لقد بات الذكاء الاصطناعي على أهبة الاستعداد للتأثير على مجتمعاتنا في عدد لا يحصى من المجالات التي تتراوح من الرعاية الصحية، مروراً بتركيب المواد الكيميائية والوقود، وصولاً إلى أنظمة التحكم في السيارات ذاتية القيادة. وتلعب كل من الأجهزة الحاسوبية المزودة بمعالجات ذات قدرات عالية رفقة الذواكر دوراً مشتركاً يساعد على بدء هذه الثورة الوشيكة. ولكي يتمتع الذكاء الاصطناعي بصفة الاستدامة، فمن الضروري التحكم في الذواكر، وبالتالي التحكم في ذكاء الآلات ذاتية التحكم وقدرتها على التعلم.
وفيما يتعلق بمستلزمات الطاقة، إذا أردنا من الذكاء الاصطناعي أن يحل أحجية أو يلعب لعبة ما، فقد يحتاج إلى تشغيل برنامج معين على آلاف الحواسيب، وهو ما قد يحتاج إلى طاقة تعادل إنتاج ثلاث محطات توليد نووية في ساعة واحدة.
مكونات مادية جديدة
قام فريق من المهندسين بقيادة شريرام راماناثان، وهو بروفيسور مختص بهندسة المواد في جامعة بوردو، بتطوير عتاد صلب يمكن أن يتعلم المهارات باستخدام أحد أنواع الذكاء الاصطناعي الذي يتم تشغيله حالياً باستخدام المنصات البرمجية. ويمكن لمشاركة ميزات الذكاء الاصطناعي بين العتاد الصلب والبرمجي أن يقلل كثيراً من احتياجات الطاقة المطلوبة حالياً لتشغيل الذكاء الاصطناعي في التطبيقات المتطورة، مثل السيارات ذاتية القيادة أو اكتشاف الأدوية. يقول فريق راماناثان إن البرمجيات تتحمل العبء الأكبر من تحديات الذكاء الاصطناعي، وإذا أمكن إدماج الذكاء في عناصر الدارات، إضافة إلى ما يحدث على المستوى البرمجي، يمكن تحقيق أشياء ليس بالإمكان تحقيقها حالياً ببساطة.
لا شك أن تطوير العتاد الصلب للذكاء الاصطناعي ما زال في مراحله المبكرة، وقد أجرى الباحثون بعض التجارب على الذكاء الاصطناعي في بعض التصاميم للعتاد الصلب، ولكنهم لم يتمكنوا من معالجة مشكلة الاستهلاك الكبير للطاقة لأنظمة الذكاء الاصطناعي. ومع انتشار هذه التقنية في الحياة اليومية على نطاق واسع، أصبح الاعتماد المكثف على البرمجيات التي تستهلك الكثير من الطاقة أمراً غير قابل للاستدامة، حسبما يرى فريق راماناثان. وإذا أصبح من الممكن مشاركة ميزات الذكاء بين العتاد الصلب والعتاد البرمجي، فقد تستطيع مساحة محددة من السيليكون تحقيق المزيد باستخدام قدر محدد من الطاقة.
يُعتبر فريق راماناثان الفريق البحثي الأول الذي تمكن من تجربة ذاكرة "شجرية" اصطناعية في تصميم جديد للعتاد الصلب ضمن درجة حرارة الغرفة، حيث لم يستطع الباحثون من قبل رصدَ هذا النوع من الذاكرة في العتاد الصلب إلا ضمن درجات حرارة منخفضة للغاية بالنسبة للتجهيزات الإلكترونية. وقد تم نشر نتائج هذه الدراسة في مجلة نيتشر كوميونيكيشن (Nature Communications).
أما عن العتاد الصلب الذي قام فريق راماناثان بتطويره، فهو يتكون من مواد تُسمى بالمواد الكمومية، وهي معروفة بخصائصها التي لا يمكن تفسيرها بالاعتماد على الفيزياء الكلاسيكية؛ حيث كان مختبر راماناثان يعمل على دراسة هذه المواد وكيفية استخدامها لحل مشاكل الإلكترونيات. ويستخدم البرنامج ذاكرة شجرية البنية لتنظيم المعلومات ضمن "أفرع" متعددة، ما يسهّل من استرجاع هذه المعلومات عند تعلم مهارات أو مهام جديدة.
