في العام 2013 انتقلت من باريس إلى بكين لدراسة النظام المالي في الصين، حيث مكثت فيها لمدة عامين وأتقنت اللغة بما يكفي لترجمة الكتب الاقتصادية من لغة الماندرين إلى الإنجليزية، وإجراء محادثات حول السياسة النقدية بلغة الماندرين.
ولكنني لم أشعر يوماً بأنني قد اندمجت بشكل حقيقي إلى أن زرت بكين مرة أخرى، وحصلت أخيراً على موافقة أليباي (قد يمر الأجانب بأوقات عصيبة للحصول على إذن باستخدام أهم التطبيقات المالية الصينية). قبل ذلك، كنت أبحث بشكل جنوني عن أحد الصرَّافات الآلية للحصول على النقود، في حين كان أصدقائي يستخدمون أحد التطبيقين أليباي أو وي تشات على هواتفهم الذكية -المشابهين للتطبيق فينوم- لكي يتقاسموا فواتير المطاعم فيما بينهم.
لقد قاموا باستثمار رواتبهم بضغطة زر ليبدؤوا بكسب الفوائد على الفور، في حين كان عليَّ الانتظار في الطابور داخل أحد البنوك. ولكن في العام الماضي 2017، وبمساعدة التطبيق أليباي، ركبتُ دراجة هوائية مشتركة مكَّنتني من الوصول إلى الاجتماع في وقت مبكر، ودفعتُ ثمن العشاء عن طريق المسح الضوئي لرمز الاستجابة السريع (QR code)، ثم طلبتُ الحصول على أول رحلة تشاركية لي باستخدام "ديدي Didi"، وكل ذلك من خلال هذا التطبيق.
إن كلاً من تطبيق أليباي (من آنت فاينانشال) وتطبيق وي تشات (من تينسينت) قد غيَّرا أسلوب الحياة المالية لدى الكثيرين؛ فهذه التطبيقات عبارة عن متاجر سريعة تتيح لنصف مليار صيني إمكانية الوصول إلى مجموعة هائلة من الخدمات، بدءاً من الدفع والقروض والاستثمارات ونقاط التصنيف الائتماني، وصولاً إلى طلب سيارات الأجرة وحجوزات السفر والتواصل الاجتماعي.
ونظراً لبيع الكثير من البضائع والخدمات عبر هذه التطبيقات، فإن شركتي علي بابا وتينسينت تعرفان الكثير حول الوضع المالي للكثير من الشركات الصغيرة المنتشرة في أرجاء الصين، ولهذا يمكنهما إقراض الأموال للشركات التي قد تعتبرها البنوك بمثابة مخاطرة كبيرة. وبنفس الطريقة، يمكن أن يحصل الأشخاص الذين ليس لديهم نقاط تصنيف ائتمانية تقليدية على قروض ميسَّرة لأن شركة آنت فاينانشال تملك سجلات كاملة عن تاريخ مدفوعاتهم.
أما في الولايات المتحدة، فإن الناس يدفعون بشكل شامل باستخدام البطاقات الائتمانية ويكتبون المليارات من الشيكات الورقية سنوياً، كما يجبر فيسبوك مستخدميه على الاعتماد على تطبيقين من أجل الدردشة ورؤية أخبار الأصدقاء. وعلى الرغم من إطلاق خدمة جوجل واليت (محفظة جوجل) في 2011، أي قبل محفظة آليباي الرقمية بسنتين، فهي حالياً في حالة ركود ولا يتم استخدامها إلا فيما ندر. كما ظهرت خدمة آبل باي بعد سنة، ولكن من الصعب أن تجد متاجر تقبل التعامل بها حتى في المدن الأميركية الكبرى.
إذن، وبوجود كل هذه الميزات، هل نتوقع من الغرب أن يعتمد النموذج الصيني بسرور خلال بضع سنوات؟ الإجابة على الأرجح هي "لا". وإليك الأسباب فيما يلي.
- كانت الصين جاهزة لإحداث ثورة في أساليب الدفع بسبب عدم توافر البدائل
في 2004، عندما تم إطلاق أليباي كخيار بسيط للدفع، كان النظام المالي الصيني متخلفاً من الناحية التكنولوجية؛ فقد كانت البنوك الحكومية المتهالكة على وشك الإفلاس بسبب القروض المتعثرة، ولم تكن تُبدي أي اهتمام بالمستهلكين العاديين، وكان الناس مضطرين للسفر إلى أحد فروع البنوك والوقوف في طوابير طويلة لدفع فواتيرهم، كما كانت المدَّخرات تتآكل لأن الحكومة حددت معدل الفائدة على الودائع تحت حد التضخم، وكان الحصول على بطاقة ائتمانية أمراً شبه مستحيل. وفي ذلك الوقت، كان استخدام الإنترنت يقتصر على 7.3% فقط من الصينيين، مقارنة مع 65% من الأميركيين.
ولهذا عندما ظهر شيء جديد، لم يكن هناك من الناحية العملية أي نظام سائد يقف في وجهه. ووجدت شركات التكنولوجيا المالية مجالاً كبيراً للنمو بدلاً من أن تتعرض للسحق أو الاستحواذ من قِبل شركات سابقة ضخمة.
وإذا قارنا كل هذا مع وضع الولايات المتحدة -حيث كانت الشركات المالية التقليدية تقدِّم على الدوام خيارات جيدة للقروض والدفع والاستثمارات- فسنجد أن أية شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا المالية في الولايات المتحدة ترغب في الدخول في مجال الدفع يجب أن تنافس فيزا وماستر كارد، اللتين تعتمدان على عقود كاملة من الخبرة وعادات المستهلكين الراسخة.
