في 2022، اتخذ الذكاء الاصطناعي مسحة إبداعية. فقد أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي الآن قادرة على إنتاج مقاطع متقنة من النصوص والصور وحتى الفيديو، بالاعتماد على تعليمات نصية فقط. وقد مرت تسعة أشهر منذ أن أطلقت أوبن أيه آي (OpenAI) انفجار الذكاء الاصطناعي التوليدي مع دال-إي 2 (DALL-E 2)، وهو نموذج تعلم عميق يستطيع إنتاج الصور اعتماداً على التعليمات النصية. وقد تبعتها لاحقاً إنجازات أخرى من جوجل (Google) وميتا (Meta): وهي أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على إنتاج الفيديو من النصوص. كما لم تمر سوى بضعة أسابيع وحسب على إطلاق أوبن أيه آي لنظام تشات جي بي تي (ChatGPT)، وهو أحدث نموذج ذكاء اصطناعي أشعل الإنترنت بنتائجه التي تتميز بمستوى عالٍ من الإتقان والتماسك.
لقد كانت وتيرة الابتكار لهذه السنة مثيرة للإعجاب، بل وفائقة السرعة في بعض الأحيان. مَن كان ليتوقع كل هذا؟ وكيف يمكن أن نتوقع ما سيحدث تالياً؟
استعدوا لبوتات الدردشة متعددة الأغراض
قد يكون جي بي تي 4 قادراً على التعامل مع ما يتجاوز حدود اللغات
لقد شهدت السنوات القليلة الماضية سلسلة ثابتة الوتيرة من النماذج اللغوية التي تزداد ضخامة وقدرة بصورة متواصلة. ويعتبر تشات جي بي تي حالياً النموذج الأفضل بينها، وقد أطلقته أوبن أيه آي في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم. ويمثل بوت الدردشة هذا النسخة الأفضل والأكثر دقة من جي بي تي 3، وهو نظام الذكاء الاصطناعي الذي أطلقته الشركة في 2020، والذي يمثل بداية هذه الموجة من نماذج الذكاء الاصطناعي القادرة على محاكاة اللغة البشرية بدقة عالية.
ولكن ثلاث سنوات تعتبر فترة طويلة في مجال الذكاء الاصطناعي، وعلى الرغم من أن تشات جي بي تي أحدث ما يشبه العاصفة على مستوى العالم، وكان موضوع عدد هائل من منشورات التواصل الاجتماعي والعناوين الصحافية التي تمتدحه بلا هوادة بفضل مهاراته الحوارية الفائقة –وإن كانت تفتقد إلى أي فهم حقيقي- فإن الجميع يترقب النموذج المقبل: جي بي تي 4. وتشير الأدلة إلى أن 2023 سيكون العام الذي سيشهد إطلاق الجيل الجديد من النماذج اللغوية الكبيرة.
ماذا يمكن أن نتوقع؟ بدايةً، قد تكون النماذج اللغوية الجديدة أكثر من مجرد نماذج لغوية. حيث أعربت أوبن أيه آي عن اهتمامها بجمع عدة تقنيات –مثل التعرف على الصور أو الفيديو- مع النص. وقد شهدنا هذا سابقاً في دال-إي 1. ولكن، وإذا أخذنا المهارات الحوارية لتشات جي بي تي، وجمعناها مع القدرة على التلاعب بالصور في نموذج واحد، سنحصل على شيء أعلى قدرة، وأقرب إلى الذكاء العام الاصطناعي. ويمكن أن نتخيل القدرة على أن نطلب من بوت الدردشة توصيف محتوى صورة، أو أن نطلب منه توليد صورة، وأن تكون هذه التفاعلات جزءاً من الحوار، بحيث يمكن تحسين النتائج بشكل طبيعي أكثر مما هو متاح في دال-إي.
اقرأ أيضاً: بوت تشات جي بي تي مبدع وسهل الاستخدام لكن مخاطره كثيرة
لقد شهدنا لمحة من هذا في نموذج فلامينغو (Flamingo) من ديب مايند (DeepMind)، وهو "نموذج لغوي مرئي" كُشفت الستار عنه في أبريل/ نيسان من العام الماضي، ويستطيع الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالصور باستخدام اللغة الطبيعية. وبعد ذلك، وفي مايو/ أيار، أعلنت ديب مايند عن غاتو (Gato)، وهو نموذج "عام التوجه" تم تدريبه باستخدام الطرق نفسها التي تعتمد عليها النماذج اللغوية الكبيرة لتأدية أنواع مختلفة من المهام، بدءاً من توصيف الصور وصولاً إلى ممارسة ألعاب الفيديو والتحكم بذراع روبوتية.
