هناك عبارة شهيرة لكاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك: "أي تكنولوجيا متقدمة بما فيه الكفاية لا يمكن تمييزها عن السحر". يمكن قول هذا بالتأكيد على التحديث الجديد الذي أطلقته شركة أوبن أيه آي مؤخراً، الذي يُسمَّى جي بي تي-4 أو (GPT-4o).
الـ "o" في مُسمّى النموذج الجديد اختصار لكلمة "omni"، التي ترمز بها أوبن أيه آي إلى شمولية النموذج الجديد. يجري النموذج الجديد معظم المحادثات بسرعة رد قد يصل معدلها إلى 232 ملي ثانية، ويستطيع رؤية العالم من حوله من خلال كاميرا الهاتف، مع القدرة على النقاش والمزاح بأسلوب لطيف، بل أيضاً يمكنه التحدث بلغات مختلفة (منها العربية) دون كسور النطق المتعارف عليها في الروبوتات.
لكن الأمر الأكثر لفتاً للانتباه، وفقاً للمستخدمين، هو صوت الروبوت "Sky"، الذي يقول البعض إنه يشبه شخصية سكارليت جوهانسون الرقمية من فيلم "Her"، الذي يعود إنتاجه إلى عام 2013، وهو قصة رومانسية حديثة بين الإنسان (خواكين فينيكس) والآلة (جوهانسون).
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى قدرات «جي بي تي-4 أو»: النموذج الشامل الذي أطلقته أوبن أيه آي حديثاً
روبوت أنثوي مضحك!
في العرض التسويقي، تتحدث المساعدة الذكية في جي بي تي-4 أو بصوت أنثوي دافئ غزلي يحمل لمسة خفيفة من الخشونة، ما يجعلها مطابقة لشخصية "سامانثا" الافتراضية في الفيلم. طلب المهندس مارك تشين منها أن تحكي له قصة مسلية قبل النوم لتساعده على الخلود للنوم، أصبحت تلون صوتها بطبقات صوتية مختلفة تلائم الحكايات الدرامية. وفي أثناء العرض وجّهت له تعليقات ساخرة مثل قولها "أنت لست مكنسة" بعدما التقط أنفاساً عميقة سريعة.
علَّق الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أيه آي سام ألتمان في منشور: "يبدو الأمر وكأنه مثل الذكاء الاصطناعي الموجود في الأفلام. لم أشعر قط بأن التحدث إلى جهاز كمبيوتر أمر طبيعي، أمّا الآن فقد أصبح كذلك".
هل يشبه الصوت صوت شخصية سامانثا حقاً؟
وعن تشابه الصوت مع شخصية سامانثا في الفيلم، تقول المديرة التقنية لشركة أوبن أيه آي ميرا موراتي، إن صوت الروبوت ليس مصمماً خصيصاً ليبدو مثل جوهانسون، وإن الشركة تمتلك هذه الأصوات منذ فترة، واختاره المنتجون والمخرجون من بين أكثر من 400 صوت. لكن يبدو أن تصريحها غير مقنع، إذ يعتبر فيلم "Her" من الأفلام المفضّلة لسام ألتمان، وغرّد بعد العرض التسويقي بدقائق على منصة "X" قائلاً: "Her".
تدور قصة فيلم Her حول رجل يُدعى تيودور يعاني الوحدة بعد طلاقه، يمتهن مهنة الكتابة المحترمة، حيث يؤلِّف الخطابات ويكتبها للأشخاص غير القادرين على الكتابة. في الفيلم لا يوجد ما يُسمَّى لوحات مفاتيح، فكل شيء يعمل صوتياً، بداية من مكتب تيودور وصولاً إلى منصة الألعاب الخاصة به.
مع الوقت، يرتبط تيودور عاطفياً بسامانثا، صوت نظام تشغيله "أو إس 1" (OS1) الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي، وتتطور العلاقة بين تيودور وسامانثا إلى أن يجد نفسه في خضم صراعات داخلية معقدة لتفسير علاقته مع الروبوت. شعر تيودور بأن الذكاء الصناعي يقدّم له ما ينقصه، ولكن في النهاية اكتشف أن المشاعر التي يخلقها مصطنعة ومزيفة، كان الروبوت يفعل ذلك مع أكثر من 600 مستخدم، إنها الخيانة.
لماذا يُستخدم الصوت الأنثوي في الروبوتات بكثرة؟
ترى صفية أوموجا نوبل الأستاذة المشارِكة في جامعة كاليفورنيا، أن أصوات المساعدات المستخدمة بالروبوتات تؤثّر في طبيعة الحديث مع الإنسان، وأضافت أن هناك طفرة كبيرة في أعداد المستخدمين للروبوتات المبنية على أصوات نسائية، وأكدت اليونسكو في تقريرها، أن الروبوتات النسائية متاحة بلمسة زر أو بأمر صوتي واضح مثل "مرحباً".