- ليست الابتكارات التي أطلقت إنشاء شركات التكنولوجيا المالية الصينية بالشيء الجديد خارج الصين
إن الكثير من "الابتكارات" الصينية التي حظيت بترويج كبير هي في الواقع تعديلات أو تركيبات أو استخدامات أكثر نجاحاً لابتكارات ونماذج تكنولوجية تُنسَب إلى الآخرين؛ فقد كانت رموز الاستجابة السريعة مستخدمة في سلاسل التزويد اليابانية منذ 1994، وكانت خدمات الضمان متوافرة منذ زمن على إيباي، وكانت صناديق الأسواق المالية التي تسمح للمستخدمين بالاستثمار عبر حسابات الدفع الإلكتروني متوافرة على باي بال قبل أن يستخدم أليباي رموز الاستجابة السريعة للدفع ويؤدي إلى إطلاق موجة من شركات التكنولوجيا المالية مع صندوق السوق المالية يوي باو.
أما بالنسبة لكل الضجيج الإعلامي حول الدفع بالأجهزة الخلوية، فإن معظم تعاملات الدفع لتطبيقي أليباي وتينسينت تُخبِّئ خلف رموز الاستجابة السريعة الحديثة نسخاً رقمية لبطاقات الدفع القديمة، كما أن التعليمات البرمجية نفسها قد تُخبِّئ برمجيات خبيثة تقوم باستجرار الأموال من الحسابات البنكية للمستخدمين.
وتتحكم آنت فاينانشال وتينسيت في حياة المستخدمين وتتجسس عليها أكثر من الشركات الأميركية، وقد تُستخدم هذه المعلومات ضدك.
- يعتبر النظام الصيني بمنزلة حلم للقرصنة وكابوس للخصوصية
إن السهولة الناتجة عن مشاركة معلومات حسابك لمرة واحدة مع حساب واحد لا تعطي منصات الدفع نفوذاً هائلاً وحسب، بل تجعل منها أهدافاً مغرية للقرصنة. ولقد رأينا ما يحدث عندما نبالغ في ثقتنا بالشركات لحماية العديد من نواحي حياتنا، مثل استخدام فيسبوك لتسجيل الدخول في مواقع أخرى. وقد تتخذ مسألة مماثلة مع آنت فاينانشال أو تينسينت منحى أسوأ بكثير؛ حيث إن هذه الشركات تتحكم في حياة المستخدمين وتتجسس عليها أكثر من الشركات الأميركية، وقد تُستخدم هذه المعلومات ضدك، وعلى سبيل المثال، قد تحاول هذه الشركات زيادة مدفوعاتك إذا كانت تعتقد أنك مستعد لهذا.
- تحصل شركات التكنولوجيا المالية الصينية على مساعدة كبيرة من الحكومة
أعطت الحكومة الصينية الشركات التكنولوجية العملاقة مجالاً كبيراً للابتكار، أكثر بكثير مما يسمح به المشرِّعون الأميركيون. فقد تركت الصين سوق الدفع على الإنترنت دون أي تنظيم من الناحية العملية لسنوات، كما أن حاكم البنك المركزي صرَّح بوضوح أنه سيسمح للشركات التكنولوجية غير الخاضعة للتنظيم بدخول فضاءات كانت ممنوعة على أي جهة لا تحمل رخصة مالية، مما أعطى هذه الشركات حرية للنمو قبل فرض أية قوانين.
على أي حال، اتخذ المشرعون الأميركيون مقاربة مختلفة؛ فقد أرغموا شركات التكنولوجيا المالية الناشئة على التقيُّد بكامل القواعد التقليدية، على الرغم من أن كيفية تطبيقها على نماذجهم الجديدة لم تكن واضحة على الدوام. وعلى سبيل المثال، فقد اضطر مسؤولو شركة باي بال إلى تقديم طلب الحصول على رخصة لنقل الأموال في كل ولاية بشكل منفرد، وإضافة إلى هذا فقد عملت الولايات المتحدة دائماً على الفصل ما بين البنوك والشركات غير المالية، فإذا رغبت جوجل مثلاً بامتلاك بنك، فحينئذٍ يجب -وفقاً للقوانين الأميركية- أن تترك العمل في مجال البحث والإعلان، وهو ما قد يمنع الشركات الأميركية التكنولوجية من السعي نحو نموذج التطبيق الفائق الصيني.
- التكنولوجيا المالية لا تراعي كبار السن والأشخاص الأقل معرفة بالتكنولوجيا
اكتشفت بالطريقة الصعبة أنه إذا كنت أجنبياً أو سائحاً أو من المناطق الريفية الصينية أو كنت أكبر سناً ومعتاداً على التعامل بالأموال النقدية، فقد تجد أن هذا الاقتصاد القائم على التطبيقات مغلق في وجهك؛ حيث إن الترحيب بالأموال النقدية بدأ يتضاءل في جميع أرجاء الصين، كما قد يجد هؤلاء الأشخاص أن من الصعب ركوب سيارة أجرة؛ لأن أغلب سيارات الأجرة تُحجز باستخدام التطبيقات.
ولا شك في وجود الكثير من الإيجابيات في النموذج الصيني، خصوصاً سهولة استخدامه، ولكن ربما لا يرغب الأميركيون في محاكاته فعلياً، حتى لو استطاعوا.