لماذا ينبغي عدم الاستخفاف بمخاطر التزييف الرخيص؟

6 دقائق
التزييف الرخيص
مصدر الصورة: إم إس تك عبر أنسبلاش

في 30 نوفمبر، قام المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ليجيان تشاو بنشر صورة وتثبيتها بشكل دائم على رأس صفحته الشخصية على تويتر. يظهر في الصورة جندي واقف على علم أستراليا مكشراً بابتسامة مجنونة، وهو يحمل سكيناً ملطخة بالدماء ويضعها على رقبة صبي مغطىً وجهُه بوشاح شبه شفاف ويحمل حَمَلاً بين ذراعيه. وأرفق تشاو الصورة بتغريدة قال فيها: “أشعر بالصدمة إزاء قتل المدنيين والأسرى الأفغان على أيدي الجنود الأستراليين. إننا ندين بشدة مثل هذه الأفعال وندعو [كما ورد في التغريدة حرفياً] إلى محاسبتهم على أفعالهم هذه”.

تشير التغريدة إلى إعلان صدر مؤخراً عن قوة الدفاع الأسترالية، التي كشفت “معلومات موثوقة” تفيد بأن 25 جندياً أسترالياً متورطون في قتل 39 مدنياً وأسيراً أفغانياً بين عامي 2009 و2013. ترمي الصورة إلى إظهار جندي أسترالي يوشك على نحر طفل أفغاني بريء. يالها من صورة صاعقة.

لكن هناك أمر واحد فقط بشأن الصورة يجب أن تعرفوه، ألا وهو أنها مزيفة. وبعد التمعن قليلاً في الصورة، يتبين أنها غير مقنعة حتى. بل كان في وسع أي مبتدئ في استخدام برنامج فوتوشوب أن يأتي بمثلها. يُعرف هذا النوع من الصور باسم الوسائط رخيصة التزييف؛ وهي عبارة عن وسائط تم التلاعب بها أو تحريرها أو تسميتها بطريقة خاطئة أو وضعها في سياق غير صحيح من أجل نشر معلومات مضللة.

لقد أصبحت مادة تزييف رخيص محور توتر دولي كبير؛ حيث قال رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، إنه يجدر بالصين أن تشعر “بالخجل التام”، وطالب باعتذار عن الصورة “البغيضة”. وعلى الجانب الآخر رفضت بكين الاعتذار، بل حتى اتهمت أستراليا بـ “الهمجية” ومحاولة “صرف انتباه الرأي العام” عن جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبتها قواتها المسلحة في أفغانستان.

هناك درسان سياسيان مهمان يمكن استخلاصهما من هذا الحادث؛ الأول هو أن بكين وافقت صراحة على قيام أحد كبار دبلوماسييها بتوظيف تزييف رخيص في النشر النشط لمعلومات مضللة على منصات الإنترنت الغربية. تقليدياً، لطالما توخت الصين الحذر عند التعاطي مع مثل هذه الأمور؛ بهدف تقديم نفسها كقوة عظمى مُسالمة وتتسم بالمسؤولية. غير أن هذا الأسلوب الجديد يمثل إشارة مهمة إلى تخلي الصين عن سياستها السابقة.

أصبحت مادة تزييف رخيص محور توتر دولي كبير.
كما أن هذه المناوشة تبرز، على نطاق أوسع، الخطورةَ المتزايدة لاستخدام المعلومات المضللة المرئية كأداة سياسية. فعلى امتداد العقد الماضي، أدى انتشار الوسائط المفبركة إلى إعادة تشكيل الوقائع السياسية. (تذكّر، على سبيل المثال، المزيفات الرخيصة التي شجعت على ارتكاب إبادة جماعية ضد مسلمي الروهينجا في بورما، أو تلك التي ساهمت في نشر معلومات مضللة عن كوفيد-19).

واليوم، في ظل قيام القوى العظمى العالمية بمشاركة مزيفات رخيصة علناً على وسائل التواصل الاجتماعي، ما الذي يردعها (أو غيرها من الجهات الفاعلة) عن نشر معلومات مضللة مرئية أكثر تعقيداً عند ظهورها؟

لطالما حذر الصحفيون والتقنيون على مدى سنوات من مخاطر “التزييف العميق”. وبشكل عام، تعدّ وسائط التزييف العميق نوعاً من “الوسائط الاصطناعية” التي تم التلاعب بها أو إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. ويمكن النظر إليها أيضاً باعتبارها الخليفة “الأقوى” لوسائط التزييف الرخيص.

تساهم التطورات التكنولوجية في تحسين جودة المعلومات المرئية المضللة، وفي نفس الوقت، تسهيل عملية توليدها على أي شخص. ومع توافر إمكانية إنتاج المحتوى عميق التزييف باستخدام تطبيقات الهواتف الذكية، سيصبح أي شخص تقريباً قادراً على إنشاء معلومات مضللة مرئية معقدة بتكلفة شبه معدومة.

