حتى دماغ العثة أكثر ذكاء من الذكاء الاصطناعي. كيف، ولماذا؟

4 دقائق

تكمن إحدى الميزات المثيرة للفضول للشبكات العصبونية العميقة التي يرتكز عليها التعلم الآلي في أنها تختلف بشكل مثير للدهشة عن الشبكات العصبونية في الأنظمة البيولوجية. فبالرغم من وجود أوجه للتشابه، إلا أن بعض آليات التعلم الآلي بالغة الأهمية ليس لها نظير في الطبيعة، حيث يبدو أن التعلم يجري بطريقة مختلفة.

وهذه الاختلافات ربما تفسر تخلّف أنظمة التعلم الآلي بشكل كبير عن الأنظمة الطبيعية في بعض جوانب الأداء. فالحشرات على سبيل المثال، يمكنها أن تميز الروائح بعد التعرض لها بضع مرات. أما الآلات، من الناحية الأخرى، فهي تحتاج إلى مجموعات ضخمة من بيانات التدريب لكي تتعلم. يأمل علماء الحاسوب بأن يساعدهم فهم المزيد عن أشكال التعلم الطبيعية على سد الفجوة.

يشارك في هذا المسعى تشارلز ديلاهونت وزملاؤه في جامعة واشنطن في سياتل، الذين ابتكروا شبكة عصبونية اصطناعية تحاكي بنية وسلوك نظام التعلم الشمّي عند حشرات العث من نوع المندوكة السداسية. يقول هذا الفريق إن نظامهم يقدم أفكاراً هامة بشأن الطريقة التي تتعلم بها الشبكات الطبيعية، مع ما يترتب على ذلك من آثار محتملة على الآلات.

لنتحدث أولاً عن بعض المعلومات الأساسية. إن نظام التعلم الشمّي عند حشرات العث بسيط نسبياً وقد تمكن علماء الأعصاب من تحديده بدقة. حيث يتألف من 5 شبكات منفصلة تعمل على تغذية المعلومات من واحدة إلى أخرى باتجاه واحد.

الشبكة الأولى هي عبارة عن نظام مكون من حوالي 30,000 مستقبل كيميائي تكتشف الروائح وترسل مجموعة من الإشارات ذات الضجيج المرتفع إلى المستوى الثاني، والذي يعرف باسم الفص الهوائي. يحتوي هذ الجزء على 60 وحدة، تعرف باسم الكبيبات (الكبيبة الشمية هي شبكة من الألياف الشمية)؛ حيث تركز كل منها على روائح معينة.

يقوم الفص الهوائي بعد ذلك بإرسال رموز الرائحة العصبية إلى الجسم الفطري، والذي يحتوي على نحو 4,000 من خلايا كينيون، والتي يُعتقد أنها تقوم بترميز الروائح على شكل ذكريات.

أخيراً، تقوم طبقة من العصبونات الخارجية يبلغ عددها بالعشرات بقراءة النتيجة، حيث تقوم هذه العصبونات بتفسير الإشارات الصادرة عن الجسم الفطري كأفعال، مثل "حلّق باتجاه الريح".

هناك جوانب متعددة لهذا النظام تختلف كلياً عما هو موجود في شبكات التعلم الآلي. فعلى سبيل المثال، يقوم الفص الهوائي بترميز المعلومات في فضاء من المتغيرات منخفض الأبعاد ولكنه يرسلها إلى الجسم الفطري، والذي يرمّزها بدوره في فضاء من المتغيرات مرتفع الأبعاد. وفي المقابل، فإن شبكات العصبونات الاصطناعية تميل إلى أن يكون لها أبعاد مشابهة.

وعند حشرات العث، فإن التعرف الناجح على الرائحة يطلق آلية للمكافأة تقوم فيها العصبونات بنشر ناقل عصبي كيميائي يسمى "أوكتوبامين" داخل الفص الهوائي والجسم الفطري.

هذا جزء هام للغاية من عملية التعلم. يبدو أن الأوكتوبامين يساعد في تعزيز الربط العصبي الذي يؤدي إلى النجاح. إنه جزء أساسي من التعلم الهيبي (نسبة إلى الطبيب الكندي دونالد هيب)، حيث "الخلايا التي تتحفّز معاً تزداد متانة الترابط فيما بينها". في الواقع، لقد عرف علماء الأعصاب منذ فترة طويلة أن حشرات العث لا تتعلم من دون الأوكتوبامين. ولكن الدور الذي يلعبه هذا الناقل الكيميائي غير معروف تماماً.

