في بعض الأحيان- مع مصالح ضيقة. وقد قامت المختصة بالعلوم السياسية، أيمي ماكاي، بصياغة هذا المصطلح. فقد درست تعديلات قانون الرعاية الصحية الأميركي (المعروف باسم أوباما كير) البالغ عددها 564 تعديلاً، والتي درستها اللجنة المالية في مجلس الشيوخ في عام 2009، إضافة إلى مواقف 866 مجموعة ضغط، ومساهماتها في الحملات الانتخابية. وقامت بتوثيق عدة حالات تم تحويل تعليقات مجموعات الضغط –حول أبحاث الرعاية الصحية وخدمات اللقاحات وغيرها من البنود- مباشرة إلى تشريعات متناهية الصغر على شكل تعديلات. ووجدت أن الإسهامات المالية لهذه المجموعات لعدة سيناتورات محددين ضمن اللجنة أدت إلى زيادة فرص إقرار هذه التعديلات.

ولا يمثّل اكتشافها لنجاح طرق مجموعات الضغط أي مفاجأة. أما الأهم من هذا فهو أن عمل ماكاي أظهر قدرة النماذج الحاسوبية على التنبؤ بالمصير المحتمل للتعديلات التشريعية المقترحة، إضافة إلى المسارات التي تستطيع مجموعات الضغط استخدامها لضمان النتائج التي ترغب فيها بأعلى فاعلية ممكنة. وكما تبين، فإن هذه القدرة هي أهم جزء مطلوب لبناء كيانات ضغط تعمل بالذكاء الاصطناعي.

اقرأ أيضاً: التداعيات الاجتماعية والأخلاقية لبوت الدردشة تشات جي بي تي في العالم العربي

الذكاء الاصطناعي يدخل لعبة مجموعات الضغط

لطالما كان الضغط جزءاً من التجاذب بين البشر من صانعي السياسات والمناصرين الذين يعملون على موازنة مصالحهم المتضاربة. ويكمن خطر التشريع متناهي الصغر -وهو خطر يزيد الذكاء الاصطناعي من مستواه بدرجة كبيرة- في إمكانية استخدامه بطريقة تزيد من صعوبة تحديد المستفيد الحقيقي من التشريع.

ويمكن استخدام كلمة أخرى للتعبير عن استراتيجية مثل هذه، وهي "قرصنة". فعمليات القرصنة تعتمد على اتباع قواعد النظام، ولكن بصورة تقوض الغرض المطلوب منها. وغالباً ما ترتبط القرصنة بالأنظمة الحاسوبية، إلا أنه يمكن تطبيق هذا المفهوم على الأنظمة الاجتماعية، مثل الأسواق المالية، والقواعد الضريبية، والعمليات التشريعية.

ومع أن فكرة استخدام الأطراف الثرية للتكنولوجيات المساعدة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في عمليات الضغط ما زالت فكرة نظرية، فإن بعض تكنولوجيات التعلم الآلي الموجودة حالياً يمكن أن تساعدها على تحقيق هذا الأمر. ومن المتوقع لهذه التقنيات أن تصبح أكثر فاعلية، ومن المتوقع أيضاً أن يزداد استخدامها على نطاق أوسع، كما رأينا في الكثير من المجالات الأخرى سابقاً.

ويمكن تحقيق هذا الأمر كما يلي.

اقرأ أيضاً: كيف نطوّر الذكاء الاصطناعي المسؤول الذي ينفع المجتمع؟

صياغة تشريع متناهي الصغر باستخدام الذكاء الاصطناعي

لصياغة تشريع متناهي الصغر، يجب على أنظمة التعلم الآلي أن تكون قادرة على كشف أصغر التعديلات التي يمكن تطبيقها على مشروع قانون أو على قانون نافذ، بشكلٍ يُتيح تحقيق أكبر أثر على مصلحة ضيقة معينة.

