“فالكون فيز”: توظيف التقنية الناشئة في خدمة التراث السعودي

3 دقائق
مصدر الصورة: فالكون فيز

قبل خمس سنوات، كان عدد من الباحثين في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (المعروفة بـ"كاوست") يعملون على مسحٍ هندسي لحرم الجامعة، عندما تبادرت إليهم فكرة: أليسَ من الممكن إنجاز عملهم بسرعةٍ أكبر بكثير عن طريق توظيف تقنية الطائرات بدون طيار؟ خلال عدة شهور، حصل المؤسّسون على براءتي اختراعٍ لأنظمة التحكم في آلات التصوير وتحويل صورها بطريقة مؤتمتة إلى بيانات، ومن هناك وُلِدَت شركة فالكون فيز (FalconViz) الناشئة، التي تعملُ الآن مع مؤسّسات كبرى لتوفير خدمة المسوحات الجويّة لمختلف المناطق المدنية والصناعية والتراثية في المملكة العربية السعودية، والتي تساعد على حِفْظ تاريخ المملكة وثقافتها فضلاً عن تطوير قطاعها الرياديّ.

في سنة 2015، سجَّل أربعة مؤسّسين من جامعة الملك عبد الله شركتهم الجديدة، وهم نيل سميث (الرئيس التنفيذي للشركة) ولوكا باسون (الرئيس التقني) ومحمد الشلبي (رئيس التطوير الرياديّ) وأنس دلهاوي (المدير العام للشركة). حصل الشركاء المؤسّسون على تمويل مبدئيّ بقيمة تقارب مليون ريالٍ سعودي، أي ربع مليون دولار، من جامعة الملك عبد الله لإطلاق الشركة الجديدة، التي وُضِعَت تحت اسم فالكون فيز.

كان تأسيس الشركة تتويجاً لمشروعٍ بدأ قبل إطلاقها بعامٍ تقريباً، وهو محاولة إجراء تخطيط رقميّ لحرم جامعة الملك عبد الله. في البداية، حاول الباحثون التقاط صور عادية لمباني الجامعة ومعالجتها حاسوبياً لتحويلها إلى نماذج ثلاثية الأبعاد، ولكن تبيَّن لهم أن الوقت الذي تستغرقه هذه العملية قد يكونُ طويلاً جداً. يقول نيل سميث: "أدركتُ أمراً، وهو أنني لو استطعتُ تصوير هذه الأماكن من الجوّ باستخدام طائرة من دون طيار وجمع الصور حاسوبياً، فإنّ بإمكاني مسحها في وقتٍ أقلّ وبدقّة أكبر بكثير"، بالرغم من أنَّهم كان عليهم -أولاً- حلّ بعض المشكلات لتحقيق هذا الهدف.

يقول أنس دلهاوي، أحد المؤسّسين: "واجهتنا تحدّيات مختلفة. على سبيل المثال، كانت الكاميرات المثبّتة على الطائرة تهتزّ بشكلٍ شديد أثناء التحليق، ممَّا يجعلُ الصور غير واضحة". وللتعامل مع هذا الأمر، طوَّر الباحثون نظاماً مُحَوْسباً للتحكّم في حركة الكاميرات وزوايا التصوير للتقليل من الاهتزازات بدرجةٍ كبيرة جداً، بحيثُ أن دقة الكاميرا في التقاط الصور تصلُ إلى السنتيمتر الواحد. إضافةً إلى ذلك، عمل الباحثون على تطوير برنامج شبه آليّ لاستيعاب الصّور الجوية (Image recognition) وتحويلها تلقائياً إلى بيانات ونماذج ثلاثية الأبعاد، وهو الهدفُ النهائي للمسح الجويّ.

وفي أحد الأيام، كان نائب أمين مدينة جدّة (ثاني أكبر المدن السعودية من حيث عدد السكان) يزور بعض الباحثين في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ورأى -بالصّدفة- النماذج ثلاثية الأبعاد التي صمّموها للحرم الجامعي. أبدى الأمين اهتمامه على الفور بالتعاون مع الشركة و الاستفادة من تقنيتها في المسح الجوي بتوثيق المواقع التراثية بالمدينة. ففي سنة 2014، اختارت اليونسكو مدينة جدة التاريخية لتكون ثالث موقع للتراث العالمي في السعودية، وقد كانت هذه فرصة مهمّة للأمانة وكذلك لشركة فالكون فيز، التي يتخصّص رئيسها التنفيذي، نيل سميث، في أبحاثٍ تجمعُ بين التقنية المحوسبة وتوثيق التراث التاريخي والثقافي الإنساني.