إنذار خاطئ

وصلت التحذيرات من المواد عميقة التزييف إلى ذروتها قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية هذا العام. وقد ناقش السياسيون والصحفيون والأكاديميون على مدى أشهر كيفية مواجهة هذا التهديد المحتمل. حتى أن الهيئات التشريعية في ولايتي تكساس وكاليفورنيا قامت خلال الفترة قبيل التصويت بفرض حظر استباقي على استخدام المواد عميقة التزييف للتأثير على الانتخابات.

عند التفكير في تلك الفترة، يتضح أنه كان هناك مبالغة في هذه المخاوف. حيث لم يظهر عدد كبير من المواد عميقة التزييف ذات صلة بالانتخابات التي تستحق الإبلاغ عنها، باستثناء بعض المواد المثيرة للاهتمام، بما في ذلك فيديو ساخر أنشأته محطة روسيا اليوم (RT) التابعة للحكومة الروسية، يعترف فيه دونالد ترامب المهزوم بأنه بيدق بيَد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالتأكيد لم تبلغ أي مادة عميقة التزييف مستوى يمكن عنده القول بموضوعية إنها قد أثرت على نتيجة الانتخابات. وبدلاً من استخدامها في التخريب أو الاستغلال السياسي، لا يزال استخدام المواد عميقة التزييف مقتصراً في الغالب في إنشاء مواد إباحية إكراهية.

على الرغم من أن تقنية التزييف العميق لم تتحول بعد إلى أسلحة التضليل الجماعي التي تنبأ بها البعض، فلا مجال للتهاون في التعامل معها. وحتى الآن، تم التخفيف من المخاطر المحتملة إلى حد كبير بفضل القيود التقنية. لكن تطور تقنيات إنشاء مواد التزييف العميق، سيفتح الباب على مصراعيه أمام هذه المخاطر.

وحتى قبل بلوغ تلك المرحلة، فإن مجرد إدراك الأشخاص لإمكانات التزييف العميق يحمل تأثيراته الضارة بالفعل؛ ففي المستقبل القريب، ستتمكن الجهات الخبيثة من إنتاج مواد عميقة التزييف عن أي شيء، ويرفضون ببساطة أي وسائط أصلية باعتبارها مزيفة. يُعرف هذا “الربح المزدوج” الذي تجنيه الجهات الخبيثة باسم “مكسب الكذاب“. على الرغم من أن المصطلح قد تمت صياغته في ورقة بحثية حول مواد التزييف العميق في عام 2018، إلا أنه لا يتعلق بالمزيفات العميقة وحدها. بل يمتد هذا المفهوم ليشمل جميع المعلومات المضللة، بما في ذلك المواد رخيصة التزييف.

التزييف الرخيص في كل مكان

منذ ظهور الفيديو المفبرك سيئ السمعة لرئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في عام 2019، أصبحت مواد التزييف الرخيص سمة معتادة في الحياة السياسية الأميركية. وخلال هذا العام، كانت هذه المواد إحدى مقومات عملية تضليل رفيعة المستوى قام بها الرئيس وأقرب مساعديه؛ حيث تم استخدام التزييف الرخيص باستمرار في تعزيز الادعاء الكاذب بأن الانتخابات قد شابها تزوير واسع النطاق لأصوات الناخبين.

أحد الأمثلة على ذلك هو مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع للرئيس المنتخب جو بايدن يقول فيه: “لقد نجحنا، على ما أعتقد، في تنظيم أكبر عملية تزوير للانتخابات وأكثرها شمولية في تاريخ السياسة الأميركية”. عندما يتم وضع تعليقات بايدن في سياق مناسب، يمكن فهمها باعتبارها توصيفاً لبرنامج يهدف إلى حماية الناخبين في حالة نشوب نزاع لا أساس له بشأن نتيجة الانتخابات. ومع ذلك، قام كل من ترامب والسكرتيرة الصحفية كايلي ماكناني بمشاركة المقطع وتصويره على أنه اعتراف بالاحتيال.

حتى مع استمرار عد الأصوات، تمت مشاركة مقاطع فيديو أصلية للعاملين في الانتخابات أثناء قيامهم بتدوين الأصوات وجمع بطاقات الاقتراع بطريقة روتينية، من قِبل أشخاص بمن فيهم ترامب نفسه، باعتبارها “دليلًا” على إغراق صناديق الاقتراع بالأصوات والتلاعب بها. في هذه الأثناء، تبين أن مقطع التزييف الرخيص الذي يظهر رجلاً “يمزق” أوراق الاقتراع هو من إنتاج أحد مصممي المقالب على تيك توك.

