أتت أولى مؤشرات تعثر تجربة البيتكوين في السلفادور من رئيسها الحاضر دوماً على الإنترنت، ناييب بوكيلي، وذلك في ثاني أسبوع من شهر مايو/ أيار، وظهرت كما هو متوقع على موقع تويتر. ولكنها كانت غير صريحة وواضحة هذه المرة، على غير العادة. فقد قام لفترة وجيزة بإزالة العينين الحمراوين الليزريتين من صورة شخصيته الرقمية.
الرئيس التنفيذي للسلفادور
يعتبر رمز العينين الليزريتين، والذي يعتمده الكثيرون من مناصري العملات المشفرة على مواقع التواصل الاجتماعي، دلالة على أن بوكيلي مناصر حقيقي. وقد كان هذا الرمز متناسباً بشكل جيد مع الصورة العامة المبنية بدقة للسياسي البالغ من العمر 40 سنة، بوصفه رئيساً ورائد أعمال عصرياً وشاباً وحذقاً في استخدام التكنولوجيا، وهي صفة امتدت إلى إطلالاته بالنظارات الشمسية وقبعات البيسبول والسترات الجلدية. وإذا كانت هذه الصورة تتضارب مع صورته الأخرى، وهي صورة طاغية سجن ما يصل إلى 30,000 شخصاً خلال شهر ونصف، فإن معجبيه من مناصري العملات المشفرة لم يلاحظوا هذا أو لم يكترثوا به، كما يبدو. علاوة على ذلك، فإن بوكيلي كان يعرف عن نفسه على تويتر بعدة ألقاب مختلفة، مثل "الرئيس التنفيذي للسلفادور"، و"أروع رئيس في العالم"، و"أروع دكتاتور في العالم".
لقد قرر بوكيلي المراهنة بكل ما يملك على البيتكوين ودعمها إلى أقصى حد ممكن، محولاً البلاد بأسرها إلى مختبر للعملات المشفرة. وعلى الرغم من استطلاعات الرأي التي تبين معارضة أغلبية العامة، فقد قام المجلس التشريعي، والذي يسيطر حلفاؤه عليه، بإقرار قانون دون أي جدل يذكر لتسمية البيتكوين كعملة قانونية في البلاد، إضافة إلى الدولار الأميركي الذي اعتمدته السلفادور في 2001. ووفقاً لنصيحة الرئيس التنفيذي لشركة "سترايك" (Strike)، جاك مالرز، فقد أطلقت حكومة بوكيلي محفظة رقمية للعملات المشفرة على شكل تطبيق يحمل اسم "تشيفو" (Chivo) (وهي كلمة عامية في السلفادور بمعنى رائع) مع رصيد مسبق بقيمة 30 دولار لتشجيع استخدامه. ولكن الكثيرين ممن استخدموا التطبيق وجدوه مثيراً للارتباك ومليئاً بالأخطاء البرمجية، أو أن الرصيد المسبق تمت سرقته من قبل لصوص الهويات. وقد وجدت دراسة أجراها اقتصاديون في جامعة شيكاغو وجامعة بنسلفانيا الحكومية وجامعة يال أن أغلب الذين تمكنوا من استخدام التطبيق في نهاية المطاف قاموا بالحصول على قيمة الرصيد البالغة 30 دولار نقداً، ولم يستخدموا تشيفو مرة أخرى. وقال أحد هؤلاء الباحثين، فرناندو ألفاريز من جامعة شيكاغو، لموقع التكنولوجيا "ريست أوف وورلد" (Rest of World): "لم يشهد العالم من قبل فشل تجربة في تقديم عملة جديدة مع كل هذه الحوافز القوية".
اقرأ أيضاً: ما هي أشهر طرق الاحتيال المرتبطة بعملة البيتكوين المشفرة؟ وكيف تتجنبها؟
وكما وجدت الحكومة السلفادورية، فإن مشكلة استخدام العملة المشفرة كعملة قانونية في البلاد هي الوعود الشامخة والمضللة للكلمة نفسها. فالعملة، كما يعرّفها الاقتصاديون، يجب أن تحقق ثلاث وظائف: يجب أن تكون مخزناً مستقراً نسبياً للقيمة، ويجب أن تكون وحدة حساب مفهومة من قبل الجميع، ويجب أن تكون وسيلة تبادل مقبولة على نطاق واسع. ولكن البيتكوين لا تحقق أياً من الوظائف السابقة. فهي، على غرار العملات المشفرة الأخرى، من الأصول التي تتعلق قيمتها بالمضاربة، والتي تتنكر على هيئة عملة، وإذا شئنا تعريفاً أكثر لطفاً، فهي عبارة عن أصول تعتمد قيمتها المتوقعة جزئياً على الوعد القائل بأنها ستتحول يوماً ما إلى عملة مستخدمة على نطاق واسع. ولكن، وحتى يتحقق هذا، فإن شعبية العملات المشفرة تعتمد على قيمها شديدة التقلب، وأحلام الثراء السريع التي توحي بها، ما يتضارب بصورة مباشرة مع وعود الاستقرار والاستخدام اليومي في المستقبل.