وإذا تم تصميم جي بي تي 4 على أساس هذه التقنيات، فيمكن أن نتوقع الحصول على نظام واحد بأفضل مزايا أنظمة الذكاء الاصطناعي في تشكيل اللغة والصور (وربما أكثر من ذلك). يمكن لجمع المهارات المتعلقة بكل من اللغة والصور من الناحية النظرية أن يجعل أنظمة الذكاء الاصطناعي من الجيل الجديد أكثر قدرة على فهم كلتا الناحيتين. ولا يقتصر هذا على أوبن أيه آي، إذ يمكن أن نتوقع أن تقوم مختبرات كبرى أخرى، خصوصاً ديب مايند، بتقديم نماذج متعددة الوسائط في السنة المقبلة.
ولكن، لا بُدّ من وجود ناحية سلبية بطبيعة الحال. فالجيل الجديد من النماذج اللغوية سيرث معظم مشكلات الجيل الحالي، مثل عدم القدرة على التفريق بين الواقع والخيال، إضافة إلى ميل إلى التحيز. وستزيد النماذج اللغوية الأكثر تطوراً من صعوبة الوثوق بأنواع أخرى من الوسائط. وبما أننا ما زلنا بحاجة إلى المزيد من التطوير لإنجاز عملية تدريب النماذج على البيانات المجموعة من الإنترنت دون امتصاص هذه النماذج لأسوأ ما تتضمنه هذه البيانات، فإن هذه النماذج ستبقى مليئة بهذه السلبيات والمشاكل.
أولى الخطوط الحمراء في الذكاء الاصطناعي
قوانين جديدة ومشرّعون مندفعون يبذلون كل الجهود الممكنة لوضع الشركات على المحك
حتى الآن، كانت صناعة الذكاء الاصطناعي أشبه بالغرب الأميركي القديم، حيث لا توجد سوى بضعة قواعد وحسب لتنظيم استخدام وتطوير هذه التكنولوجيا. ولكن هذا سيتغير في 2023. فقد أمضى المشرعون وواضعو القوانين عام 2022 وهم يشحذون مخالبهم استعداداً للعمل. وفي هذه السنة، سينقضون عليها بكل قواهم.
وسنشهد أخيراً النسخة النهائية من قانون الذكاء الاصطناعي الشامل في الاتحاد الأوروبي، وذلك مع انتهاء المشرعين من تعديل مشروع القانون بحلول الصيف على الأرجح. ومن شبه المؤكد أن يتضمن هذا القانون حظراً على ممارسات الذكاء الاصطناعي التي تنتهك حقوق الإنسان، مثل الأنظمة التي تقوم بوضع نقاط وتصنيفات للناس وفق أهليتهم للثقة.
كما سيتم أيضاً حظر استخدام أنظمة التعرف على الوجوه في الأماكن العامة من قبل مؤسسات فرض القانون في أوروبا، بل إن الزخم يتجه نحو حظرها كلياً على مؤسسات فرض القانون والشركات الخاصة، على الرغم من أن الحظر الشامل سيواجه مقاومة عنيفة من بعض البلدان التي ترغب باستخدام هذه التكنولوجيات لمكافحة الجريمة. ويعمل الاتحاد الأوروبي أيضاً على قانون جديد لتحميل شركات الذكاء الاصطناعي المسؤولية عن تسبب منتجاتها بالأذى، مثل انتهاك الخصوصية، والقرارات غير العادلة للخوارزميات.
اقرأ أيضاً: مختبر أوبن إيه آي يمنح مايكروسوفت حقَّ الوصول الحصري إلى نموذجه اللغوي جي بي تي 3
وفي الولايات المتحدة، تراقب هيئة التجارة الفيدرالية أيضاً، وبدقة، عمليات جمع الشركات للبيانات واستخدامها لخوارزميات الذكاء الاصطناعي. وفي وقت سابق من السنة الماضية، أرغمت الهيئة شركة ويت ووتشرز (Weight Watchers)، المختصة بخسارة الوزن، على تدمير بياناتها وخوارزمياتها لأنها قامت بجمع البيانات عن الأطفال بصورة غير قانونية. وفي أواخر ديسمبر/ كانون الأول، كادت شركة إيبيك "Epic"، التي تنتج الألعاب مثل لعبة فورتنايت، أن تتعرض إلى مصير مماثل، ولكنها تفادت هذا بالموافقة على تسوية بقيمة 520 مليون دولار.