لا أساس من الصحة لمزاعم حدوث تزوير واسع النطاق في أصوات الناخبين، وتقوم المحاكم في جميع أنحاء أميركا برفض محاولات الفريق القانوني لترامب للاعتراض على نتيجة الانتخابات. في وقت سابق من هذا الشهر، اعترف المدعي العام بيل بار (الذي تنحى من منصبه في 23 ديسمبر) أخيراً بأن وزارة العدل الأميركية لم تكشف عن أي دليل على الاحتيال.

لكن يبدو أن هناك عواقب حقيقية ترتبت على التزييف الرخيص؛ ففي أوائل ديسمبر، استشهد جابرييل ستيرلنج، مدير تنفيذ نظام التصويت في جورجيا، بحالات الترهيب والتهديدات بالقتل ضد العاملين في الانتخابات، وقال مناشداً: “لقد زادت الأمور عن حدها! يجب أن يتوقف كل هذا!” اضطر أحد عاملي الانتخابات في جورجيا إلى الاختباء بعد أن انتشر مقطع تزييف رخيص مدته 34 ثانية يتهمه زوراً بالتخلص من ورقة الاقتراع غيابي.

تتباين القناعة بسردية “الانتخابات المزورة” بشكل صارخ بين صفوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وقد وجد استطلاع أجرته بوليتيكو/ مورنينج كونسلت بعد الانتخابات أن 70% من الناخبين الجمهوريين قالوا إنهم لا يعتقدون أنها كانت “حرة ونزيهة”. وبلغت نسبة الناخبين الجمهوريين الذين أعربوا عن ارتياب مماثل بالعملية قبل الانتخابات 35%. في المقابل، قال نصف الناخبين الديمقراطيين فقط (52%) إنهم يعتقدون أن الانتخابات ستكون “حرة ونزيهة” قبل 3 نوفمبر. وفي استطلاعات الرأي التي أجريت بعد فوز بايدن، قفزت هذه النسبة إلى 90%.

كيف نحدد ما يمكن تصديقه؟

يبدو أن الانتشار المتزايد للمعلومات المضللة المرئية يؤثر على السياسة بطريقتين متمايزتين؛ أولاً، إنها تغذي انتشار جميع أنواع المعلومات المضللة؛ حيث تتصرف الجهات الخبيثة بمزيد من الثقة بقدرتها على الإفلات من العقاب، واثقين من قدرتهم على تجنب التدقيق والمساءلة. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنه حتى وقت كتابة هذا التقرير، لا تزال صورة التزييف الرخيص التي شاركها ليجيان تشاو مثبتة في رأس صفحته الشخصية على تويتر.

تقدم مواد التزييف الرخيص اليوم دروساً قيمة حول مواد التزييف العميق التي سنشهدها في المستقبل.
ثانياً، من شأن الانتشار المتزايد للمعلومات المضللة المرئية أن يجعلنا أكثر عرضة لتصديق جميع المعلومات المضللة. ومع تزايد وعي الجمهور بالعديد من الطرق التي يمكن من خلالها التلاعب بالوسائط، سيصبح أكثر تشكيكاً في جميع الوسائط، بما فيها الوسائط الحقيقية الأصلية.

ومن شأن هذا التشكيك أن يسهل على الجهات الخبيثة رفض الأحداث الحقيقية باعتبار أنها مزيفة، وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تفسيرات ذاتية وحزبية متزايدة للأحداث من قِبل الجمهور نفسه. لنأخذ على سبيل المثال الاعتقاد السائد بين الناخبين الجمهوريين بأن انتخابات 2020 الأميركية لم تكن حرة ونزيهة، من الواضح أن هذا غير صحيح، ولكن كما تشير بيانات الرأي العام، فإن الناخبين الجمهوريين ليسوا الوحيدين الذين يشككون في العملية الانتخابية؛ فقد كان الناخبون الديمقراطيون متشككين أيضاً إلى أن ربحوا الانتخابات. إذا فاز مرشح جمهوري في 2024، فهل سينقلب الرأي العام مرة أخرى على أسس حزبية؟

في حين لم تتحقق أكثر التوقعات سوءاً حول التزييف العميق ذي الدوافع السياسية في عام 2020، لا بدّ من تحليل تطورها في سياق المزيفات الرخيصة وغيرها من أشكال التضليل السياسي. تقدم مواد التزييف الرخيص اليوم دروساً قيمة حول مواد التزييف العميق في المستقبل. إذن، لا ينبغي أن يكون السؤال: “متى ستظهر مواد التزييف السياسي العميق؟” وإنما: “كيف يمكننا التخفيف من تأثيرات الطرق العديدة التي تتيح للمعلومات المضللة المرئية إعادة تشكيل واقعنا السياسي؟”.