تقدم واعد في تقنية كريسبر يمهد الطريق لتطوير علاجات فردية مخصصة

4 دقائق
تقدم واعد في تقنية كريسبر تمهد الطريق لتطوير علاجات فردية مخصصة
حقوق الصورة: shutterstock.com/vchal

ستشكل تقنية كريسبر لتعديل الجينات ثورة في مجال الرعاية الصحية تختلف عمّا عهدناه سابقاً، إذ يمكن لهذه التقنية التي حاز على جائزة نوبل اثنان من مبتكريها سنة 2020، أن تستهدف الجينات وتعدلها بسهولة ودقة أكبر من التقنيات السابقة.

ولكن على الرغم مما كانت تعد به تقنية كريسبر على مدار السنوات العديدة الماضية؛ إلا أنَّنا لا ينبغي أن ننسى أنها طُوِّرت معظمها في المختبر.

ولحسن الحظ، يتغير هذا الأمر الآن مع ازدياد عدد التجارب السريرية في اختبار العلاجات الجينية لدى البشر. وقد ركَّزت تجارب كريسبر الأولية على العمى الوراثي وأمراض الدم، بما في ذلك السرطان وفقر الدم المنجلي.

اقرأ أيضاً: تجربة ناجحة لتقنية كريسبر في علاج الثلاسيميا بيتا وفقر الدم المنجلي

وعلى الرغم من تطور هذه العلاجات، إلا أن مشكلتها تكمن بالتكلفة والشدة. على سبيل المثال، في إحدى التجارب لفقر الدم المنجلي، يقوم الأطباء بإزالة الخلايا من الجسم وتعديلها ضمن طبق، ثم إعادة حقنها في المريض.

مثل هذا النهج المُعقَّد لن ينجح بسهولة مع الأمراض الأخرى، وما نحتاجه هو طريقة عامة لتطبيق تقنية كريسبر، وبذلك يمكن استخدامها مثل أي دواء آخر.

تجربة جديدة لتطبيق تقنية كريسبر

وقد حققت تجربة سريرية حديثة أجراها باحثون في كلية لندن الجامعية خطوة أساسية واعدة في هذا الاتجاه. حيث أُجريت تجربة على مرضى يعانون من حالة تسمى الداء النشواني الوراثي المُعِل للأعصاب (ترانستيريتين)، أحد أنواع الداء النشواني، وفيه ينتج الجين المتحور بروتيناً مشوهاً (ترانستيريتين) يتراكم في القلب والأعصاب ويتلفهما. هذا المرض قاتل في نهاية المطاف.

تلقَّى المرضى حقنة واحدة من الدواء القائم على تقنية كريسبر عن طريق الدم، ومن ثم نقل الدم هذه الدواء إلى الكبد، حيث أوقف الجين المتحور وقلل من إنتاج البروتين المسبِّب للمرض.

وعلى الرغم من إجراء تجربة المرحلة الأولى على نطاق صغير؛ إلا أنَّ هذا النهج كانت له نتائج قوية مقارنة بالخيارات الحالية. وتشير النتائج إلى إمكانية علاج أمراض وراثية أخرى بطريقة مماثلة في المستقبل.

اقرأ أيضاً: جينات البشر الذين يتعرّضون للطفرات الوراثية تشير إلى قوى جديدة خارقة

كيف يعمل الدواء المؤلف من ثلاث مكونات؟

يتكون الدواء من ثلاثة مكونات؛ فقاعة صغيرة من الدهون تسمى الجسيمات النانوية الدهنية، تعمل على نقل حمولة الدواء وهذه الحمولة هي خيط من الحمض النووي الريبوزي (RNA) التوجيهي، وسلسلة شفرة الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) لبروتين كاس 9 (Cas9).

يُضَخ في مجرى الدم المليارات من هذه الجسيمات النانوية الحاملة للدواء، وتشق طريقها إلى الكبد، والذي هو مصدر البروتين المختل وظيفياً. يوجِّه الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) الخلايا لإنتاج بروتين كاس 9 (Cas9) (المقص الجيني للكريسبر)، والذي يرتبط بعد ذلك بـالحمض النووي الريبوزي (RNA) التوجيهي، ويبحث عن الجين المُستهدَف ويقطعه.

تقوم الخلية بإصلاح الحمض النووي (DNA) في موقع القص، ولكن بشكل غير كامل، إذ تقوم بإيقاف عمل الجين وإيقاف إنتاج البروتين المسبِّب للمشكلات.

لقد كانت نتائج التجارب المؤقتة المنشورة في مجلة "نيو إنغلاند الطبية" (New England Journal of Medicine) مشجعة للغاية.

لم يبلغ المرضى الستة الذين تلقوا جرعة منخفضة أو عالية من العلاج في التجربة عن أي آثار جانبية خطيرة. وفي ذات الوقت، انخفض إنتاج البروتين المُستهدَف بنسبة تصل إلى 96 في المئة (المتوسط 87 في المائة) لدى الذين أُعطوا جرعة عالية.

اقرأ أيضاً: الحيلة الجديدة من كريسبر: إزالة الألم بالتعديل الجيني

هل تكفي مرة واحدة من العلاج؟

لقد كان المرض الذي يصيب ما يقرب من 50,000 شخص في جميع أنحاء العالم، غير قابل للعلاج حتى وقت قريب.