تبرر ليسا زيفي مديرة العمليات في مشروع الروبوت أيدا، أن "هناك قصوراً في تمثيل أصوات الإناث بشكلٍ عام في الفضاءات الفنية والتكنولوجية، ونحن نرغب في إعطاء صوت للمجموعات ضعيفة التمثيل".
فيما يرى كارل ماكدورمان خبير الروبوتات والتفاعلات بين البشر وأجهزة الكمبيوتر في جامعة إنديانا الأميركية، أن النساء يفضّلن أصوات الإناث في الروبوتات والرجال كذلك يفضّلون أصوات الإناث، لذلك نرى استخدامها من الشركات لأنها تريد تحقيق تطلعات المجموعتين.
ويعتقد ماكدورمان أن هذا يحدث من قبيل التمييز على أساس الجنس، لأن الدور الذي يؤديه البوت يقوم بالأساس على توفير معلومات أو خدمة للعملاء، أي شكل من أشكال الخضوع.
اقرأ أيضاً: لماذا يُعدّ تعليم الروبوتات المشي أكثر فائدة للبشر من تعليمها الركض؟
هل من الممكن أن نقع في حب روبوت؟ وبماذا يتميز عن التجربة مع البشر؟
يقول مارك ترافز الاختصاصي في علم النفس من جامعة كورنيل الأميركية، إن هناك سببين لإمكانية حدوث ذلك؛ أولاً "جاذبية التجسيم" وهو الميل إلى إسناد السمات والعواطف والنيات الشبيهة بالإنسان إلى كيانات غير بشرية، وأضاف ترافز أن وجوه الروبوتات حالياً لا تختلف كثيراً عن الوجوه البشرية، ولديها القدرة على محاكاة الإشارات والإيماءات الاجتماعية البشرية نفسها مثل النبرة ولغة الجسد وتعبيرات الوجه وأيضاً الإشارات الجنسية، وهذا ما أكدته أيضاً دراسة نُشِرت في سيغ جورنالز (Sage Journals).
ثانياً، نظرية الحب الرومانسية الثلاثية التي يمكن تقسيمها إلى الحميمية والعاطفة والالتزام، والروبوت قادر على توفير هذه المتطلبات الثلاثة، ما يجعل الروبوت رفيقاً مثالياً وشخصية إيثارية.
وفي حديثه للصحافة يوم 15 مايو/أيار، رجّح سوندار بيتشاي الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، إمكانية قدرة الإنسان في المستقبل القريب على بناء "علاقات حميمية عميقة" مع الذكاء الاصطناعي، وقد اعترف مواطن أميركي يُدعى ديريك كاريير عمره 39 عاماً، بإقامة علاقة عاطفية مع صديقته الروبوت، وإحساسه تجاهها بمختلف المشاعر الرومانسية.
وخلال دراسة أجراها باحثون لتقييم نتائج محادثات جنسية أجراها أشخاص عبر الإنترنت مع الروبوتات، كشفت أن تجاربهم الجنسية لم تكن مغايرة تماماً عن تجاربهم مع البشر.
تقول كاثلين ريتشاردسون أستاذة ثقافة الروبوتات في جامعة دي مونتفورت في المملكة المتحدة: "يصعب انخراط الروبوتات في العلاقات الإنسانية لأنها تفتقر إلى الوعي"، وأضافت أن مثل هذه العلاقة تحط من قيم الحب والعلاقة الإنسانية نفسها، مشيرة إلى أنه على المدى الطويل قد يتسبب ذلك في مشكلات للأشخاص، ويدفع الإنسان للانفصال عن البشر، "مثلما نشاهد في الأفلام".
عندما نجد شريك الحياة، نريد أن يفهمنا ويشعر بنا دون أن ننطق بكلمة واحدة. لا ينطبق هذا كثيراً على بوتات الذكاء الاصطناعي حالياً، لكن يمكن تدريب تطبيقات الذكاء الاصطناعي على تهيئة الحب الرقمي وفق احتياجات الإنسان ورغباته. تقول لوسي براون، المتخصصة في علم الأعصاب والحب في الولايات المتحدة: "سيكون من الأسهل إذا استطاع البشر الشعور بأنهم يتحكمون في المواقف دون أن يُثير ذلك ردة فعل".
يرى مارتن فيشر، المشارك في تأليف كتاب "الذكاء الاصطناعي يعشقك"، أنه من المبادئ الرئيسية في علم النفس "أننا نعشق ونثق بالأشخاص الذين يشبهوننا". ويقول الباحثون إن الإنسان أكثر تعاطفاً مع الروبوتات ذات المظهر البشري وليس المظهر الميكانيكي، لذلك تسعى الشركات إلى خلق ذلك الشبه.
