كيف نستفيد من توائم الأرض الرقمية في مواجهة التغير المناخي؟

4 دقائق
توأم الأرض الرقمي
حقوق الصورة: إنفيديا.

يرسم التغير المناخي عنواناً لعصر جديد تعيشه البشرية على المحك، نتيجة التهديدات المتصاعدة التي يشكلها التغير المناخي على كوكب الأرض وسائر الكائنات الحية التي تعيش عليه. يبذل قادة العالم جهوداً لم ترقَ إلى الحد المبشر وفقاً للأمم المتحدة، لتقليل آثاره المدمرة المتوقعة.

وعلى الرغم من  الكوارث البيئية التي شهدها البشر على مدار السنوات القليلة الماضية، من حرائق وفيضانات وجفاف وموجات حارة غير مسبوقة، ربما لا يعي معظمهم كيف ستؤثر هذه الكوارث الناتجة عن التغير المناخي على جميع مناحي حياتهم اليومية تدريجياً. وعلى الجانب الآخر، المتعلق بكيفية الاستجابة لهذه الكوارث مستقبلاً، يعتقد الخبراء أن لا أحد يعرف بدقة الاستجابات الدقيقة والحلول الأفضل للتعامل معها، خاصة أننا لم نختبرها بعد.

الحل أن يسافر أحدهم عبر الزمن لـ 50 عاماً قادمة، ليرى الواقع حينها، ويختبر بعض الحلول ليرى مدى فاعليتها في مواجهة هذه الكوارث، ثم يعود ليخبرنا بما عاصره لنأخذ احتياطاتنا ونضع خططاً أكثر دقة. هذا السيناريو ليس خيالياً، وإنما هو واقع قابل للتنفيذ عبر "المحاكاة".

توأم رقمي للأرض للتنبؤ بالتغيرات المناخية

يحتاج العالم إلى نماذج محاكاة مناخية يمكنها التنبؤ بالمناخ في مناطق مختلفة من العالم، وعلى مدى عقود. هذا ما تعكف عليه العديد من الجهات بطرق مختلفة، وآخرها شركة "إنفيديا" (Nvidia) لإنتاج معالجات الرسوميات، التي أعلنت عن خطتها لتصميم "توأم رقمي للأرض" يعرف باسم (Earth-2)، وهو عبارة عن نظام حاسوبي عملاق يعمل باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، مهمته التنبؤ بتغيرات المناخ.

التنبؤ بهذه التغيرات المناخية يختلف بشكل جذري عن التنبؤ بالطقس الذي نعرفه، فبينما يتعلق الأخير بفيزياء الغلاف الجوي فقط، تتطلب النماذج المناخية التي نتحدث عنها محاكاة على مر عقود لفيزياء الغلاف الجوي وكيميائه وبيولوجيته، ومحاكاة المياه والجليد والأرض بل والأنشطة البشرية أيضاً.

اقرأ أيضاً: هل يمكن للبيانات الزائفة المساعدة في حل مشكلة تحيز تعلم الآلة؟

الفرق بين توأم الأرض الرقمي والنماذج الحالية

نموذج "إنفيديا" ليس اختراعاً لشيء من العدم، فهناك العديد من نماذج المحاكاة المناخية، ولكن النماذج الحالية لن تخبرنا بما نريد معرفته عن تأثير التغيرات المناخية على حياتنا، أو كيفية الاستجابة لها في العقود القادمة، لأنها ببساطة تعمل بدقة في نطاق مكاني ضيق، يتراوح بين من 10 إلى 100 كيلومتر.

بينما ما نحتاجه هنا هو نموذج يستطيع محاكاة ما هو أبعد مكانياً وزمنياً، مثل محاكاة السحب التي تعكس ضوء الشمس إلى الفضاء، أو محاكاة دورة الماء (Water cycle): أي الدورة التي تصف حركة الماء على كوكب الأرض من المحيط، ثم التبخر في الهواء، ومن ثم تكوين الأمطار، ومنها إلى جليد، ومياه جوفية، وهكذا، فالتغييرات في هذه الدورة على سبيل المثال هي التي تقود إلى اشتداد العواصف والجفاف.

أما نموذج "إنفيديا"، فيمكنه العمل أسرع من المحاكاة التقليدية بنحو 1,000 إلى 100,000 مرة لمحاكاة مناخ الأرض بعد 30 عاماً من الآن، من خلال تقنيات مثل التعلم العميق وبالاعتماد على القدرات الحاسوبية الفائقة، وحينها يمكن للبلدان الحصول على إنذارات مبكرة للتكيف وجعل البنى التحتية أكثر مرونة.

