في كل عام، تعقد المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها مسابقةً لمعرفة مَن يمكنه إجراء تنبؤات دقيقة حول انتشار الأنفلونزا. وتتنافس الفرق البحثية في جميع أنحاء البلاد باتباع أساليب مختلفة، ويفوز أفضل الفرق أداءً بتمويلٍ من الوكالة وشراكة معها لرفع جاهزية البلاد في مواجهة الموسم التالي من الأنفلونزا.
وفي محاولةٍ لاتخاذ قرارات أكثر استنارة، تقوم الوكالة اليوم بحضّ عشرات الفرق البحثية على تكييف تقنياتهم بحيث تتمكن من التنبؤ بانتشار فيروس كورونا. ومن بين هذه الفرق، هناك مجموعةٌ بحثية من جامعة كارنيجي ميلون قد دأبت على تحقيق بعضٍ من أفضل النتائج على مدى السنوات الخمسة الماضية. وفي العام الماضي، تم تعيين هذه المجموعة كمركزٍ من اثنين من مراكز التميز الوطنية للتنبؤ بالأنفلونزا، وطُلب منها قيادة تصميم عملية التنبؤ على مستوى المجتمع.
يعترف روني روزنفيلد، وهو رئيس المجموعة ورئيس قسم التعلم الآلي في جامعة كارنيجي ميلون، أنه كان متردداً في البداية بشأن الانخراط في إجراء التوقعات المتعلقة بفيروس كورونا. وقد يفترض الشخص العادي أن التنبؤ بانتشار فيروس كورونا لن يكون مختلفاً كثيراً عن التنبؤ بانتشار الأنفلونزا، ولكن القيام بذلك بالنسبة للجائحة الجديدة هو أمرٌ أكثر صعوبةً بكثير. لقد كان روزنفيلد يشعر بالقلق بشأن مدى دقة توقعاته، وبالتالي بشأن إمكانية تقديمها أيَّ فائدة أساساً. وفي النهاية، اقتنع بالمُضي قدماً على أي حال.
يقول روزنفيلد: "يتصرف الناس على أساس نماذج تنبؤ، سواءً كانت هذه النماذج موجودةً على الورق أو في رؤوسهم، ومن الأفضل لك تكميم هذه التقديرات حتى تتمكن من مناقشتها بعقلانية بدلاً من جعلها قائمةً على الحدس".
يستخدم المختبر 3 أساليب حتى يحدِّد بدقةٍ الزيادة والانخفاض في عدد حالات الإصابة خلال موسم الأنفلونزا؛ يُعرف الأسلوب الأول باسم "التنبؤ الآني"، وهو توقع العدد الحالي للأشخاص المصابين. وفي هذا الأسلوب، يقوم المختبر بجمع البيانات الحديثة والتاريخية من مراكز السيطرة على الأمراض والمؤسسات الشريكة الأخرى، بما في ذلك عمليات البحث ذات الصلة بالأنفلونزا في جوجل والنشاط على تويتر وحركة مرور الويب على موقع مراكز السيطرة على الأمراض والمواقع الطبية وويكيبيديا. ثم يتم تلقيم تدفقات هذه البيانات إلى خوارزميات التعلم الآلي لإجراء تنبؤاتٍ في الوقت الحقيقي.
أما الأسلوبان الثاني والثالث فينطويان على تنبؤات فعلية؛ أي إجراء توقعات بشأن ما سيحدث مستقبلاً، ويقوم أحدهما على التعلم الآلي، فيما يعتمد الآخر على تقديرات التعهيد الجماعي. حيث تتضمن التنبؤاتُ الاتجاهاتِ المتوقعة حتى 4 أسابيع مقبلة، بالإضافة إلى المؤشرات البارزة مثل موعد ذروة الموسم والحد الأقصى لعدد الحالات المتوقعة. وتساعد مثل هذه المعلومات كلاً من مراكز السيطرة على الأمراض ومقدمي الرعاية الصحية على حشد قدراتهم والاستعداد مقدماً.