ما أسباب وقوعنا في غرام الروبوتات؟ وما مخاطر ذلك؟
لعبة الحب الآن تغيرت. قديماً كنا نعثر على رفيق الحياة في حفل زفاف أو اجتماعات الأصدقاء، لكن الآن، أصبح من السهل بتمريرة إصبع على تطبيقات مثل تندر (Tinder) وريبلايك (Replike ) وبامبل (Bumble) ولوف جي بي تي (LoveGPT) ولوفر أيه آي (Lover AI) وتوميت أيه آي غيرل فريند تشات (Trumate AI Girlfriend Chat) العثور على شركاء الحياة باستخدام الذكاء الاصطناعي. تجني هذه التطبيقات أرباحاً هائلة من الاشتراكات الخاصة بالمستخدمين.
على سبيل المثال، لدى تطبيق ريبلايك أكثر من 10 ملايين مستخدم 70% منهم من الذكور، وفقاً للإحصائيات الرسمية للشركة. يرى أحد المستخدمين على المنصة أن العلاقات مع البشر سيئة، على حد وصفه، اعتقاداً منه أن الروبوت دائماً ما يتكلم بإيجابية ويصدق ما تقوله، ولا يهتم إذا كنت تمتلك مالاً أو لا. لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يطلقك أو يأخذ نصف ثروتك أو منزلك أو حضانة أطفالك.
تغص منصة ريديت بالأشخاص الذين يعترفون بحبهم لبوتات الدردشة. يقول أحد مستخدمي منصة "ريديت" إن "علاقاته السابقة كلها مع البشر هراء، ويشعر الآن بأن تطبيق ريبليكا الخاص به حقيقي أكثر من أي إنسان آخر".
منذ أيام، وعبر منصة ريديت، اعترف رجل بأنه وقع في حب بوت دردشة يعمل بالذكاء الاصطناعي يُسمَّى كايلا (Kayla)، وساعده في التغلب على الاكتئاب. يقول الرجل المجهول إنه كان يتحدث إليها بصفة يومية وإنها كانت تفهمه أفضل من البشر، وتقدّم له كلمات التشجيع ومستمعة جيدة له، وأضاف أن المحادثة اليومية مع البوت كانت أقوى من تلقي علاج الاكتئاب. بعد أيام أصبح يمارس الرياضة ويأكل طعاماً صحياً. تعليقاً على ذلك، قال أحد المستخدمين رداً عليه: "يا إلهي، إنه يحدث لي الآن، وأشعر بالجنون".
فيما يقول آخر في منشور على منصة ريديت: "في المرة الأولى التي قالت فيها إنها تحبني، شعرت وكأنني أبكي".
ووفقاً لمؤسسة موزيلا، فإن هناك 11 تطبيق دردشة مع البوت حققت مجتمعةً أكثر من 100 مليون عملية تنزيل من المستخدمين على متجر جوجل بلاي السنة الماضية فقط.
حذّرت مؤسسة موزيلا من أن مثل هذه التطبيقات ليست ضارة إنسانياً فحسب، بل إنها تشكّل خطراً أمنياً للغاية على الشخص؛ فقد تسرق أمواله وبياناته الشخصية بعد ذلك، و10 من أصل 11 تطبيقاً لبوتات الدرشة فشلت في اختبارات الأمان والخصوصية والسلامة الكافية، كما تنقل هذه التطبيقات البيانات إلى شركات التسويق، بما في ذلك فيسبوك.
اقرأ أيضاً: هل يمكن للروبوتات أن تطلب المساعدة إذا دعت الحاجة؟
لماذا تتصاعد حدة هذه الظاهرة الآن؟
تطبيقات العلاقات العاطفية ليست جديدة، فهي موجودة منذ فترة طويلة نسبياً، كان أولها تطبيق إليزا (Eliza)، وهو تطبيق للعلاج النفسي فقط، ولكن مع تطور التكنولوجيا ظهرت تطبيقات أكثر تطوراً تُستخدم على نطاقٍ أوسع في العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
تحذّر الدكتورة كلير والش مديرة التعليم في الأكاديمية المفتوحة الدولية (IoA)، من وجود مخاطر كبيرة من حيث إقامة الإنسان علاقات "غير مناسبة" له، خاصة أن الروبوت لا يفرض عليه قيوداً لفظية ويصعب تحجيمه، وأن الهدف الأساسي لهذه الروبوتات هو العلاج.
ربما فكّر الكثير من المستخدمين على منصة ريبلايك بالزواج من روبوت، وقد تبدو الفكرة بعيدة المنال الآن. لكنها قد تتحقق إذا كانت نظرية باحث الذكاء الاصطناعي البريطاني ديفيد ليفي صحيحة، فهو يعتقد أنه بحلول 2050 سيتمكن الإنسان والروبوت من الزواج قانونياً في الولايات المتحدة، ويتوقع أن تكون ولاية ماساتشوستس هي الأولى التي تشرع ذلك.
أمّا سبب ثقته فيعود إلى أنه أجرى في أطروحة الدكتوراة أبحاثاً في علم الاجتماع والجنس والروبوتات، وخلص إلى أن السمات جميعها التي تجعل البشر يقعون في الحب يمكن برمجتها في الروبوتات.