وهنا تكمن ثلاثة تحديات أساسية. فأولاً، يجب صياغة مقترح سياسة عامة –أي اقتراح تغييرات صغيرة على نص قانوني- وتوقع قدرة القارئ البشري على كشف ما إذا كانت تؤدي إلى أثر جوهري أم لا. وهو أمر مهم للغاية، فالتعديلات التي لا يمكن كشفها تحظى بفرصة أكبر لإقرارها دون إثارة أي جدل. ثانياً، يجب إجراء تقييم للأثر، وذلك لتوقع نتيجة هذا التعديل على المصالح المالية للشركة خلال المدى القصير أو المدى البعيد. وثالثاً، ثمة حاجة لوجود مختص في وضع استراتيجيات الضغط لتحديد عناصر القوة التي يجب توظيفها لتحويل الاقتراح الأفضل إلى قانون.

ويمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي الموجودة حالياً التعامل مع جميع هذه التحديات.

فالخطوة الأولى، أي مقترح السياسة العامة، تعتمد على الوظيفة الأساسية للذكاء الاصطناعي التوليدي. فالنماذج اللغوية الكبيرة المستخدمة لبوتات الدردشة ذات الأغراض العامة مثل تشات جي بي تي (ChatGPT) قابلة للتعديل بسهولة للكتابة بصورة متقنة في مجالات اختصاصية مختلفة بعد تلقيمها بعدد صغير نسبياً من الأمثلة. وتسمى هذه العملية بالمعايرة الدقيقة. وعلى سبيل المثال، فإن النموذج "المدرب مسبقاً" على مكتبة ضخمة من الأمثلة النصية من الكتب والإنترنت قابل للتعديل وفق "معايرة دقيقة" للعمل بشكل فعّال على الأوراق البحثية في مجال الطب أو علوم الحاسوب، أو تقييمات المنتجات.

اقرأ أيضاً: ما الجديد بالنسبة للذكاء الاصطناعي في 2023؟

ونظراً لوجود هذه المرونة والقدرة على التكيّف، يمكن تطبيق المعايرة الدقيقة على النموذج اللغوي الكبير لإنتاج مسودات نصوص تشريعية، وذلك بعد تلقيمه بمجموعة بيانات من التعديلات القانونية ومشاريع القوانين المتعلقة بهذه التعديلات. إن بيانات التدريب موجودة. فعلى المستوى الفيدرالي، يقوم مكتب النشر لحكومة الولايات المتحدة بتوفيرها، كما توجد العديد من الأدوات التي تُتيح تنزيلها والتفاعل معها. وتؤمّن معظم النطاقات القضائية الأخرى مصادر بيانات مماثلة، بل توجد حتى كتل تجميعية شاملة لكل هذه البيانات بصورة مريحة.

إضافة إلى هذا، فإن النماذج اللغوية الكبيرة، مثل النموذج الذي يعتمد عليه تشات جي بي تي، تُستخدم بصورة اعتيادية في تلخيص الوثائق الطويلة والمعقدة، وحتى نصوص القوانين والتعليمات البرمجية الحاسوبية، وذلك لإبراز النقاط الأساسية، وتتم معايرتها للتوافق مع توقعات البشر. ويمكن لهذه القدرة أن تُتيح لمساعد الذكاء الاصطناعي التنبؤ تلقائياً بإمكانية الكشف عن الأثر الفعلي لإدراج السياسة من قبل القارئ البشري.

حالياً، يمكن أن يحتاج فريق من مختصي الضغط البشريين، والذين يتقاضون أجوراً ضخمة، إلى عدة أيام أو أسابيع لتوليد وتحليل تشريعات متناهية الصغر بديلة بالنيابة عن عميل ما. أما باستخدام مساعد ذكاء اصطناعي، يمكن القيام بهذه العملية على الفور وبتكلفة زهيدة. وهو ما يفتح الباب أمام زيادة كبيرة في هذا النوع من التشريعات متناهية الصغر، مع إمكانية توسيع نطاق العمل ليشمل أي عدد من مشاريع القوانين ضمن أي نطاق قضائي.