لقد أمضى المشرعون العام الماضي في جمع المعلومات والملاحظات من جميع المصادر حول القواعد الممكنة لتعامل الشركات مع البيانات وبناء الخوارزميات، وقالت رئيسة مجلس الإدارة لينا خان إن الوكالة تنوي حماية الأميركيين من المراقبة التجارية وممارسات أمن البيانات المخالفة للقانون "بشكل سريع وصارم".
وفي الصين، قامت السلطات مؤخراً بحظر إنتاج المواد عميقة التزييف دون موافقة الشخص الذي يظهر في المادة. وعبر قانون الذكاء الاصطناعي، يريد الأوروبيون إضافة إشارات تحذير توضح للأشخاص أنهم يتفاعلون مع مواد عميقة التزييف أو مواد قام الذكاء الاصطناعي بإنتاجها، مثل الصور والصوت والفيديو.
وستؤثر جميع هذه القوانين على طريقة الشركات التكنولوجية في بناء تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها وبيعها. ولكن، يتوجب على المشرعين تحقيق توازن دقيق بين حماية المستهلك وعدم إعاقة الابتكار، وهي نقطة تصر مجموعات الضغط التابعة للشركات التكنولوجية على تذكيرهم بها باستمرار.
يتميز مجال الذكاء الاصطناعي بسرعة فائقة في التطور، ولهذا فإن أحد التحديات يكمن في صياغة قواعد دقيقة بما يكفي حتى تكون فعّالة، ولكنها ليست محددة بما يكفي حتى تصبح قديمة وباطلة المفعول بسرعة. وكما في حالة جهود الاتحاد الأوروبي لتنظيم حماية البيانات، فإن تطبيق القوانين الجديدة بشكل صحيح سيعني أن هذه السنة ستشهد حقبة طال انتظارها من تطوير الذكاء الاصطناعي بدرجة أكبر من الاحترام للخصوصية والعدالة.
الشركات التكنولوجية الكبرى قد تخسر هيمنتها على أبحاث الذكاء الاصطناعي الأساسية
وستبدأ الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي بتعزيز مكانتها
ليست الشركات التكنولوجية الكبيرة الوحيدة فيما يتعلق بأحدث أبحاث الذكاء الاصطناعي، فقد بدأت ثورة التكنولوجيات مفتوحة المصدر بمجاراة ما تقوم به أكثر المختبرات ثراء في العالم، بل وتجاوزه في بعض الأحيان.
ففي 2022 شهدنا أول نموذج لغوي كبير متعدد اللغات من تصميم مجتمع برمجي كامل، وهو نموذج بلوم (BLOOM) من هاغينغ فيس (Hugging Face). كما شهدنا زيادة كبيرة وحادة في الابتكار المتعلق بنموذج الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر لتحويل النص إلى صورة، ستيبل ديفيوجن (Stable Diffusion)، والذي يضاهي دال-إي 2 من أوبن أيه آي.
لقد بدأت الشركات التكنولوجية الكبيرة التي لطالما هيمنت على أبحاث الذكاء الاصطناعي بإجراء عمليات تسريح شاملة وإيقاف عمليات التوظيف، مع تردي الأوضاع الاقتصادية العالمية. إن أبحاث الذكاء الاصطناعي مكلفة، ومع تخفيف تكاليف العمل، يجب على الشركات أن تكون دقيقة للغاية في اختيار المشاريع التي ستستثمر فيها، ومن المرجح أن تركز في اختياراتها على المشاريع الأكثر قدرة على تحقيق الأرباح في المستقبل، بدلاً من المشاريع الأكثر إبداعاً، أو إثارة للاهتمام، أو المشاريع التجريبية، كما يقول أورين إتزيوني، الرئيس التنفيذي لمعهد آلين للذكاء الاصطناعي، وهو مؤسسة بحثية.
اقرأ أيضاً: لماذا لم يتمكن الذكاء الاصطناعي من إحداث تغيير جذري في أغلب الشركات؟
لقد بدأ التركيز على الأرباح النهائية بالتأثير على ميتا، والتي أعادت تنظيم فرق الذكاء الاصطناعي فيها، ونقلت الكثير من أفرادها للعمل ضمن الفرق التي تقوم ببناء المنتجات.
ولكن، وفيما تحاول الشركات التكنولوجية الكبيرة التخفيف من النفقات، فإن الشركات الناشئة مبهرجة الطابع تعمل على أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، والتي تمكنت من إثارة اهتمام كبير لدى صناديق رؤوس الأموال الاستثمارية.
