على الرغم من سلاسة الاتصالات اللاسلكية وعدم قدرتنا على رؤيتها لدرجة أننا لا ننتبه أبداً إلى وجودها، إلا أنها في الحقيقة تُمثِّل الأساس الذي تقوم عليه معظم مناحي الحياة العصرية؛ حيث إنها مصدرُ قدرتنا على إرسال الرسائل النصية وإجراء المكالمات الهاتفية وطلب سيارة أجرة من أوبر وحتى مشاهدة العروض على نتفليكس. ومع بداية ظهور الاتصالات اللاسلكية من الجيل الخامس 5 جي، فإنها تحمل إمكاناتٍ واعدةً بتذليل العقبات أمام تصميم السيارات ذاتية القيادة وإطلاق ثورةٍ في مجال إنترنت الأشياء. غير أن هذه القفزة التالية في التقنية اللاسلكية لن تكون مُمكنة دون مُكوِّن رئيسي: ألا وهو الذكاء الاصطناعي.
في الأسبوع الماضي، تنافست عشرة فرقٍ قادمة من الأوساط الصناعية والأكاديمية فيما بينها لتحقيق تغييرٍ جذريّ في كيفية عمل أنظمة الاتصالات اللاسلكية المستقبلية. وقد كان هذا الحدث هو الجولة السادسة والأخيرة من تحدي تعاون الطيف الراديوي (SC2) Spectrum Collaboration Challenge، وهو الأحدث في سلسلة طويلة من تحديات داربا الكُبرى التي أدت إلى تحفيز التطوير في المجالات الناشئة مثل السيارات ذاتية القيادة والروبوتات المُتقدمة وتقنيات الأمن السيبراني ذاتية التحكم.
لقد كان الدافع وراء إطلاق هذا التحدي هو القلق من أن الاستخدام المتزايد للتقنيات اللاسلكية يُهدِّد بحدوث ازدحام شديد على موجات البث التي تستخدمها أجهزتنا للتواصل مع بعضها البعض.
وتقليدياً، لا يتم تخصيص ما يسمى بالطيف الراديوي بالطريقة الأكثر كفاءةً؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية، تُقسِّم الوكالات الحكومية هذا الطيف إلى نطاقاتٍ تردُّدية حصرية ومستقلة عن بعضها، ثم يتم توزيع هذه النطاقات بين كيانات تجارية وحكومية مختلفة لتستخدمها بشكل حصري. ورغم أن هذه الطريقة تساعد الخدمات المختلفة على تجنُّب التداخل فيما بينها، فإنه نادراً ما يتم استخدام كامل الجزء المُرخَّص من الطيف بشكلٍ مستمر من قِبل حاملي التراخيص. ونتيجةً لذلك، تكون المُحصلة أن جزءاً كبيراً من التردُّدات المُخصَّصة لا يتم استخدامُها فعلياً في أي لحظةٍ مُعطاة.
وقد ازداد الطلب على الطيف الراديوي إلى درجةٍ لا يمكن فيها الاستمرار في التبديد الناتج عن استخدام الطريقة الحالية. كما أنَّ هذا الطيف لا يتم مشاركته فقط بين الخدمات التجارية وإنما يدعم أيضاً قنوات الاتصال العسكرية والحكومية التي تُعتبر حيويةً في أداء المهام وعمليات التدريب. ومع قدوم شبكات الجيل الخامس 5 جي، يزداد الطين بلَّةً، وتصبح الحاجة لتطوير عملية التخصيص هذه أكثرَ إلحاحاً.
لمواجهة هذا التحدي، طلبت داربا من المهندسين والباحثين تصميم نوعٍ جديد من أجهزة الاتصال الراديوي التي لا تبثُّ على نفس التردد في كل مرة. وبدلاً من ذلك، يستخدم الجهاز الجديد خوارزمية تعلم آلي لاكتشاف التردُّدات المُتاحة لحظياً، كما تستطيع خوارزميات الأجهزة المختلفة أن تعمل مع بعضها البعض من أجل أَمْثَلة استخدام الطيف. وهكذا يتم تخصيص الطيف ديناميكياً وآلياً في الزمن الحقيقي، عِوضاً عن توزيعه بشكلٍ دائم لمالكين حصريين ومُتفرِّدين.
يقول بول تيلجمان، وهو مدير برنامج في داربا: "نحن في حاجةٍ لإعادة بناء مسألة إدارة الطيف الراديوي على قاعدةٍ تقنية مختلفة، لننتقل بذلك فعلياً من نظامٍ يديره اليوم البشر باستخدام الورقة والقلم إلى نظامٍ تتولى الآلات إدارته إلى حدٍّ بعيد وبشكلٍ مستقل، وبسرعة عمل هذه الآلات".
وقد تقدَّم أكثر من 30 فريقاً للمشاركة في بداية تحدي SC2 وتنافسوا على مدى ثلاثة أعوام لتحقيق أهدافٍ تزداد صعوبةً في كل مرحلة؛ ففي المرحلة الأولى، طُلب إليهم بناء جهاز راديوي من الصفر. وفي المرحلة الثانية، توجَّب عليهم إضافة إمكانية التعاون إلى أجهزتهم، أي تمكينها من مشاركة المعلومات مع الأنظمة الراديوية الأخرى. وفي المرحلة الأخيرة، كان عليهم تضمين التعلم الآلي من أجل جعل أجهزتهم التعاونية قادرة على العمل بشكلٍ مستقل.
وفي الأسبوع الماضي، تقارع المتنافسون العشرة الذين وصلوا إلى المرحلة النهائية في 5 سيناريوهات افتراضية، تضمَّنت دعم الاتصالات في مهمةٍ عسكرية والاستجابة للحالات الطارئة وسيناريو حفلٍ موسيقي مزدحم. حيث اختبر كل سيناريو خصائصَ مختلفة للأنظمة المُتنافسة مثل موثوقية خدمات النظام وقدرته على إعطاء الأولوية لأنواع مختلفة من حركة البيانات اللاسلكية بالإضافة إلى قدرته على التعامل مع البيئات عالية الازدحام. وفي نهاية الحدث، ظفر فريق من جامعة فلوريدا بالجائزة الكبرى التي تبلغ قيمتها 2 مليون دولار.
وحالياً، ما زال النموذج الأولي للفريق الفائز في مراحله المُبكرة جداً وسيتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن يصل نظامهم إلى هواتفنا. وتأمل داربا في أن يشكل تحدي SC2 مصدر إلهامٍ وتشجيع على استثمار المزيد من المال والجهد في متابعة تحسين هذه التقنية.