اقرأ أيضاً: أهم 5 مخاطر ومسائل أخلاقية مرتبطة باستخدام الذكاء الاصطناعي

تعليم الآلات كيفية تقييم الأثر

إن تقييم الأثر أكثر تعقيداً مما سبق. فهناك العديد من الأساليب لتكميم النتيجة المتوقعة لقرار أو سياسة ما، ولتحسين النتيجة ضمن هذا النموذج إلى أقصى حد ممكن أيضاً. وتحمل هذه المقاربة أسماء مختلفة في مجالات مختلفة، فهي تسمى بالبرمجة الرياضية في علوم الإدارة، وتعظيم المنفعة في الاقتصاد، والتصميم العقلاني في علوم الحياة.

ولتدريب الذكاء الاصطناعي على القيام بهذا الأمر، يجب أن نحدد طريقة ما لحساب الفائدة التي ستجنيها الأطراف المختلفة نتيجة لوقوع الاختيار على سياسة معينة. وهو ما قد يعني تقدير العائد المالي للشركات المختلفة ضمن سيناريوهات ضريبية أو تشريعية مختلفة. يتميز الاقتصاديون بمهارة عالية في بناء نماذج المخاطر بهذه الطريقة، كما أن الشركات ملزمة بحساب عوامل المخاطر المتعلقة بالامتثال للقوانين والكشف عنها للمستثمرين. ويمكن تحويل هذا النموذج الرياضي بصورة مباشرة إلى دالة مكافأة، أي نظام نقاط يؤمّن تغذية راجعة للنموذج المستخدم في صياغة اقتراحات السياسات وتوجيه عملية تدريب هذا النموذج.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن نسمح للذكاء الاصطناعي باتخاذ قرارات الحياة أو الموت؟

ويكمن التحدي الحقيقي في عملية تقييم الأثر ضمن نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية في تحويل المخرجات النصية لنموذج مثل تشات جي بي تي إلى شكل يستطيع النموذج الاقتصادي استخدامه بصورة فورية. وستتطلب أتمتة هذه العملية استخلاص المعلومات المالية وفق صيغة معيارية من مسودة التعديل أو أي تشريع متعلق بها. وثمة تاريخ طويل للذكاء الاصطناعي في هذا النوع من استخلاص المعلومات أيضاً، وعلى سبيل المثال، فقد تم تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على تمييز التفاصيل السريرية في مجموعات الملاحظات التي يسجلها الأطباء. وتقول المؤشرات الأولية إن النماذج اللغوية الكبيرة وصلت إلى مستوى جيد من البراعة في التعرف على المعلومات المالية في النصوص، مثل نصوص المكالمات الهاتفية للمستثمرين. ومع أن مجال الذكاء الاصطناعي لم يتوصل إلى حل نهائي لهذا النوع من التحديات بعد، إلا أنه قد يكون من الممكن حتى كتابة خطط متعددة الخطوات بناء على التوصيفات في النصوص التي لا تخضع لهيكلية معينة.

الآلات التي ترسم الاستراتيجيات

أما القطعة الأخيرة من الأحجية فهي النظام الذي يضع استراتيجيات الضغط لتحديد الأفعال التي يجب القيام بها لإقناع واضعي القوانين باعتماد هذا التعديل.

إن إقرار التشريعات يتطلب استيعاباً عميقاً للشبكات المعقدة والمترابطة من المكاتب التشريعية، والمجموعات الخارجية، والوكالات التنفيذية، وغيرها من الأطراف التي تسعى إلى خدمة مصالحها الخاصة. ويحمل كل طرف في هذه الشبكة وجهة نظر أساسية وعدة عوامل مختلفة تؤثر على وجهة النظر هذه. وعلى سبيل المثال، فقد يتأثر المشرّع برؤية موقف حازم من أحد الأطراف الحليفة، أو بسبب قصة إخبارية سلبية، أو بسبب مساهمة في حملة انتخابية.