يأخذ أسلوب التنبؤ باستخدام التعلم الآلي في اعتباره نتائج التنبؤ الآني، بالإضافة إلى البيانات التاريخية الإضافية من مراكز السيطرة على الأمراض؛ حيث تتوافر بيانات مُحكَمة حول مواسم الأنفلونزا في الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً، مما يوفر دخلاً كبيراً للخوارزميات.
وفي المقابل، يعتمد أسلوب التعهيد الجماعي على مجموعة من المتطوعين؛ ففي كل أسبوع، يُطلب من الخبراء وغير الخبراء -الذين يتضح أن أداءهم يقارب أداء الخبراء بعد تجربة مشاركة بسيطة- تسجيلُ الدخول إلى نظامٍ على الإنترنت ومراجعة مخططٍ يوضح مسار مواسم الأنفلونزا السابقة والحالية. ثم يُطلب منهم إكمال منحنى الموسم الحالي، أي توقع عدد الأشخاص الذين سيصابون بالأنفلونزا بمرور الوقت. وعلى الرغم من أن الأشخاص لا يقدمون تنبؤات جيدة جداً بشكل فردي، إلا أن أداءهم الجماعي يضاهي جودة تنبؤات التعلم الآلي.
كيف يتنبأ فريق روني روزنفيلد بانتشار الأنفلونزا.
مصدر الفيديو: جامعة كارنيجي ميلون
قام فريق روزنفيلد، بمرور السنين، بضبط إعدادات كل أسلوبٍ من الأساليب السابقة من أجل التنبؤ بمسار الأنفلونزا بدقةٍ شبه مثالية. وفي نهاية كل موسم أنفلونزا، تثابر مراكز السيطرة على الأمراض على تحديث الأرقام النهائية بأثرٍ رجعي (أي تحديث الأرقام المتعلقة بفترات سابقة عند توافر معلومات جديدة عنها)، مما يمنح مختبر جامعة كارنيجي ميلون فرصةً لاكتشاف درجة أداء توقعاتهم. ويقوم الباحثون الآن بمواءمة جميع التقنيات لاستخدامها في التنبؤ بفيروس كوفيد-19، ولكن كلاً منها سيفرض تحدياتٍ مختلفة.
بالنسبة إلى التنبؤ الآني القائم على التعلم الآلي، سوف تبقى العديد من مصادر البيانات نفسها، ولكن نموذج التنبؤ سيكون مختلفاً؛ إذ يجب أن تكون الخوارزميات قادرة على تعلم الارتباطات الجديدة بين الإشارات في البيانات من جهة والحقيقة على أرض الواقع من جهةٍ أخرى. ويكمن أحد أسباب هذه الارتباطات الجديدة في حقيقة أن الذعر الناجم عن فيروس كورونا أكبر بكثير؛ مما ينتج نمطاً مختلفاً تماماً من النشاط على الإنترنت، حيث سيقوم الأشخاص بالبحث عن المعلومات المتعلقة بفيروس كورونا بمعدلات أعلى بكثير، حتى لو شعروا أنهم على ما يرام، مما يجعل من الصعب معرفة من الذي قد يكون لديه بالفعل أعراض الإصابة بالفيروس.
أضف إلى ذلك أنه في حالة الوباء، هناك القليل من البيانات التاريخية، التي ستؤثر على كلا أسلوبي التنبؤ، ففي حين أن الأنفلونزا تحدث في دورةٍ منتظمة للغاية كل عام، تكون الأوبئة نادرةً وغير منتظمة. فقد أظهر الوباء الأخير -H1N1 في عام 2009- خصائصَ مختلفة للغاية؛ حيث كان الشباب أكثر تأثراً به من المسنين، بينما جاء تفشي كوفيد-19 عكس ذلك تماماً، حيث يواجه المرضى الأكبر سناً أعلى درجات الخطر. علاوةً على ذلك ، لم تكن أنظمة المراقبة المستخدمة في تتبع الحالات على درجةٍ عالية من التطور في ذلك الوقت.
