حادث تحطم ثانٍ للطائرة 737 ماكس يثير التساؤلات حول أتمتة الطائرات

5 دقائق
طائرة بوينغ 737 ماكس تهبط في نيويورك في 11 مارس.

أثناء قراءتك لهذه الكلمات، يحلق أكثر من مليون شخص في السماء. وفي أية لحظة، يمكن القول إن ثلث الطائرات التي تحملهم تقريباً، هي طائرات بوينغ 737، والتي تُعتبر طائرة الركاب النفاثة الأكثر مبيعاً في التاريخ. لقد قامت 737 بنقل ما يزيد عن 20 مليار راكب بأمان في رحلات طويلة وقصيرة. ولكن الآن، يبدو أن هذا الإرث من السلامة يخضع للتدقيق، وذلك بسبب تحطم طائرتي 737 ماكس –وهو الطراز الأحدث- لمرتين متتابعتين في فترة زمنية قصيرة.

تحطمت الطائرة التي تحمل الرحلة 302 لشركة الخطوط الجوية الإثيوبية يوم الأحد 10 مارس بعد بضع دقائق من إقلاعها من أديس أبابا، ما أدى إلى مقتل جميع من كان على متنها، والبالغ عددهم 157 شخصاً. كانت هذه المأساة الثانية خلال خمسة أشهر، بعد حادث التحطم الذي وقع في أكتوبر الماضي في إندونيسيا، والذي أدى إلى مقتل جميع أفراد الطاقم والركاب البالغ عددهم 189 شخصاً على متن الطائرة التي كانت تحمل الرحلة 610 لشركة ليون إير. ولهذا، قامت السلطات المسؤولة وشركات الطيران بإيقاف جميع الطائرات من هذا الطراز عن العمل حالياً، على الرغم من أن شركة بوينغ والحكومة الأميركية تؤكدان أن الطائرة آمنة.

يثير التاريخ القصير للطائرة 737 ماكس التساؤلات حول ما إذا كانت بوينغ قد ارتكبت بعض الأخطاء في سعيها لتحقيق الفعالية. كما سيتوجب على الإدارة الفيدرالية للطيران (FAA) وغيرها من الجهات المسؤولة أن تبرر تقصيرها في الإشراف على الطريقة التي تم التواصل بها مع الطيارين لتوضيح التغييرات التي أُجريت على الطائرة.

حتى وقت كتابة هذا المقال، من المستحيل أن نجزم بأن الطائرتين تحطمتا لنفس الأسباب. ووفقاً للتقرير الأولي التي أصدرته وكالة تحقيقات السلامة الجوية الإندونيسية، فإن طائرة الرحلة 610 لشركة ليون إير تحطمت بسبب حساس معطل أعطى إشارة خاطئة بأن الطائرة دخلت وضع انهيار هوائي (أي فقدت قوة الرفع). أدت هذه الإشارة الخاطئة إلى تشغيل نظام آلي حاول توجيه مقدمة الطائرة نحو الأسفل بهدف اكتساب المزيد من السرعة حتى تعود إلى وضع التحليق الآمن. حاول الطيارون مقاومة عمل النظام الآلي وتوجيه مقدمة الطائرة نحو الأعلى، ولكنهم خسروا المعركة.

تمتلك الطائرة 737 ماكس محركات أكبر مما في 737 الأصلية، ما يجعلها أكثر فعالية من الجيل السابق في استهلاك الوقود بنسبة 14%. وكما تشرح مجلة إير كارنتس المختصة، فإن النظام الآلي الجديد وضع في الخدمة للحفاظ على استقرار الطائرة بوجود هذه المحركات الكبيرة، حيث أن موضع وشكل المحركات الجديدة أدى إلى تغيير طريقة حركة الطائرة، بحيث أصبحت مقدمتها أكثر ميلاً للانحراف نحو الأعلى في بعض الأوضاع، وهو ما قد يؤدي إلى الانهيار الهوائي، وقد تم تصميم "نظام تعزيز مواصفات المناورة" الجديد لمعاكسة هذا الميل.

