عمّت الفرحة قلوب المبرمجين حين صدر الإعلان عن التحديث الجديد من جي بي تي-5 (GPT-5)؛ لأنهم وجدوا فيه ضالتهم لكتابة شيفرات برمجية أفضل، ومعالجة شيفرات برمجية أطول، ولكن هذا التحديث أحزن الكثير من المستخدمين العاديين الذين يستخدمونها في الدردشة اليومية، ولا سيما المراهقين منهم، لأنهم شعروا بأنه أصبح أكثر جدية وأقل تعاطفاً، وهي الكلمة التي اخترتها لأخفف من قولي تملقاً لهم.
لقد كان هذا الموضوع جدياً للغاية إلى حد دفع سام ألتمان إلى القول: إن شركة أوبن أيه آي ستعمل على تعديل شخصية جي بي تي-5 لجعلها أكثر دفئاً، وهذا ما يفتح نقاشاً واسعاً حول التعلق العاطفي المفرط بتطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي.
نعم، في خضم الجدل حول نبرة جي بي تي-5 وشخصيته، أعلن سام ألتمان أن الشركة تعمل على جعل شخصية النموذج «أدفأ» بعد ردود فعل واسعة تقارن بين دفء GPT-4o ورصانة الإصدار الأحدث، ولكن وراء هذه التفاصيل التقنية سؤال أعمق: هل تفاقم "أنسنة" النماذج خطر التعلق العاطفي المفرط بها؟
تحذر تقارير ودراسات حديثة من التعلق العاطفي المفرط بتطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل «تشات جي بي تي»، مع مؤشرات مقلقة خصوصاً بين اليافعين. فقد وجدت دراسة أن أكثر من 70% من المراهقين جربوا رفقاء الذكاء الاصطناعي، ونحو 50% يستخدمونها بانتظام، وأن 31% يجدون فيه إشباعاً عاطفياً يماثل شعورهم تجاه الأصدقاء الحقيقيين، فيما يفضل 33% مناقشة قضايا جدية مع بوت الدردشة أكثر من مناقشتها مع البشر.
كما يبين تقرير أن 35% من الأطفال (9–17 عاماً) يرون التفاعل مع بوت الدردشة «مثل الحديث مع صديق»، وترتفع النسبة إلى 50% بين الفئات المعرضة للخطر.
لا تتوقف القصة عند حدود الأرقام في الدراسات الإحصائية فحسب، بل تتعداها إلى حالات مؤسفة. فقد وثقت تقارير صحفية حالات مأساوية من بينها حادثة في بلجيكا عام 2023ـ حيث أنهى رجل حياته بعد أسابيع من محادثات مع أحد تطبيقات الدردشة الذكية، وفي الولايات المتحدة، أظهرت دعاوى مرفوعة اتهامات بأن تفاعلات أحد البوتات أسهمت في وفاة مراهق.
وقد خلصت دراسة أجريت على نحو 300 شخص إلى أن الاستخدام الكثيف لتطبيقات الدردشة الذكية يزيد مشاعر الوحدة، ويقلل التفاعل الاجتماعي الواقعي لدى بعض المستخدمين، والأخطر أنها تضاف إلى نتائج أخرى تشير إلى اتساع نطاق طلب النصائح العاطفية من بوتات الدردشة، ما يدعم فرضية الاعتماد العاطفي المتزايد لدى المستخدمين الأصغر سناً.
يرتبط التعلق بما يعرف بـ«الحميمية الاصطناعية»؛ أي العلاقات الأحادية مع أنظمة قادرة على الإصغاء دون أحكام وتقديم استجابات مرضية على الدوام. وكلما اقتربت شخصية النموذج من «الدفء البشري» زادت مخاطر الاعتماد العاطفي لدى الفئات الهشة. وتعي أوبن أيه آي ذلك، حيث تسعى إلى وضع حواجز أكثر صرامة ضد استخدام تشات جي بي تي بديلاً للعلاج النفسي.
في نهاية المطاف، وعلى الرغم من كل ما قد نشعر به من قرب أو دفء في الحوار مع النماذج اللغوية، علينا أن نضع في الحسبان أن تطبيق الدردشة الذكي -مهما تطور- يبقى بوتاً؛ أي منظومة برمجية لا تمتلك وعياً أو مشاعر حقيقية، وكل ما يقدمه من إجابات لا يعد تعبيراً عن إحساس أو تعاطف، وإنما يأتي نتيجة عمليات إحصائية معقدة تبنى على تحليل النصوص والتنبؤ بالكلمات الأكثر ملاءمة لسياق السؤال.
إن هذا «الأسلوب» الذي نلمسه في الردود، سواء بدا لنا جافاً أم حاداً أم ودياً ودافئاً، هو في الواقع نتاج هندسة الأوامر التي يمارسها المستخدم عند صياغة أسئلته، بالإضافة إلى الضبط الدقيق الذي يجريه مطورو النماذج. وتتحكم هذه العوامل مجتمعة في اختيار المفردات وترتيب الأفكار ودرجة الإيحاء العاطفي في النص دون أي دافع ذاتي من جانب الذكاء الاصطناعي.
وصفوة القول: لعل إدراك هذه الحقيقة أمر جوهري لتطوير علاقة صحية مع أدوات الذكاء الاصطناعي: فهي أدوات متقدمة، لكنها في جوهرها مجرد منظومات إحصائية تستجيب للمدخلات. ومثل أي أداة أخرى، فإن مسؤولية استخدامها تقع على عاتقنا نحن في وضع الحدود وتحديد الأهداف، والتأكد من أن التفاعل معها لا يحل محل العلاقات الإنسانية الحقيقية، ولا يتحول إلى مصدر اعتماد عاطفي مفرط.