وقد تبيّن أن مطوري الذكاء الاصطناعي يمتلكون خبرة كبيرة في نمذجة هذه الأنواع من الشبكات. فقد قام المئات من الباحثين الذين يعملون على نطاق متنوع للغاية من المشكلات ببناء نماذج التعلم الآلي للشبكات البيانية وتعديلها وتحسينها وتطوير عدة أجيال منها، مثل أنظمة مسح الليدار المستخدمة لتوجيه السيارات ذاتية القيادة، والوظائف الكيميائية للبنى الجزيئية، والتقاط حركات مفاصل الممثلين لبناء الرسوميات الحاسوبية، وسلوكيات الشبكات الاجتماعية، وغير ذلك.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي يتخيل أدوية لم يرها أحد من قبل ولكن ماذا عن فعاليتها؟

وفي سياق الضغط بمساعدة الذكاء الاصطناعي، تتحول الأطراف السياسية، مثل المشرّعين ومجموعات الضغط، إلى عُقد ضمن بنية شبكية تسمى بيان (graph)، تماماً مثل المستخدمين في الشبكة الاجتماعية. أما العلاقات بين هذه الأطراف فهي تشكل حواف البيان (الوصلات بين العقد)، وهي تقابل العلاقات الاجتماعية. ويمكن تمرير المعلومات عبر هذه الحواف، مثل الرسائل الموجهة إلى أحد الأصدقاء أو إسهامات الحملة الانتخابية الموجهة إلى أحد الأعضاء. ويمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي استخدام الأمثلة السابقة لتعلم كيفية تقدير التغييرات التي تحدثها هذه المعلومات في الشبكة. ومن تطبيقات هذه النماذج حساب احتمال تغير تصويت أحد المشرعين على أحد التعديلات بسبب مساهمة بحجم معين لحملة انتخابية معينة.

لقد بيّن لنا عمل ماكاي وجود علاقات وثيقة وقابلة للتنبؤ بها بين هذه الأفعال ونتائج التشريع، وأن عملية اكتشاف هذه العلاقات قابلة للأتمتة. كما بيّن آخرون إمكانية تطبيق نماذج الشبكات العصبونية، مثل تلك الموصوفة أعلاه، على الأنظمة السياسية. إن الاستخدام كامل النطاق لهذه التكنولوجيات في توجيه استراتيجية الضغط ما زال نظرياً، ولكنه ممكن.

ويمكن لهذه المكونات الثلاثة معاً أن تشكّل نظاماً آلياً لتوليد تشريعات مثمرة متناهية الصغر. فنظام اقتراح السياسات قادر على توليد الملايين من التعديلات المحتملة، بل حتى المليارات. أما نظام تقييم الأثر فيستطيع تحديد العدد القليل من التعديلات التي من المنتظر أن تكون الأكثر منفعة بالنسبة للعميل. وستقوم أداة استراتيجية الضغط بإنتاج مخطط أولي لكيفية تمرير هذه التعديلات وإنجاح إقرارها.

أما المسؤولون البشر في مجموعات الضغط فيبقى عليهم أن يتجولوا في أروقة الكابيتول أو مقرات حكومات الولايات، وربما تقديم بعض الأموال هنا وهناك لتسهيل الإجراءات. فأدوات الذكاء الاصطناعي التي تخيلناها لا تستطيع تولّي هذين العنصرين من الضغط، أي الوصول والتمويل. وهو ما يشير إلى أن الضغط سيبقى مفيداً بشكل أساسي لمن يتمتعون بالنفوذ والثراء من قبل، غير أن مساعدة الذكاء الاصطناعي ستضخم الفوائد التي يحصلون عليها.