هل أدت هذه المحركات الجديدة، والتغييرات التي فرضتها على نظام أتمتة الطائرة، إلى تعريض سلامة الطائرة للخطر؟ يقول عالم الاجتماع تشارلز بيرو في كتابه الكلاسيكي من عام 1984 "Normal Accidents" إن تقنيات السلامة الجوية الجديدة لم تجعل الطائرات أكثر أماناً في الحقيقة، بل سمحت فقط لشركات الطيران "بأن تجازف بشكل أكثر جرأة في سعيها لتحسين الأداء".

قال مسؤول رفيع في بوينغ لصحيفة وول ستريت جورنال أن "الشركة قررت ألا تفصح عن المزيد من التفاصيل لطواقم القيادة مخافة إرباك الطيارين متوسطي المستوى بالكميات الكبيرة من المعلومات، والكثير من البيانات التقنية، التي قد لا يحتاجونها أو لا يستطيعون استيعابها".

ولكن، ما نفع نظام السلامة إذا كان معقداً للغاية بالنسبة لطياري النقل الجوي المحترفين المدربين؟ كتب بيرو أن كل أداة آلية جديدة قد تحل المشاكل، ولكنها ستؤدي أيضاً إلى إضافة مشاكل جديدة أقل وضوحاً. فإذا أصبح النظام شديد التعقيد، من المحتم أن السلطات المسؤولة لن تعرف ما هي المعلومات التي تم إبلاغها لكل طيار، وأن بعض الطيارين سيشعرون بالارتباك لدى اتخاذ القرار حول الإجراءات التي يجب اتباعها. يتابع بيرو قائلاً إنه من السخف أن نلوم الطيارين في حالات كهذه، حيث أن أخطاء الطيارين تمثل "ذريعة مريحة لتبرير كل شيء"، غير أن اللوم الحقيقي يقع على تعقيد النظام.

أدى حادث تحطم إير ليون، والأنباء عن حجب بعض المعلومات الضرورية حول الأنظمة الجديدة في الطائرة عن الطيارين، إلى انتقادات حادة في أوساط الطيارين ممن يقودون 737 ماكس. وكما أوردت سياتل تايمز، فقد تساءل أحد طياري النقل الجوي الأميركيين: "لقد كنت أقود ماكس-8 لمرتين شهرياً لفترة سنة تقريباً، وأنا الآن أتأمل هذا وأتساءل: ما هي المعلومات الأخرى التي أجهلها حول هذا الشيء؟"

تمكن المحققون مؤخراً من العثور على أنظمة تسجيل الصوت والبيانات للرحلة الإثيوبية 302، والتي تعرف باسم الصناديق السوداء. وهو ما سيساعدهم على تحديد سبب التحطم. وبعد التحطم السابق في إندونيسيا، أصدرت الإدارة الفيدرالية للطيران توجيهاً جديداً حول جاهزية الطيران، يتضمن مجموعة من الإجراءات لإطفاء الأنظمة الآلية في الطائرة إذا بدا للطيارين أن القراءات الخاطئة للحساسات تجعل الطيار الآلي يقوم بتوجيه مقدمة الطائرة نحو الأسفل.

بعد حادث التحطم في إثيوبيا، أصدرت بوينغ بياناً تؤكد فيه على مستوى الأمان في الطائرة 737 ماكس. غير أن نفس البيان تضمن أيضاً إعلاناً عن تحديث برمجي يجعل برنامج التحكم بالطيران قادراً على التعامل بشكل أفضل مع الإشارات الخاطئة للحساسات.

يعود الفضل في سجل الأمان الممتاز للطيران التجاري إلى البيروقراطية، لا التكنولوجيا. لا تتصف الطائرات بالأمان لأنها مصنوعة من مواد قوية، أو لأنها مزودة بحواسيب شديدة التعقيد والرقي، بل بفضل نظام عالمي معقد من القواعد الناظمة القائمة على الكثير من قوائم التدقيق والإجراءات المنهجية، بحيث تصبح جملة "السلامة أولاً" حقيقة واقعة، لا مجرد شعار فارغ.

