يمكن أن نشبه محاولة وصف المادة المظلمة بمحاولة وصف شبح يعيش في منزلك؛ فنحن لا نستطيع رؤية أي منهما، ولكننا نستطيع رؤية كل ما يتحرك حولهما. ولا يوجد تفسير لهذه الحركة سوى قوة خفية لا يمكن رصدها أو قياسها أو التفاعل معها مباشرة.
فنحن ندرك وجود المادة المظلمة لقدرتنا على رصد جميع تأثيراتها على الأجسام التي تتحرك في أنحاء الكون. ووفقاً لتقديرات العلماء، فإن الكون مؤلف بنسبة 27% من المادة المظلمة، و68% من الطاقة المظلمة، أما نسبة 5% المتبقية فهي مؤلفة من الطاقة والمادة العادية. أما السؤال الذي يشغل بال الجميع فهو التالي: أين تقع هذه المادة التي يصعب كشفها بالضبط؟ وما هو شكل توزعها عبر أرجاء الكون؟
يعمل مشروع دولي مؤلف من أكثر من 400 عالم (باسم مسح الطاقة المظلمة) على الإجابة عن هذه الأسئلة. وقد أطلق المشروع مؤخراً أضخم خريطة للمادة المظلمة في الكون وأكثرها تفصيلاً حتى اللحظة، وهي تحمل بعض النتائج المفاجئة التي لا تتوافق حتى الآن بصورة كاملة مع أفكار فيزيائية تعود إلى أيام ألبرت أينشتاين ونظريته في النسبية العامة.
يمثل هذا المشروع محاولة لبناء صورة تتضمن أكبر عدد ممكن من المجرات كوسيلة غير مباشرة لوضع خريطة للمادة المظلمة، وهو أمر ممكن لأن جاذبية المادة المظلمة تلعب دوراً هاماً في التحكم بتوزيع هذه المجرات. ومن أغسطس 2013 وحتى يناير 2019، اجتمع العشرات والعشرات من العلماء لاستخدام تلسكوب فيكتور م. بلانكو بعدسة قطرها أربعة أمتار في تشيلي لرصد السماء في المجال القريب من تحت الأحمر.
وهناك عنصران أساسيان لبناء الخريطة. يتلخص الأول ببساطة في رصد موقع وتوزع المجرات عبر الكون. ويمثل هذا التوزع دليلاً يشير بالنسبة للعلماء إلى أماكن وجود أكبر التراكيز من المادة المظلمة.
أما العنصر الآخر فهو مراقبة التأثير العدسي الثقالي؛ وهي ظاهرة يتعرض فيها الضوء الصادر عن المجرات إلى تمدد ثقالي بسبب المادة المظلمة أثناء اختراقه للفضاء، ويمكن تشبيه هذا الأثر بالنظر عبر عدسة مكبرة. ويستخدم العلماء التأثير العدسي الثقالي لاستنتاج الحجم الذي تحتله مادة مظلمة قريبة، فكلما كان الضوء أكثر تشوهاً، كانت المادة المظلمة أكثر تركيزاً وتكتلاً.
وتأخذ النتائج الأخيرة بالحسبان أول ثلاث سنوات من بيانات المشروع، التي تصل إلى أكثر من 226 مليون مجرة تم رصدها على مدى 345 ليلة. يقول نيال جيفري، وهو باحث من جامعة لندن ومدرسة النورمال العليا في باريس، وأحد قادة المشروع: "لقد تمكنا حتى الآن من وضع خريطة للمادة المظلمة فوق ربع نصف الكرة الجنوبي".
بشكل عام، فإن البيانات تتوافق مع ما يسمى بالنموذج المعياري للكونيات، الذي يقول بأن الكون نشأ بسبب الانفجار الكبير وأن إجمالي محتواه من الطاقة والمادة يتألف بنسبة 95% من المادة المظلمة والطاقة المظلمة. تؤمن الخريطة الجديدة للعلماء تصوراً أكثر تفصيلاً حول بعض بنى المادة المظلمة الكونية هائلة الحجم، التي كانت ستبقى غير مرئية بالنسبة لنا دون هذا العمل. تمثل النقاط الأكثر سطوعاً على الخريطة أعلى تراكيز المادة المظلمة، التي تشكل تكتلات وهالات حول فراغات ذات كثافة منخفضة للغاية.
غير أن النتائج لم تخلُ من المفاجآت. يقول جيفري: "لقد وجدنا دلائل تشير إلى أن الكون أكثر تجانساً مما توقعنا. وقد شهدنا هذه الدلائل في تجارب أخرى حول التأثير الثقالي العدسي".
لم يكن هذا ما توقعته النسبية العامة، التي تقول إن المادة المظلمة يجب أن تكون أكثر تكتلاً وأقل انتظاماً من حيث التوزع. وقد كتب المؤلفون في إحدى الأوراق البحثية الثلاثين التي سينشرونها: "على الرغم من أن الدليل ليس قاطعاً بأي حال من الأحوال، فمن الممكن أننا نشهد الآن بوادر ظهور فيزياء جديدة". وبالنسبة لعلماء الكونيات، "قد يترافق هذا مع تغيير في قوانين الجاذبية كما وصفها أينشتاين"، كما يقول جيفري.
وعلى الرغم من أن الاحتمالات الكامنة كبيرة للغاية، فإن الحذر أمر في غاية الأهمية؛ لأننا ما زلنا في الواقع لا نعرف الكثير حول المادة المظلمة، التي لم نتمكن من رصدها بصورة مباشرة حتى الآن. وعلى سبيل المثال، يلحظ جيفري أنه "إذا تراصفت المجرات القريبة بشكل غريب بسبب ظواهر فيزيائية معقدة، فإن نتائج الأثر الثقالي العدسي ستكون خاطئة".
وما يقصده هنا أنه يوجد احتمال كبير لوجود تفسير غريب للغاية للنتائج، ومن المحتمل أن أخذ هذا التفسير بعين الاعتبار يجعلها متوافقة مع النسبية العامة. وهذا سيكون بمثابة مصدر راحة كبير لأي فيزيائي فلكي يعتمد عمل حياته بالكامل على صحة عمل أينشتاين. ويجب ألا ننسى أيضاً أن النسبية العامة صمدت بشكل رائع أمام جميع المصاعب التي تعرضت لها عبر السنوات الماضية.
بدأت النتائج تُحدث أثراً في الأوساط العلمية منذ الآن، على الرغم من وجود المزيد من إصدارات البيانات التي لم ينشرها مشروع مسح الطاقة المظلمة بعد. يقول جيفري: "لقد بدأ الفلكيون منذ الآن يستخدمون هذه الخرائط لدراسة بنى الشبكة الكونية واستيعاب الصلة بين المجرات والمادة المظلمة بشكل أفضل". ومن المرجح ألا ننتظر كثيراً قبل أن نعرف ما إذا كانت النتائج مجرد حالة عابرة، أم أن تصورنا عن الكون يحتاج إلى إعادة نظر شاملة.