اقرأ أيضاً: تصميم ثوري للشبكات العصبونية قد يحل مشاكل كبيرة في الذكاء الاصطناعي

أي أن الفائدة التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي، والتي ستحدث أكبر أثر لمجموعات الضغط وعملائهم، هي رفع مستوى العمل وزيادة نطاقه. وعلى حين يميل الأشخاص الذين يعملون في مجال الضغط بشكل إفرادي إلى التركيز على المستوى الفيدرالي أو على مستوى ولاية واحدة، فإن مساعدة الذكاء الاصطناعي ستتيح لهم، وبسهولة أكبر، الوصول إلى عدد كبير من الانتخابات وهيئات صياغة القوانين على مستوى الولاية، أو حتى المستوى المحلي. وفي هذا المستوى، حيث يصل متوسط تكلفة المقعد الواحد إلى مستوى عشرات الآلاف من الدولارات بدلاً من الملايين، يمكن لمتبرع واحد أن يحوز على درجة كبيرة من النفوذ، إذا أتاحت الأتمتة إمكانية تنسيق عمليات الضغط عبر المقاطعات المختلفة.

كيف يمكن إيقاف هذه الأدوات؟

عندما يُطرح موضوع مكافحة الآثار السلبية المحتملة لأنظمة المساعدة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، يبدو أن الاستجابة الأولية دائماً ما تنطوي على محاولة اكتشاف ما إذا كان قد تم توليده باستخدام الذكاء الاصطناعي أم لا. ويمكن أن نتخيل تصميم نظام ذكاء اصطناعي دفاعي يقوم بكشف عمليات الإنفاق غير المألوفة لمجموعات الضغط، والمقترنة بتعديلات تفيد المجموعة المساهمة. ولكن، من المحتمل أن القيام بهذه العملية قبل وقوع الضرر أمر مستحيل.

فبشكل عام، تميل أساليب كشف عمل الذكاء الاصطناعي إلى أن تكون عاجزة عن مجاراة قدرته على توليد المحتوى المقنع. كما أن الذكاء الاصطناعي لن يقوم وحده بتطبيق هذه الاستراتيجيات. فما زال هناك عناصر من البشر في مجموعات الضغط، حيث يأخذون نتائج نظام توليد التشريعات متناهية الصغر الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، ويقومون بتحسين الاستراتيجيات التي ولدها الحاسوب. وبالتالي، سيكون من المستحيل كشف هذه الأنظمة الهجينة المؤلفة من البشر وأنظمة الذكاء الاصطناعي بالاعتماد على نتائجها فقط.

ولكن ثمة أخبار سارة؛ فالاستراتيجيات المستخدمة منذ زمن لمكافحة السلوك المسيء لمجموعات الضغط البشرية يمكن أن تظل فعّالة، حتى بعد أن تستعين هذه المجموعات بمساعدة الذكاء الاصطناعي. وبالتالي، لسنا في حاجة إلى إحداث تغييرات جوهرية في منظومتنا الديمقراطية [الأميركية] لتفادي أسوأ آثار الذكاء الاصطناعي، بل نحتاج فقط إلى تطبيق كامل لمثل عليا معروفة منذ زمن بعيد.

ففي البداية، يجب أن نخفّض من اعتماد الهيئات التشريعية على مشاريع قوانين شاملة وهائلة الحجم ومؤلفة من عدة آلاف من الصفحات ومطروحة للتصويت قبل موعد نهائي محدد. لقد انتشر هذا الأسلوب من التشريع على نطاق واسع وبسرعة كبيرة في الثمانينيات والتسعينيات، وما زال سارياً حتى مشروع قانون الميزانية الفيدرالية الأحدث. وعلى الرغم من فوائدها المشروعة والحقيقية بالنسبة للنظام السياسي، فإن مشاريع القوانين الشاملة تمثّل وسيلة واضحة ومثبَتة لتمرير بنود غير ملحوظة قد تفاجئ بعض المشرعين الذين يوافقون عليها.