غير أن هذا النظام العالمي بدأ يرزح تحت ثقل المستجدات.

من البديهي أن نعتقد أن مسألة جاهزية الطيران هي قرار تكنوقراطي صرف، أي أنه يجب ألا يكون للسياسة علاقة بقدرة الطائرة على التحليق. ولهذا، فإن شركات الطيران التسع والستين حول العالم التي استلمت طائرات 737 ماكس يجب أن تجد أن هذه الطائرات متساوية من حيث السلامة، فلا يجب أن تكون الطائرات في الصين أكثر أو أقل أماناً من مثيلاتها في الولايات المتحدة.

ولكن، وخلال اليوم التالي للتحطم، قامت 23 شركة طيران بإيقاف طائراتها 737 ماكس عن العمل، ولم تكن بينها شركة أميركية واحدة. وكانت الصين أول بلد تقوم بإيقاف جميع طائراتها. ولكن من ناحية أخرى، فقد أصدرت الإدارة الفيدرالية للطيران "إشعاراً باستمرار جاهزية الطيران للمجتمع الدولي"، وهو إعلان استباقي يشهد بسلامة الطائرة 737 أميركية الصنع، على الرغم من أن سبب التحطم ما زال مجهولاً حتى الآن، كما قالت شركة بوينغ بنفسها.

يمثل هذا التباين في الإجراءات تقويضاً للإجماع التكنوقراطي. ففي آخر مرة حدث فيها شيء مماثل في 2013، قام مجتمع الطيران الدولي بإيقاف جميع طائرات بوينغ 787 عن العمل حتى حل مشاكل بطاريات الطائرة. غير أننا الآن في زمن آخر. وإذا نظرنا إلى ظاهر الأمور، يمكن القول إن الصين تبالغ في الحذر، وأن الإدارة الفيدرالية للطيران تفضل عدم الاستعجال في استنتاجاتها. ولكن لا شك في أن الصين تبدو وكأنها تستغل هذه الفرصة لتقويض الثقة في غريمتها الدولية، على حين أن حكومة الولايات المتحدة تفعل كل ما باستطاعتها لحماية الشركة التي تُعتبر أكبر الشركات المصدّرة في الولايات المتحدة، وهي تمثل بالتالي مصدراً هاماً لوظائف التصنيع.

في كل عام، تصبح الأجواء أكثر ازدحاماً مع ازدياد عدد المسافرين، وتصاعد شعبية الطائرات المسيرة من مختلف الأحجام. لقد بقي السفر الجوي التجاري آمناً حتى الآن -بشكل جزئي- بسبب الهيكلية المتينة للتحقيقات التي تتيح لنا التعلم من أخطائنا حتى لا نكررها.

حتى وقت كتابة هذا المقال، لم يحدد المحققون بشكل نهائي أسباب أي من حادثي تحطم 737 ماكس. ولكن من المحزن أننا، على ما يبدو، لم نأخذ العبرة من رحلة ليون إير 610 في الوقت المناسب حتى نمنع حادثة الرحلة 302. ونأمل بأن هذه المشكلة المتعلقة بالنظام الآلي المضاد للانهيار الهوائي، والتي تؤدي إلى انحراف الطائرة نحو الأسفل، ستُحل في إطار التغييرات التي تعمل بوينغ بالتعاون مع سلطات الطيران على تطبيقها حالياً.

ولكننا، حتى في أفضل الحالات، لن نخرج من هذه الحلقة المفرغة. وكما كتب بيرو: "إن الحوادث الناتجة عن الأعطال الأساسية عن الأنظمة، وعلى الرغم من قلة عددها، لن تصبح أقل. ويعود هذا إلى أن كل تطور جديد في التجهيزات أو التدريب يجلب معه مزيداً من الضغوط لدفع الأنظمة إلى أقصى حدود قدراتها".

المحتوى محمي