جدير بالذكر الإشارة إلى أن "إنفيديا" قد أعلنت عن نموذج مماثل لـ "توأم الأرض الرقمي" في وقت سابق من عام 2021، ولكن في مجال أبحاث الرعاية الصحية، ويعرف باسم "Cambridge-1". ويجري استخدام النموذج حالياً من قبل عدد من شركات الرعاية الصحية الرائدة في المملكة المتحدة.

اقرأ أيضاً: علماء ومصورون يتعاونون على إظهار سرعة تفاقم التغير المناخي

مبادرة الاتحاد الأوروبي

مثلما سُلطت الأضواء هذا العام على التغيرات المناخية كموجات الحرارة غير المسبوقة التي تسببت في حرائق الغابات، ونفوق ملايين الكائنات في البحار، انطلقت العديد من المبادرات لتسلط الضوء على محاكاة هذه التغيرات مستقبلاً، فبالإضافة إلى مشروع إنفيديا، هناك مبادرة الاتحاد الأوروبي لبناء محاكاة رقمية مفصلة للكوكب تحت اسم "Destination Earth"، ويُتوقع استخدامه لتقييم مخاطر الجفاف ومراقبة ارتفاع مستوى سطح البحر وتتبع التغيرات في المناطق القطبية. وكذلك، سيستخدم في الاستراتيجيات المتعلقة بإمدادات الغذاء والمياه، ومبادرات الطاقة المتجددة بما في ذلك مزارع الرياح ومحطات الطاقة الشمسية.

"مثلاً إذا أراد أحدهم بناء سد بارتفاع مترين في هولندا، سيستخدم النموذج البيانات الموجودة للتحقق من فاعلية السد في ظل ظروف متطرفة متوقعة في عام 2050". هذا المثال يدرجه بيتر باور، نائب مدير الأبحاث في المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى والمُشارك في تأسيس المشروع كمثال على استخدام التوأم الرقمي للأرض.

أعلن الاتحاد الأوروبي أن المشروع سيستغرق عقداً من الزمن لتصميم "توأم رقمي للأرض"، بدءًا من خريف عام 2021، ليتم الانتهاء منه تماماً بحلول 2030. ولكن سيتم تقديمه على مقياس كيلومتر واحد معتمداً على بيانات الرصد المحدثة باستمرار من مستشعرات المناخ والغلاف الجوي والأرصاد الجوية، بالإضافة إلى مقاييس تأثير الأنشطة البشرية على البيئة.

اقرأ أيضاً: التغير المناخي يُحدث موجة حر تفوق المعدلات القياسية في شمال غرب الولايات المتحدة

هل ستشكل نماذج المحاكاة فرقاً بالفعل؟

نعم، أثبتت نماذج المناخ أن بإمكانها أن تشكل فرقاً إذا تم التعامل معها بجدية، إذ أن الأمر ليس مستحدثاً، وإنما يعود إلى خمسين عاماً مضت، حيث كشفت الدراسات أن العديد من النماذج المبكرة كانت دقيقة بشكل ملحوظ في تنبؤاتها بارتفاع درجات الحرارة العالمية، فقد أوردت ورقة بحثية صادرة عام 2019، أعدها 4 باحثين من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومعهد جودارد لدراسات الفضاء التابع لناسا، تحليلاً لـ 17 نموذجاً يعود تاريخها إلى السبعينيات ووجدوا أن 14 نموذجاً منها تنبأ بدقة بالعلاقة بين درجات الحرارة العالمية وزيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

في ذلك الوقت كان الكثيرون يتعاملون مع تنبؤات المناخ بنوع من الشك والتوجس، وها هي تصبح أقدم مراجعنا لظاهرة الاحتباس الحراري. ولكن، مع زيادة قوة الحوسبة حاليّاً، وإضافة تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى النماذج، أصبح المصممون أكثر ثقة في الدفاع عن عملهم، وبات من الصعب إنكار العلم في هذه المرحلة، إذ نجد أن جائزة نوبل للفيزياء لعام 2021 تذهب إلى ثلاثة من علماء المناخ منهما اثنان من مصممي النماذج المناخية، وهما سيوكورو مانابي وكلاوس هاسلمان، لاستحداثهما نماذج حاسوبية لمناخ الأرض يمكن أن تتنبأ بتأثير الاحتباس الحراري، كدليل واضح على الاعتراف بدور التنبؤ في التقليل من مخاطر التغيرات المناخية. 

تبدو نماذج المحاكاة الحديثة وكأنها ترفع لافتة واضحة: "حان وقت العمل الآن، وإذا لم نفعل ذلك، ستكون العواقب ستكون خطيرة إلى هذا الحد".