اقرأ أيضاً: كيف أصبح الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته جزءاً من حياتنا اليومية؟

ولا تكمن المشكلة في حاجة المشرعين الأفراد إلى المزيد من الوقت لقراءة وفهم كل مشروع قانون على حدة، وهو أمر غير واقعي، وليس حتى ضرورياً. بل تكمن في ضرورة إقرار مشاريع القوانين الشاملة. وعلى سبيل المثال، فإن إقرار قانون الميزانية الفيدرالية إلزامي، ولهذا، لا يوجد دافع كافٍ لمقاومة البنود المنفردة التي قد تبدو مؤذية، أو حتى مفيدة بصورة فاضحة لمجموعة معينة. وبالتالي، فإن مشاريع القوانين الضخمة، والتي سيتم إقرارها بالتأكيد، ستصبح عرضة للاختراق بالتشريعات متناهية الصغر.

إضافة إلى هذا، فإن الحافز الذي يدفع المشرّعين إلى تضمين تشريعات متناهية الصغر مناسبة لمصالح ضيقة سيكون أكبر إذا كان احتمال اكتشاف هذه العملية أقل. وبالتالي، ولزيادة احتمال كشف إساءة داعمي مشاريع القوانين، يجب أن تركز مشاريع القوانين بشكل أكبر على مجالات أساسية منفردة، إضافة إلى ضرورة إتاحة المزيد من الوقت بعد إدخال التعديلات قبل تصويت اللجان والأعضاء. وخلال هذا الوقت، يجب أن نشجّع على المراجعة والإدلاء بالشهادات من قبل العموم لتوفير درجة أعلى من الإشراف.

ثانياً، يجب أن نعزز متطلبات التصريح عن مجموعات الضغط، سواء كانت تعمل بقدرات بشرية بالكامل أو تستعين بقدرات الذكاء الاصطناعي. وفي الواقع، فإن قوانين الولايات المتعلقة بالتصريح عن مجموعات الضغط متباينة ومختلفة للغاية. وعلى سبيل المثال، فإن داكوتا الشمالية تفرض تقديم تقارير مجموعات الضغط سنوياً فقط، وبالتالي، فإن الإفصاح عن أي شيء من قبل مجموعة الضغط قد يحدث على الأرجح بعد اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات. وقد قامت مجموعة البحث التي تدرس تأثير الأموال في السياسات الأميركية، أوبن سيكريتس (Open Secrets)، بتصميم بطاقة نقاط للتصريح عن مجموعات الضغط، حيث تقوم بمتابعة تسع ولايات لا تفرض على مجموعات الضغط التصريح عن مساهماتها حتى.

اقرأ أيضاً: الذكاء الاصطناعي: هل حان الوقت للحديث عن النفوذ بدلاً من مناقشة الأخلاقيات؟

في الوضع المثالي، سيكون من الرائع أن يُتاح للعامة الاطلاع على عمليات التواصل كافة التي تجري بين مجموعات الضغط والمشرعين، سواء كان هذا على شكل تعديل قانوني مقترح أو أي شكل آخر. وبما أن هذا غير ممكن، فلنسمح للعامة بالاطلاع على المسائل التي تركّز عليها مجموعات الضغط، وأسباب تركيزها عليها. عادة ما يتسم نشاط مجموعات الضغط بالسرية إذ يجري خلف الأبواب المغلقة. وحالياً، فإن الكثير من الولايات تؤكد أن الشهادة المقدمة علناً إلى المشرعين مستثناة من اعتبارها نشاطاً من نشاطات الضغط.

وضمن هذه النطاقات القضائية، فإن الكشف عن موقفك أمام العامة يخرج نشاطك من إطار تعريف الضغط. وبالتالي، لنفعل الأمر بصورة معكوسة، ولنفرض على مجموعات الضغط الكشف عن مواقفها من القضايا المختلفة. وفي الواقع، فإن بعض النطاقات القضائية تفرض التصريح عن الموقف بالموافقة أو الرفض على مجموعات الضغط المسجلة. وفي معظم الولايات، ولكن ليس جميعها، يمكنك تقديم طلب للاطلاع على السجلات العامة المتعلقة باللقاءات المعقودة مع أحد مشرعي الولايات، وذلك على أمل الحصول على معلومات مفيدة. ولكن يمكن أن نتوقع المزيد، فقد يُفرَض على مجموعات الضغط أن تنشر بشكلٍ مسبق، وخلال بضعة أيام، ملخصاً موجزاً حول طلباتها من صانعي السياسات خلال الاجتماعات، والسبب الذي يدعوها إلى الاعتقاد بأن هذه الطلبات تصب في الصالح العام.