انهيار في أسواق العملات المشفرة
وقد انفجرت الفقاعة مؤخراً عندما انهارت العملة المستقرة "تيرا" (Terra) مثبتة أنها أقل استقراراً بكثير مما ورد في الإعلانات، فأطلقت انهياراً شاملاً في أسواق العملات المشفرة أدى إلى القضاء على 400 مليار دولار من قيمة هذه الأسواق. وقد حث مؤثرو البيتكوين بطريقتهم المعتادة المستثمرين الأفراد على "التشبث بكل قوة" (HODL) والتضحية بخسائرهم لدعم أصول المليارديرات، في عملية رفع معنوية لقيمة هذه العملات كانت تجري في الزمن الحقيقي على مواقع التواصل الاجتماعي. بل إن بوكيلي نفسه غرد قائلاً: "استثمروا هذا الهبوط لشراء العملات!" وهو ما فعلته خزينة السلفادور بسرعة.
بالنسبة لبعض الأفراد، كان هذا الانهيار بمثابة خسارة مدمرة للثروة الشخصية. وبالنسبة لبلاد كاملة، كانت النتائج مدمرة على نطاق أضخم بكثير. فالسلفادور على وشك التخلف عن سداد ديونها، والتي تصل إلى ما يقارب 100% من ناتجها المحلي الإجمالي. وقد تفاقم هذا بسبب فقدان قيمة أرصدة البلاد من البيتكوين، والتي كان بوكيلي يتباهى بأنه يتاجر بها عن طريق الصناديق العامة مستخدماً هاتفه وهو في الحمام. وحتى الآن، تسبب بوكيلي شخصياً بخسارة الخزينة لمبلغ 40 مليون دولار، وهو مبلغ مساوٍ لدفعته المقبلة من الديون الأجنبية، والتي يجب تقديمها إلى حملة السندات في يونيو/ حزيران. لقد مزحت من قبل قائلاً بإن بوكيلي سيكون أول رئيس دولة يدير مخطط نصب بالتسويق متعدد المستويات، أو أول رئيس دولة يقع ضحية مخطط نصب كهذا. ويبدو أن كلا الوصفين ينطبقان عليه.
اقرأ أيضاً: متى سيتم تعدين كل عملات البيتكوين؟ وماذا سيحصل للعملة حينئذ؟
فعلى الرغم من أن البيتكوين بيعت إلى العامة في السلفادور كوسيلة أقل تكلفة للتحويل المالي، والحصول على الخدمات البنكية لمن لا يستطيعون التعامل مع البنوك، فإن عدم تحقيقها لأي من الهدفين لم يكن مسألة مهمة. فحكومة السلفادور مثقلة بالديون بسبب عقود من الإدارة المالية السيئة، وهي تعتمد على رأس المال الأجنبي للعمل. ولكن سنداتها تراجعت إلى مستوى سيئ للغاية. فقد دمر بوكيلي جميع الصلات مع البنوك التقليدية، والخزينة الأميركية، وصندوق النقد الدولي –ما أدى إلى إيقاف قرض تحتاجه البلاد بشدة، وبقيمة مليار دولار، إلى أمد غير مسمى- بسبب الفساد. ويتضمن هذا الفساد عملية اختلاس محتملة من أموال إغاثة كوفيد، وهي عملية مرجحة ولكن لم يتم إثباتها، لأن بوكيلي أوقف عملية التحقيق في الفساد وطرد المدعي العام الذي كان يقود عملية التحقيق.
وحتى قبل الانهيار، كانت السلفادور رهاناً سيئاً للمقرضين الأجانب. وقد كانت حيلة البيتكوين بشكل أساسي محاولة للالتفاف حول النظام المالي العالمي، واستعطاف أوساط العملات المشفرة مباشرة كملاذ أخير للاقتراض. ولهذا، قامت حكومة بوكيلي بإثارة ضجيج إعلامي ووعود براقة حول مدينة بيتكوين تعمل بالطاقة الحرارية الأرضية، كما كشفت الستار عن أداة اقتراض سيادي مدعومة بالعملات المشفرة وتحمل اسم سندات فولكينو، وقد تم الإعلان عنها في مؤتمر للبيتكوين على أنغام أغاني فرقة "أيه سي/دي سي" (AC/DC)، كما يليق بالعملات المشفرة. حددت قيمة السندات بمليار دولار –وهي بالصدفة نفس قيمة القرض الذي رفض صندوق النقد الدولي تقديمه- مع وعد بدفع فائدة سنوية بنسبة 6.5% بعد خمس سنوات من التجميد. وقد بدت شروط هذه السندات المذهلة غير منطقية بالنسبة لدولة قامت وكالات التقييم بتخفيض تقييم سنداتها إلى مستويات منخفضة للغاية. وفي نهاية المطاف، لم يعبر أحد عن اهتمامه بهذه السندات، ولم يتم إطلاقها.
