كيف ساعد برنامج ترانزيت على تحديد المواقع قبل ظهور جي بي إس؟

5 دقائق
تطوير-برنامج-ترانزيت-لتحديد-المواقع
القمر الاصطناعي ترانزيت-2-إيه. مصدر الصورة: سلاح البحرية الأميركية/ مختبر الدفع النفاث في ناسا

ماذا لو أصبح من الممكن تحديد موقعنا على كوكب الأرض بفضل إشارة صادرة عن قمر اصطناعي؟ هذا هو التساؤل الذي خطر على بال العلماء عندما كانت البشرية في بدايات مغامراتها الفضائية، وقد تحولت هذه الفكرة إلى حقيقة واقعة بفضل مجموعة الأقمار الاصطناعية والنظام العالمي لتحديد المواقع (جي بي إس GPS). ولكن، في بدايات مغامرات البشرية في الفضاء، بدا مشروع ترانزيت هو الحل الذي يمكننا السعي إلى تحقيقه. بالطبع، لم تكن الحرب الباردة بعيدة على الإطلاق في تلك الحقبة.

الإصغاء إلى سبوتنيك

في أكتوبر من العام 1957، كان القمر الاصطناعي سبوتنيك محط اهتمام وتفكير الجميع، فقد تمكن الاتحاد السوفييتي من إحداث هزة كبيرة على مستوى العالم إثر نجاح هذا المشروع، وفيما كانت المؤسسة العسكرية الأميركية تسارع للحاق بالسوفييت عبر بناء أول قمر اصطناعي أميركي، كان الآخرون قد بدأوا يدركون الإمكانات التي تقدمها الأقمار الاصطناعية، التي يمكن أن تعبر السماء فوق رؤوسنا خلال بضع ثوانٍ وحسب، وتدور حول العالم في تسعين دقيقة فقط. وفي مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز، كان ويليام جوير وجورج وايفنباخ مهتمين جداً بالصوت الشهير للغاية “بيب بيب”، الذي كان القمر الاصطناعي الصغير يصدره، والذي تمكن الكثير من هواة اللاسلكي حول العالم من الاستماع إليه على الترددين 20.005 و40.002 ميجا هرتز. وقد قاما بتسجيل الإشارة أثناء مرور سبوتنيك، ومن ثم تحليلها، ووجدا أنها تعرضت لإزاحة خفيفة بسبب تأثير دوبلر، سواء أثناء اقتراب القمر الاصطناعي أو ابتعاده، بل إنه يمكن بإجراء دراسة مفصلة استنتاج موقع القمر الاصطناعي بالنسبة للمراقب.

توضيح ظاهرة دوبلر. مصدر الفيديو: قناة ألت شيفت إكس

لا يمكن تطبيق دوبلر على الجميع

يُعرف تأثير دوبلر على أنه الانزياح الترددي للموجة بسبب تحرك المُرسِل أو المستقبِل، حيث يقوم المرسل ببث موجة بتردد ثابت، ولكن المستقبل يرصد تغيراً قابلاً للقياس في التردد، وهو تغير يعتمد بشكل مباشر على موضع وسرعة المرسل (يجب أيضاً أن تضاف مُعامِلات تتعلق بالوسط الذي تنتشر فيه الموجة، مثل الغلاف الجوي). أثار عمل جوير ووايفنباخ اهتمام مديرهما، ظالذي استنتج في مارس 1958 أنه يمكننا أن نعرف بدقة موضع المستقبل إذا تمكنا من إجراء قياس دقيق للإشارة وانزياحها بفعل تأثير دوبلر، وكنا في نفس الوقت نعرف الموضع الدقيق للمرسل، أي أنه يمكن بإجراء حساب “بسيط”، وقابل للتكرار، معرفة موضع القمر الاصطناعي.

مجموعة الأقمار الاصطناعية كما تخيلها الباحثون في بداية الستينيات. المصدر: مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز.

في ذلك الوقت، أسست وزارة الدفاع الأميركية وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة (داربا)، التي دعمت المشروع نظراً لأهميته للبحرية الأميركية، وقد كانت سرعة العمل ضرورية؛ حيث إنه من المحتمل للغاية أن العلماء السوفييت درسوا نفس المسألة. أُطلق على البرنامج اسم ترانزيت، وكان المبدأ بسيطاً للغاية. تقوم الخطوة الأولى على إرسال قمر اصطناعي تجريبي قادر على بث موضعه المداري إلى الأرض باستمرار على ترددات محددة، وتقوم محطة أرضية بإرسال التصحيحات بشكل دوري، في حين أن النماذج الأولية للمستقبلات (التي يجب أن تُربط مع حواسيب كبيرة للغاية للحصول على نتائج حسابات دوبلر بسرعة) ستحاول حساب موضعها. لقد كان هذا العمل طموحاً للغاية بالنسبة لبرنامج وُلد في نفس السنة مع أول قمر اصطناعي أميركي (إكسبلورر-1)، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى المدار.

فكرة حديثة

إضافة إلى ما سبق، فقد فشلت عملية إطلاق النموذج الأولي في سبتمبر من العام 1959، وبالتالي لم يصل ترانزيت-1-بي إلى المدار إلا بعد أكثر من ستة أشهر، كان ذلك في 13 أبريل عام 1960. ولكن الباحثين كانوا قد أدوا عملاً جيداً، فقد كانت النظرية والحسابات صحيحة، غير أن الأمر كان يتطلب إرسال المزيد من الأقمار الاصطناعية إلى الفضاء. وهذا ما حدث في السنوات الثلاث الأولى من “سباق الفضاء“، الذي شهد تقدماً جيداً في العديد من البرامج التابعة للولايات المتحدة، حيث ازدهرت مشاريع مجموعات الأقمار الاصطناعية الصغيرة، التي كان بعضها مزوداً بقدرات رادارية، وبعضها الآخر يحمل بكرات من الأفلام الفوتوغرافية عالية الدقة، إضافة إلى أقمار أوسكار الاصطناعية لمشروع ترانزيت.