التعلم عند الآلات مختلف جداً، فهو يعتمد على عملية تسمى "الانتشار الخلفي"، والتي تقوم بتعديل الروابط العصبية بطريقة تحسن من النتائج. ولكن المعلومات تنتقل أساساً عبر الشبكة نحو الخلف في هذه العملية، وليس هناك نظير معروف لهذا الأسلوب في الطبيعة.

لفهم الطريقة التي تتعلم وفقها حشرات العث بشكل أفضل، قام ديلاهونت وزملاؤه ببناء شبكة عصبونية اصطناعية تحاكي سلوك الشبكة الطبيعية. يقول الفريق: "لقد بنينا نموذجاً حاسوبياً شاملاً للنظام الشمّي عند حشرة العث من نوع ماندوكا السداسية، والذي يتضمن التفاعل بين الفص الهوائي والجسم الفطري تحت التأثير المحفز للأوكتوبامين".

لقد تم تصميم هذا النموذج خصيصاً لاستنساخ سلوك النظام الطبيعي على كافة المستويات. وعلى وجه الخصوص، يحاكي هذا النموذج الإشارات الضجيجية التي تولدها المستقبلات الشمّيّة والتغير الحاصل في الأبعاد عندما تتدفق المعلومات من الفص الهوائي إلى الجسم الفطري، وهو يتضمن تماثل الدور الذي يلعبه الأوكتوبامين.

تُظهر النتائج بأن قراءتها جديرة بالاهتمام، حيث يوضح النموذج كيف تولد المستقبلات الشمية إشارة ضجيجية يتم تضخيمها ضمن الفص الشمي بشكل مسبق. ومع ذلك، فإن التغير الحاصل في الأبعاد عند انتقال الإشارة إلى الجسم الفطري يؤدي إلى إزالة الضجيج، ما يسمح للنظام بتوليد إشارات أفعال محددة وواضحة مثل "حلّق باتجاه الريح".

ويبدو دور الأوكتوبامين أكثر وضوحاً أيضاً، حيث تظهر عمليات المحاكاة إمكانية أن يجري التعلم من دون الأوكتوبامين، ولكنه بطيء جداً إلى حد يصبح فيه عديم الفائدة تماماً. هذا يعني أن الأوكتوبامين يقوم بدور محفزٍ قوي للتعلم.

ولكن كيفية قيامه بذلك لا تزال مثاراً للنقاش حتى الآن. لدى ديلاهونت وزملائه أفكارٌ خاصة: "ربما هي آلية تسمح لحشرة العث أن تتغلب على قيودها العضوية الذاتية من خلال النمو الهيبي لمشابك عصبية جديدة، فهي قيود تقصر قدرة الحشرة على التعلم وفق معدلات بطيئة على نحو غير مقبول".

كما أن الأوكتوبامين يلعب دوراً آخر، فالتعلم الهيبي يعزز فقط الروابط الموجودة مسبقاً، وهو ما يثير التساؤل بشأن كيفية نشوء الروابط الجديدة. يقول ديلاهونت وزملاؤه إن الأوكتوبامين يفتح قنوات إرسال جديدة من أجل الربط. يقول الفريق: "هذا يوسع مساحة الحل التي يمكن للنظام استكشافها أثناء التعلم".

والأكثر إثارة للإعجاب هو أن شبكة المحاكاة تتعلم بطريقة مماثلة للشبكة العصبونية. يقول ديلاهونت وزملاؤه: "إن نموذجنا قادر على تعلم الروائح الجديدة بشكل قوي، كما أن عمليات المحاكاة لدينا التي تخص عصبونات التكامل والتحفيز تتطابق مع الخصائص الإحصائية لبيانات معدل التحفيز في الجسم الحي".

قد يكون لهذا العمل آثار هامة على تصميم الشبكات العصبونية الاصطناعية التي تحتاج إلى التعلم بسرعة. يقول الفريق: "من وجهة نظر التعلم الآلي، فإن هذا النموذج يحقق آليات مستوحاة من الطبيعة قد تكون مفيدة في بناء شبكات عصبونية للتعلم السريع من عينات قليلة جداً". لذلك قد نشهد في المستقبل القريب شبكات للتعلم الآلي تتضمن نسخة مقلدة من الأوكتوبامين وغيره من النواقل العصبية الأخرى.

بالطبع لا تقتصر أهمية النواقل العصبية على التعلم فقط، فعلماء الأعصاب يدركون جيداً الدور الذي تلعبه في العواطف، وتنظيم المزاج وما إلى ذلك. وهنا يكمن طريق آخر للبحث ستهتم فرق التعلم الآلي باستكشافه مستقبلاً.