اقرأ أيضاً: لم تعد البيتكوين مجرد عملة رقمية، فهل يمكن اعتبارها ذهباً رقمياً؟
وعلى الرغم من قيادته للبلاد نحو الخراب المالي، ما زال بوكيلي واسع الشعبية بين الناخبين، متمتعاً بأعلى معدلات التأييد من بين جميع رؤساء أميركا اللاتينية. وقد كانت صورته كرائد أعمال حقيقية، فعندما كنت في السلفادور لإجراء بحث لرسالة الدكتوراه، كان ما يزال عمدة سان سلفادور، وكنت أعيش على الجهة الثانية من الشارع في مقابل وكالته لشركة ياماها. ولكن عمله الأساسي كان العلاقات العامة، وكان ذلك واضحاً في حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي، وجيش الذباب الإلكتروني الذي يأتمر بأوامره في إزعاج ومضايقة خصومه. وعندما التقى بدونالد ترامب، انسجما على الفور. وقد قال للصحافة في ذلك الوقت: "الرئيس ترامب لطيف ورائع للغاية، وأنا أيضاً لطيف ورائع. وكلانا يستخدم تويتر كثيراً، وبالتالي فسوف ننسجم بالتأكيد".
ولكن بوكيلي لم يحقق نفس الانسجام مع إدارة بايدن، أو مع أي جمهوري آخر غير ترامب. فمنذ انتخابه رئيساً في 2019، كان يعمل بشكل متواصل على تفتيت الديمقراطية الهشة في السلفادور، والتي توصلت إليها بصعوبة بعد حرب أهلية شرسة دامت 12 سنة. وإضافة إلى المدعي العام، فقد قام بفصل عدد من القضاة من المحكمة العليا، إضافة إلى ما يقرب من ثلث قضاة البلاد بأسرها، وعين بدلاً منهم أتباعه الذين فتحوا الطريق أمام إعادة انتخابه، وهو أمر محظور دستورياً. كما كان يتجسس على الصحافيين والخصوم السياسيين مستخدماً برنامج التجسس بيغاسوس. أما حلفاؤه في المجلس التشريعي، فقد أقروا مؤخراً قانوناً للرقابة على الصحافة، بحيث يُحظر على وسائل الإعلام إيراد أي تقارير أو أخبار عن العصابات في البلاد، مثل الخبر الذي يقول إن الحكومة عقدت معاهدة مع العصابتين الرئيسيتين في البلاد، "إم إس-13" (MS-13) و"باريو 18" (Barrio 18). وقد أنكر بوكيلي -والذي لاحق سابقيه بتهمة التفاوض مع العصابات أيضاً- هذه المعاهدة، ولكن بعض المسؤولين الحكوميين السابقين أكدوا وجودها، إضافة إلى وزارة العدل والخزينة الأميركيتين، واللتين فرضتا عقوبات على المسؤولين الحكوميين الذين سهلوا عقدها. وهو ما يثير احتمالات أخرى للسبب الحقيقي للعبة البيتكوين، أي غسيل الأموال وتفادي العقوبات، وهو أسلوب حاولت دول منبوذة أخرى مثل فنزويلا اتباعه، ولكن دون فائدة. وقد كان أحد هؤلاء المسؤولين الذين شملتهم العقوبات رئيس طاقم بوكيلي، وهو أيضاً مدير الشركة الأم لمحفظة تشيفو.
اقرأ أيضاً: مراقبة البيتكوين تساهم في الإطاحة بموقع إلكتروني ضخم لاستغلال الأطفال جنسياً
ويبدو أن بعض معجبي بوكيلي من مناصري العملات المشفرة أدركوا، وإن متأخرين، أن لقب "الدكتاتور الرائع" ربما لم يكن مجرد مزحة. فقد طلب عدد من المستثمرين في السلفادور ممن أجرت معهم مجلة "بوليتيكو" (Politico) مقابلات لإحدى مقالاتها، بما فيهم مدافعون عن الحكومة، أن تبقى هوياتهم سرية، معللين ذلك بتصاعد القمع و"المخاوف من أن مجرد الإقرار بالمشكلات في عملية إطلاق العملة قد يتضارب مع التعليمات التي تفرض حظر انتقاد الأجانب للحكومة". لقد كانت لحظة فريدة تلك التي قرروا فيها بناء فردوس ليبرالي للعملات المشفرة في دولة بوليسية. وقد تبدو هذه المفارقة مضحكة، لولا أن الذين سيعانون من العواقب هم مواطنو السلفادور العاديون، والذين لم يدعموا هذه التجربة في المقام الأول.