لا يمكن أن نعتمد على صدق وصراحة الشركات حول الأسباب التي تدعو مجموعات الضغط الممثلة لها إلى اتخاذ مواقف معينة. ولكن تصريحها علناً عن نواياها يمكن أن يؤمن أساساً للمحاسبة على الأقل.

اقرأ أيضاً: أنماط تبني الدول لتقنيات الذكاء الاصطناعي

وأخيراً، يجب أن ندرس دور تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي المساعدة في شركات مجموعات الضغط نفسها وفي سوق العمل لمجموعات الضغط. فالكثير من المراقبين يشعرون بالقلق -ولأسباب وجيهة- إزاء احتمال حلول الذكاء الاصطناعي محل البشر، أو تقليله من قيمة العمل البشري. وإذا أدّت قدرات الأتمتة التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي إلى تسليع عملية بناء الاستراتيجيات وتطوير المواقف السياسية، فقد يجد بعض محترفي العمل السياسي أنفسهم دون عمل.

ولكن، علينا ألا نتوقع لهذا أن يؤدي إلى زعزعة مهن معظم محترفي الضغط الذين يتقاضون مبالغ فلكية، مثل أعضاء الكونغرس السابقين وغيرهم ممن مارسوا العمل السياسي. ثمة الكثير من الأفكار الإصلاحية للحد من قدرة مسؤولي الحكومة الذين تحولوا إلى العمل في الضغط على بيع المعلومات إلى زملائهم الذين ما زالوا في الحكومة، ويجب تطبيق هذه الأفكار، ويجب أيضاً -وبالدرجة نفسها من الأهمية- الحفاظ عليها وتعزيزها مع توالي وتغير إدارات الكونغرس.

وفي الواقع، فإن هذه الحلول، دون استثناء، ليست جديدة حقاً، أو مخصصة للمخاطر التي يمثّلها الذكاء الاصطناعي، بل وليست حتى مخصصة للتشريع متناهي الصغر، وهنا يكمن بيت القصيد. فالعمل الحكومي الجيد يجب أن يكون مقاوماً ومنيعاً ضد تأثيرات العديد من الأساليب والأطراف المختلفة.

ولكن مخاطر الذكاء الاصطناعي تمثّل مسألة طارئة على وجه الخصوص بسبب سرعة تطور هذا المجال. ويمكن أن نتوقع لقدرات البشر العاملين في الضغط أن تتطور على مدى السنوات والعقود المقبلة من حيث المستوى والاستراتيجيات والفاعلية. وفي هذه الأثناء، يبدو أن التطورات التي تتحقق في الذكاء الاصطناعي، تسير بتسارع كبير على شكل إنجازات خارقة متلاحقة بوتيرة غير مسبوقة.

اقرأ أيضاً: شركات ناشئة تساعد الشركات الأخرى في توفير متطلبات أخلاقيات الذكاء الاصطناعي

إن العملية التشريعية تمثّل صراعاً دائماً بين أطراف مختلفة تحاول التحكم بقوانين المجتمع التي يتم تحديثها وإعادة صياغتها وتوسيعها، سواء كان ذلك على المستوى الفيدرالي أو مستوى الولاية أو المستوى المحلي. ويعتبر الضغط أداة جيدة لموازنة المصالح المختلفة في نظامنا. وإذا تم تنظيم الضغط بشكل جيد، فمن الممكن أن يساعد على دعم صانعي السياسات في اتخاذ قرارات عادلة بالنيابة عنا جميعاً.