منذ ذلك الحين، أجرى فريق الشركة مسوحاتٍ وتصميمات ثلاثية الأبعاد لمختلف المواقع التاريخية بالسعودية، بما فيها مدائن صالح والدرعية بالرياض، وهما أيضاً من مواقع اليونسكو للتراث العالمي، إضافةً لمواقع مختلفة في محافظات الجوف والشرقية، وذلك بدعمٍ من وزارة الثقافة وهيئة السياحة والآثار ومؤسّسات حكومية أخرى.

يقول نيل سميث: "تُحلّق جميع طائراتنا حوسبياً. وبإمكان هذه الطائرات أن تُحلّق على مسافة قريبةٍ من الأرض، حتى ولو كانت حولها عقبات مثل أعمدة الإنارة والاتصالات التي قد تمثّل -عادةً- خطورةً لإمكانية اصطدام الطائرة بها". بعد إتمام مهمة التصوير الجويّ، التي تستغرقُ يوماً واحداً، يعملُ فريق الشركة على معالجة الصور وتحويلها إلى نموذج حاسوبي. يقول أنس دلهاوي: "يمكننا، بهذه التقنية، مسح منطقة تصلُ مساحتها إلى خمسة ملايين مُربَّع خلال خمسة أيام فقط، رغم أنَّ شركات البناء والهندسة تحتاجُ، بالطريقة التقليدية، شهراً كاملاً لمسحِ مثل هذه المنطقة".

كانت الشركة في حاجة للتوسّع، بمرور الوقت، خارج نطاق التوثيق التراثي والتاريخي، وذلك بالتعاون مع شركات أخرى تعملُ بالتخطيط العمراني مدنياً وصناعياً. يقول أنس دلهاوي: "كُنَّا في حاجة لـ (تثقيف) سوق العمل؛ وذلك بأن نُقدّم لهم عروضاً وعيّنات من عملنا، الذي لم يكُن مألوفاً لهم". ولهذا السَّبب، بدأت الشركة تتعاون مع المشاريع التطويرية الكبرى في المملكة، الحكومية منها خصوصاً، مثل "مشروع نيوم": وهو مشروعٌ ضخمٌ يهدفُ لإنشاء مدينة عابرةٍ للحدود بين السعودية والأردن ومصر، والتي سوف تكونُ مركزاً صناعياً وريادياً كبيراً بالمنطقة.

"من الطبيعي أنَّ المستقبل لا يزال محفوفاً بالتحديات" كما يقول أنس دلهاوي عن تجربة العمل بمجالٍ غير مطروقٍ تقنياً في المملكة والمنطقة العربية، ويقول: "إن إحدى العقبات المستمرَّة لنا هي مواكبة التغيير السريع في  مجال الطائرات من دون طيار، وكذلك في نقص الاستثمار في المواهب المحلّية بسوق العمل؛ إذ ليس من السهل علينا أن نجد أشخاصاً قادرين على التعامل مع الضغط الميداني والمهني الذي يتطلَّبه -على سبيل المثال- تشغيلُ طائرة لثماني ساعاتٍ يومياً. من ناحيةٍ أخرى، نواجهُ أيضاً منافسة متزايدة من الشركات الأجنبية".

لكن أنس دلهاوي متفائلٌ بخصوص مستقبل الشركة وقطاعها التقني بالسعودية، حتى ولو كان مجالُ عملها جديداً نسبياً، إذ يرى أن ارتفاع المنافسة أمرٌ متوقّع، وأن الشركات الناشئة محلياً ما زالت قادرةً على التعامل معه. ويقول: "لعلَّ أكثر ما أفتخرُ به هو اعتمادنا على المواهب السعودية، التي تصلُ نسبتها إلى 60% من العاملين في الشركة، مع أنَّ معظم الوظائف التي يشغلونها هندسية وتقنية وتحتاج إلى خبرة واسعة".

بعد أربع سنواتٍ من إطلاق فالكون فيز، وصل عدد موظّفي الشركة إلى 18 موظفاً وعدد الطائرات التي تشغّلها إلى ثماني طائرات، تقوم بمسوحاتٍ جوية بمختلفِ أنحاء المملكة. في سنة 2016، نالت الشركة تمويلاً ثانياً بقيمة 1.1 مليون دولار أميركي من  مركز أرامكو لريادة الأعمال (وَاعِدْ). وعلى الرغم من مجال عملها غير التقليدي والمعرّض لمنافسة متسارعة إقليمياً وعالمياً، تمكَّنت الشركة من إظهار مثالٍ على فرص الابتكار التقني والريادي المتوافرة وعلى كيفية تسخيرها لخدمة الثقافة والتراث المحليّ والعربيّ.