تعمل الأدوية الحالية الحاصلة على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية في سنة 2018 على تثبيط الرنا المرسال (mRNA) الذي ينتج بروتين ترانستيريتين المشوه بدلاً من تغيير جيناته. فهي تقلل من إنتاج البروتين بنحو 80 في المائة وتبقي الناس على قيد الحياة لفترة أطول، ولكنها لا تكون مجدية مع الجميع وتقتضي العلاج بصورة مستمرة.

إذا نجح نهج كريسبر، فإنه سيكون علاجاً لمرة واحدة، أي أنَّه سيؤدي إلى تخميد البروتين بشكل دائم من خلال استهداف الجينات بعينها.

تحدَّث باتريك دوهرتي (Patrick Doherty)، وهو أحد المشاركين في التجربة، إلى الإذاعة الوطنية العامة (NPR) وقال إنَّه اغتنم الفرصة، وهو شخص شغوف بالسفر والتجوال، وقد شُخِّصَت حالته بأنَّه مصاب بالداء النشواني الترانستيريتين، وهو نفس المرض الذي أدى إلى وفاة والده، وذلك بعد ملاحظة الأعراض، مثل: وخز أصابع اليدين والقدمين، وضيق في التنفس أثناء المشي.

وعلى الرغم من أنَّ النتائج واعدة، إلا أنَّ هناك أسباباً لتعكير صفو التوقعات المأمولة. فقد كانت التجربة كما لُوحظ على نطاق صغير، وركَّزت على السلامة. سيختبر العمل المستقبلي السلامة والفعالية ضمن مجموعات أكبر، ما يمكن أن يكشف عن آثار جانبية نادرة، أو يكون مخيباً للآمال على الرغم من النجاح الأولي، وذلك على نحو مشابه لما شاهدناه في تجربتنا الحديثة مع كوفيد-19.

على الأغلب سيراقب الباحثون أيضاً "القصاصات" غير المُستهدفَة في الكبد أو الخلايا الأخرى. وتكمن فائدة هذا النهج أنَّ الخلايا تكسر الرنا المرسال (mRNA) بعد أن تقوم بإنتاج بروتين كاس 9 (Cas9). أي بعبارة أخرى، لا يدوم نظام تعديل الجينات طويلاً.

ويبقى أيضاً أن نرى إن كان هذا النهج سينجح أيضاً في معالجة أمراض أخرى. فقد كان الكبد هدفاً رئيسياً للتجربة لقدرته الكبيرة على امتصاص المواد الغريبة بشراهة، وبذلك قد لا تكون الأعضاء والأنسجة الأخرى قابلة للتجاوب العام مع العلاج كما هو الحال في الكبد.

اقرأ أيضاً: أداة جديدة في تعديل الجينات ستُحسّن تقنية كريسبر بشكل جذريّ

وفي حال أثبتت التجربة نجاحها في نهاية المطاف؛ سوف يرغب الباحثون في معرفة إن كان بإمكانهم الوصول إلى أي عضو أو نسيج مُستهدَف من خلال المعالجة الوريدية العامة. وهل يمكن أيضاً تعديل الجينات في الجسم الحي بدلاً من مجرد التخلص من الجين المسبِّب للمرض، وهل يمكننا تصحيحه بأمان؟

كريسبر تمهد الطريق نحو أدوية مخصصة بشكل فردي

من المهم أن نتذكَّر أنَّنا نسعى إلى علاج شخصي وفعَّال دون النظر إلى الوسيلة أو التكنولوجيا التي يتم بها، سواء كان العلاج بتقنية كريسبر أو العلاج الجيني أو الخلايا الجذعية، أو من خلال طرق أخرى.

وإنَّ القوة المشتركة لكل هذه التقنيات، والتي تتمثل في تقاربها مع بعضها، هي ما يجعل منها تقنيات واعدة.

وقد تكون النتيجة الأهم لهذا التقارب بينها هي الأدوية المخصصة بشكل فردي، أو ما يُسمَّى “N-of-1 medicine.”.

في هذا العلاج، تُحضَّر جميع العلاجات التي تتلقَّاها خصيصاً لك؛ الجينوم، والترنسكربيتوم، والبروتيوم (المحتوى البروتيني)، والميكروبيوم (مجموعة الميكروبات المتعايشة)، وجميع ما هنالك. فهو مستوى من الرعاية الوقائية لا مثيل له. وفي هذه الحالة ستعرف الأطعمة والمكمِّلات وأنظمة التمارين الرياضية أي منها يلائم كودك الجيني أكثر.

كما ستتعرَّف على الميكروبات التي تعيش في أمعائك، والنظام الغذائي الذي يحافظ على تنوع الميكروبيوم الصحي. وفي هذه الحالة أيضاً ستتمكن من معرفة الأمراض التي يُرجَّح أن تصاب بها، وستكون قادراً على اتخاذ خطوات للوقاية منها.

إنَّه عصر الرعاية الطبية الشخصية المذهل، والذي أصبحت فيه وسائل العيش هي وسائل للحفاظ على الحياة، وبدأت العديد من الأمراض التي ابتليت بها الأجيال السابقة تتلاشى من الذاكرة.