وكما يقول إتزيوني، فإن السنة المقبلة ستكون سنة رائعة للشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي. هناك الكثير من الكفاءات في هذا المجال، وفي أوقات الركود الاقتصادي، غالباً ما يميل الأشخاص إلى إعادة النظر بحياتهم، حيث يعودون إلى العمل الأكاديمي، أو يتركون الشركات الكبيرة لتأسيس شركة ناشئة، على سبيل المثال.
ومن الممكن أن تتحول الشركات الناشئة والمؤسسات الأكاديمية إلى مراكز ثقل للأبحاث الأساسية، كما يقول مارك سورمان، وهو المدير التنفيذي لمؤسسة موزيلا (Mozilla).
ويقول: "لقد دخلنا حقبة ستكون الشركات التكنولوجية الكبيرة فيها أقل تأثيراً على توجهات أبحاث الذكاء الاصطناعي، وهي فرصة رائعة".
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعود بالفائدة الحقيقية على الشركات؟
طابع شركات الأدوية الكبيرة سيتغير إلى الأبد
وبدءاً من بنوك البروتينات التي أنتجها الذكاء الاصطناعي وصولاً إلى الأدوية التي صممها الذكاء الاصطناعي، سيدخل حقل التكنولوجيا الحيوية حقبة جديدة
لقد أصبح من الواضح في السنوات القليلة الماضية أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحدث هزات كبيرة في صناعة الأدوية. فقد قامت ديب مايند بتصميم ألفا فولد (AlphaFold)، وهو نظام ذكاء اصطناعي قادر على التنبؤ بالبنى البروتينية (وهي المفتاح اللازم لتحديد وظائفها)، ما فتح الطريق أمام أنواع جديدة من الأبحاث في البيولوجيا الجزيئية، وساعد الباحثين في فهم طبيعة الأمراض وصنع أدوية جديدة لعلاجها. وفي نوفمبر، كشفت ميتا الستار عن إي إس إم فولد (ESMFold)، وهو نموذج أكثر سرعة للتنبؤ ببنى البروتينات، بشكل يشبه وظيفة الإكمال التلقائي للعبارات، ولكن للبروتينات، وذلك باستخدام تقنية فريدة مبنية على أساس النماذج اللغوية الكبيرة.
وقد تمكنت شركتا ديب مايند وميتا، مجتمعتين، من إنتاج بنى لمئات الملايين من البروتينات، بما فيها جميع البروتينات المعروفة علمياً، وقامتا بمشاركتها في قواعد بيانات عامة ضخمة. وقد بدأ علماء البيولوجيا والعاملون في تصميم الأدوية بالاستفادة من هذه الموارد، والتي تجعل البحث عن بنى بروتينية جديدة سهلاً إلى درجة تكاد تضاهي البحث على الويب.
ولكن من المحتمل أن يكون 2023 العام الذي يشهد قطف ثمار هذا العمل التأسيسي. فقد قامت ديب مايند بتحويل عملها في التكنولوجيا الحيوية إلى شركة فرعية منفصلة باسم آيزومورفيك لابز (Isomorphic Labs)، والتي كانت تعمل بصمت مطبق لأكثر من سنة حتى الآن. ومن المحتمل أن تعلن عن إنجاز كبير ما هذه السنة.
وعلى مسار تطوير الأدوية، توجد الآن المئات من الشركات الناشئة التي تدرس عدة وسائل لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تسريع اكتشاف المخدرات، وحتى تصميم أنواع منها لم تكن معروفة من قبل. وقد وصل 19 نوعاً مختلفاً من الأدوية التي تم تطويرها من قبل شركات الأدوية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة التجارب السريرية (لم يكن هناك أي دواء في تلك المرحلة في 2020)، ومن المتوقع أن يزداد العدد في الأشهر المقبلة. ومن المحتمل أن نشهد النتائج الأولية لبعض هذه الأدوية في العام المقبل، ما يعني إمكانية وصول أول دواء تم تطويره باستخدام الذكاء الاصطناعي إلى الأسواق.
ولكن التجارب السريرية قد تستغرق عدة سنوات، وبالتالي، ليس من المتوقع أن يحدث هذا قريباً. وعلى الرغم من هذا، فقد بدأ عصر الأدوية المصممة تكنولوجياً بشكل حاسم ولا رجعة عنه. تقول لوفيسا أفزيليوس في فلاغشيب بايونيرينغ (Flagship Pioneering)، وهي شركة برأس مال مغامر للاستثمار من التكنولوجيا الحيوية: "إذا جرى العمل بصورة سليمة، فقد نشهد حدوث بعض الأشياء المذهلة والتي تكاد لا تصدق في هذا المجال".