تبين الخطوة الأولى أوزان الوصلات العصبونية في المراحل الأولى من التعلم، وتبين الخطوتان 2 و3 الأوزان بعد التعلم من 10,000 و 30,000 صورة تدريبية، أما الخطوة الرابعة فتبين الأوزان النهائية التي تم تعلمها بعد 60,000 صورة تدريبية.
تتطور عملية التعلم بحيث أن الأوزان المتعلقة بكل عصبون تقارب أحد أنواع الأرقام التي تعلّمها هذا العصبون، بما أن كل عصبون في طبقة التنشيط متصل بجميع العصبونات في طبقة الدخل.
هذه الإستراتيجية مستوحاة من طريقة الدماغ البشري في تصنيف المعلومات واتخاذ القرارات؛ حيث يتذكر البشر الأشياء ضمن بنية شجرية من التصنيفات. فعلى سبيل المثال، نحن نتذكر التفاحة ضمن فئة الفواكه، والفيل ضمن فئة الحيوانات، ويمكن من خلال محاكاة هذه الميزات في العتاد الصلب الحصول على نتائج مثيرة للاهتمام في الحوسبة المستوحاة من الدماغ. ولكن كيف؟
عمليات محاكاة
لتوضيح كيف نجح الفريق في محاكاة مثل هذه الميزات، لا بد من التطرق أولاً إلى الظاهرة الفيزيائية التي انطلقوا منها في البداية. حيث قام الفريق بإدخال بروتون في مادة كمومية تسمى أوكسيد نيوديميوم النيكل، واكتشفوا أن تطبيق نبضة كهربائية على المادة يحرك البروتون ضمنها. ويؤدي كل موضع جديد للبروتون إلى حالة مقاومة مختلفة، مما يؤدي بدوره إلى موضع لتخزين المعلومات يسمى "حالة ذاكرة"، وبالتالي ستؤدي عدة نبضات كهربائية إلى تكوين فرع مكون من عدة حالات ذاكرة. يقول فريق البحث إنه يمكن بناء الآلاف من حالات الذاكرة ضمن المادة بالاستفادة من آثار الميكانيك الكمومي، حيث إن المادة تبقى على حالها، وما يحدث فعلياً هو أنه يجري نقل البروتونات من مكان إلى آخر وحسب.
أجرى الفريق عمليات محاكاة لخصائص هذه المادة، وبيّن أنها قادرة على تعلم الأرقام (أي أشكالها) من 0 إلى 9، وتمثل قابلية تعلم الأرقام الاختبارَ الأساسي للذكاء الاصطناعي. وتمثل تجربة هذه الأشجار ضمن درجة حرارة الغرفة في مادة حقيقية خطوةً نحو إثبات إمكانية تولّي العتاد الصلب بعض المهام بدلاً من البرمجيات. يقول فريق راماناثان إن هذا الاكتشاف يفتح جبهات جديدة كانت مُهملة من قبل في الذكاء الاصطناعي؛ لأن تطبيق هذا النوع من الذكاء في العتاد الصلب الإلكتروني لم يكن موجوداً من قبل.
ليس هذا كل شيء
يمكن لهذه المادة أن تساعد أيضاً على ابتكار طريقة تتيح للبشر التواصل مع الذكاء الاصطناعي بشكل أقرب إلى الطبيعة؛ حيث يرى فريق راماناثان أن البروتونات تلعب أيضاً دور نواقل طبيعية للمعلومات لدى البشر، وقد تكون الأداة التي تعمل بناقل بروتوني عنصراً هاماً في الوصول في نهاية المطاف إلى تحقيق تواصل مباشر مع الكائنات العضوية، عن طريق زرعة دماغية على سبيل المثال. دعونا ننتظر ما الذي سيحمله لنا المستقبل، وربما لن ننتظر طويلاً، من يدري؟
المرجع: DOI: 10.1038/s41467-020-16105-y
الأشجار العصبونية في البيروفسكايت.