شكل توضيحي لترانزيت-4-إيه مع القمرين الاصطناعيين جريب 3 (في الأعلى) وإنجن (في الوسط) قبل الإطلاق. مصدر الصورة: مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز.

يتألف النظام من 5 أقمار اصطناعية عاملة، على ارتفاع 1,100 كيلومتر في مدار قطبي تام، أي أنها تمر تماماً فوق القطب، مع عدة وحدات احتياطية في حال حدوث عطل أو فشل الإطلاق. لقد كان من الضروري بناء هذه الأقمار بحجم صغير -وهي عملية لم تكن سهلة على الإطلاق- لأن الصواريخ التي تحمل هذه الجواهر التكنولوجية لم تكن قادرة على حمل أكثر من 100 كيلوجرام. وقد انطلق أول قمر اصطناعي عامل عام 1962، وبدأت البحرية الأميركية تستخدم تكنولوجيا ترانزيت بشكل منتظم في 1964.

الطاقة النووية لمساعدة ترانزيت

كانت الأجيال الأولى من الأقمار الاصطناعية التي أنتجتها الدول الفضائية تعاني من مشكلة متكررة، وهي كيفية الحصول على أفضل أداء مع إمكانية حملها على متن الصواريخ منخفضة القدرة. كانت الألواح الشمسية ما تزال في بداياتها، وكانت ضعيفة المردود وكثيرة الأعطال، كما أن البطاريات لم تكن بالمستوى المطلوب. لماذا لا نستخدم الطاقة النووية إذن؟ لقد كان ذلك القطاع في مرحلة الازدهار، وقد ظهرت أنظمة جديدة قادرة على توليد الكهرباء عن طريق استثمار حرارة كبسولات البلوتونيوم الموضوعة في مستوعبات مقفلة.

كان المجال النووي واعداً للغاية لدرجة أنه تم تركيب أولى أنظمة المولد الحراري الكهربائي (RTG) في النموذجين الأوليين ترانزيت-4-إيه وترانزيت-4-بي، غير أن قدرات هذا النظام كانت محدودة إلى حد بعيد، فلم تكن استطاعة التوليد تتجاوز 2.5 واط، أي أقل من نصف استطاعة منفذ ناقل تسلسلي عالمي (USB). غير أن هذا البحث كان ما يزال واعداً، وعلى الرغم من محدودية إنتاج البلوتونيوم، وحاجة ناسا إلى تجميع أكبر كمية ممكنة منه من أجل بعثاتها طويلة الأمد التي بدأت تظهر حينها، خصوصاً على القمر، فقد استُخدمت مفاعلات المولد الحراري الكهربائي من الجيل سناب 9 في عدة أقمار اصطناعية في نظام ترانزيت.

تفتخر شركة مارتن مارييتا (وهي الآن شركة لوكهيد مارتن) بتجميع القمر الاصطناعي ترانزيت-4-إيه، وهي أول شركة تتمكن من إدماج نظام نووي في قمر اصطناعي. مصدر الصورة: لوكهيد مارتن.

من سوء الحظ، فشلت عملية إطلاق أحد أقمار ترانزيت في 1964، ما أدى إلى تفتت المولد الحراري الكهربائي في الغلاف الجوي، ونثر كيلوجرام كامل من البلوتونيوم 238 في الغلاف الجوي لنصف الكرة الأرضية الشمالي. وعلى الرغم من أن الحدث لم يكن ذا أثر يُذكر من الناحية الصحية (وهو حدث تافه للغاية مقارنة باختبارات القنابل النووية)، فقد قررت البحرية الأميركية وداربا إبطاء نشر هذه التكنولوجيا، والتركيز على تحسين الألواح الشمسية بدلاً من ذلك.

ظهور جي بي إس

بقي نظام ترانزيت قيد الاستخدام من 1964 إلى 1996، وفي منتصف الثمانينيات، ظهرت مجموعة أخرى لكي تحل محله: جي بي إس. ولكن، ومن ناحية أخرى، كان هذا النظام فعالاً وسريعاً بالنسبة لذلك الوقت، حيث يمكن للمستقبِل الثابت أن يحدد موقعه على سطح الكوكب في أقل من دقيقتين، مع ارتياب لا يتجاوز 200 متر في دقة الموقع (لم يتجاوز هذا الارتياب قيمة 50 متر عملياً)، وقد كان هذا بمثابة إنجاز تكنولوجي في تلك الفترة، بما أن البحرية الأميركية استخدمته في البداية لمعايرة وحدات العطالة في الغواصات وتعديل إحداثيات الصواريخ البالستية التي تحملها، وكل ذلك خلال دقيقتين على سطح البحر وحسب.

جدير بالذكر أن المشكلة الوحيدة التي واجهت البرنامج في بداياته، هي أن حساب إزاحة دوبلر بسرعة كان يتطلب حاسوباً؛ حيث تعيّن إعادة تصميم طراز معين لتحقيق هذا الغرض، لأن الوحدات الحاسوبية -التي كانت في حوزة البحرية الأميركية في ذلك الوقت- كانت كبيرة للغاية ويستحيل إدخالها إلى الغواصات من الكوات. وفي بدايات الثمانينيات، بدأ استخدام ترانزيت في بعض التطبيقات المدنية، حيث سمح على سبيل المثال بإعادة حساب ارتفاع جبل إيفرست.