يقول روزنفيلد: "هذا هو الجزء الذي أعتقد أنه سيكون الأكثر صعوبة؛ لأن أنظمة التعلم الآلي، بطبيعتها، تتعلم من الأمثلة". ويبدو روزنفيلد متفائلاً بأن أسلوب التعهيد الجماعي قد يكون أكثر مرونة وصموداً في وجه هذه الصعوبات؛ فمن ناحية، نحن لا نعرف الكثير حول أداء هذا الأسلوب في إجراء التنبؤات بشأن الجائحة، "ومن ناحيةٍ أخرى، فإن البشر جيدون جداً في التكيف مع الظروف الجديدة"، على حدِّ تعبيره.
ويعكف فريق روزنفيلد الآن على إيجاد طرق لجعل هذه التوقعات جيدةً قدر الإمكان. وقد بدأت مختبرات فحص الأنفلونزا بالفعل في الانتقال إلى إجراء اختبار كوفيد-19 وإبلاغ النتائج إلى مراكز السيطرة على الأمراض. كما يتواصل مختبر جامعة كارنيجي ميلون مع المنظمات الأخرى للحصول على أكبر قدر ممكن من البيانات الدقيقة والغنية -بيانات من قبيل الإحصاءات المجمعة والمغفلة الهوية من السجلات الصحية الإلكترونية وأنماط الشراء للأدوية المضادة للحمى- من أجل العثور على إشاراتٍ أكثر دقةً لتدريب خوارزمياته.
كما يعتمد الفريق على البيانات القديمة من الوباء الحالي للتعويض عن نقص البيانات التاريخية من الأوبئة السابقة. ويتطلع إلى دمج البيانات من البلدان التي أصيبت بالفيروس في وقتٍ سابق ليقوم بتحديث نماذج التعلم الآلي بشكلٍ مستمر مع نشر بيانات أكثر دقة حول فتراتٍ سابقة. وفي نهاية كل أسبوع، سيحصل المختبر على تقرير من مراكز السيطرة على الأمراض يتضمن أحدث مسار لحالات الإصابة في الولايات المتحدة، بما في ذلك مراجعات على الأرقام من الأسابيع السابقة. وبعد ذلك، سيراجع المختبر نماذجه لإغلاق الفجوات بين التنبؤات الأصلية والإحصاءات الدورية.
ويساور روزنفيلد القلق بشأن محدودية هذه التوقعات؛ إذ إنها تنطوي على درجة كبيرة من عدم اليقين أعلى مما يتقبله عادة؛ حيث سيتضمن كل توقع يقدمه المختبر إلى مراكز السيطرة على الأمراض مجموعةً من الاحتمالات. ويقول: "لن نخبركم بما سيحدث، وإنما سنُطلعكم على الأشياء التي يمكن أن تحدث ومدى احتمالية حدوث كل منها".
وحتى بعد انحسار الوباء وانتهائه، سيظل هناك درجة من عدم اليقين؛ حيث يقول روزنفيلد: "سيكون من الصعب معرفة مدى جودة أساليبنا، يمكن أن تكون تنبؤاتنا دقيقة لأسباب خاطئة، وقد تكون غير دقيقة لأسباب خاطئة أيضاً. وبما أن هناك موسمٌ واحد فقط يمكن اختباره، فلا يمكنك حقاً استخلاص أي استنتاجاتٍ قوية ومتينة حول منهجيتك".
ولكن على الرغم من كل هذه التحديات، يعتقد روزنفيلد أن هذا العمل سيكون مجدياً ومفيداً في إثراء معلومات مراكز السيطرة على الأمراض وتحسين استعداداتها. ويختم حديثه قائلاً: "يمكنني أن أفعل ما بوسعي الآن في إجراء التنبؤات، وذلك أفضل من عدم امتلاك أي معلومات على الإطلاق".