كيف أعادت بوتات الاستثمار الرقمية تشكيل سلوك المستثمرين؟

5 دقيقة
حقوق الصورة: Shutterstock.com/CHIEW

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتعقد التشريعات المالية والضريبية، وظهور تحديات إدارة الأموال الشخصية والتخطيط لفترة التقاعد، ازداد الاهتمام بخدمات المستشارين الماليين الذين أصبحوا ركناً أساسياً من أركان تطور المجتمعات واستقرار الأسر. وقد بدأت مهنة الاستشارات المالية تكتسب طابعاً مهماً، وشملت شريحة واسعة من ميسوري الحال الذين امتلكوا نسباً مرتفعة من الادخار والراغبين في امتلاك محافظ استثمارية تلبي متطلبات حياتهم. وعلى الرغم من المبادرات المجتمعية والحكومية الهادفة إلى تعزيز ديمقراطية الحصول على الاستشارات المالية من خلال افتتاح مكاتب ومؤسسات في هذا المجال، فإن شريحة واسعة من الأفراد، ولا سيما أصحاب الدخل المحدود وسكان المناطق المهمشة، لم يتمكنوا من الوصول إلى خدمات المستشارين الماليين، وبالتالي لم يتمكنوا من الاستفادة من فرص الاستثمار في الأسواق المالية، وهو ما أدى إلى تباين طبقي واضح داخل المجتمعات.

وفي الواقع، أخذ قطاع المستشارين يتجه تدريجياً نحو التمركز حول الأفراد من أصحاب الدخل المرتفع. فمن ناحية، يتطلب تأهيل المستشارين الماليين رحلة طويلة من التعليم والتدريب والاطلاع على النظريات الأساسية في التمويل والاستثمار، إلى جانب الإلمام بالقوانين الناظمة للمعاملات المالية، وكل ذلك يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع تكاليف الحصول على خدمات هؤلاء المستشارين. ومن ناحية أخرى، كانت المدخرات المرتفعة لدى الطبقة الميسورة أكثر جاذبية للمستشارين الماليين، ما أدى إلى تمركز استشارات بناء المحافظ الاستثمارية حول هذه الشريحة المجتمعية ميسورة الحال.

اقرأ أيضاً: العقود الذكية: مستقبل الأعمال بين القانون والتكنولوجيا الرقمية

نشأة بوتات الاستشارة المالية 

ومع تطور خدمات التمويل الإلكتروني وظهور خوارزميات التعلم الآلي، برزت أفكار تتعلق بإمكانية تقديم خدمات الاستشارات المالية عبر قنوات رقمية للأفراد. وفي الواقع مرت خدمات المستشارين الماليين الرقميين بأربع مراحل نقلتها من البساطة إلى الذكاء الاصطناعي المتقدم. في البداية، ومع الجيل الأول، كانت التجربة أشبه باستبيان إلكتروني يجيب عنه المستثمر ليحصل في المقابل على اقتراح لتوزيع محفظته الاستثمارية على عدد من الأدوات المالية المختلفة كالأسهم والسندات، مع ضرورة أن يتولى بنفسه إدارة تلك المحفظة وإجراء التعديلات اللاحقة. ومع الجيل الثاني، باتت العملية أكثر نضجاً، إذ أصبح المستشارون الماليون الرقميون قادرين على تحقيق توزيع أكثر فاعلية للمخاطر، وقدمت محافظ محددة مسبقاً لهذا الغرض، إلا أن التنفيذ العملي وتعديل الأصول كانا لا يزالان بحاجة إلى إشراف بشري.

ثم جاء الجيل الثالث ليحدث نقلة نوعية من خلال الاعتماد على خوارزميات أكثر تعقيداً، إذ لم يقتصر دوره على مراقبة الاستراتيجيات الاستثمارية الموضوعة مسبقاً، بل امتد ليقترح إعادة موازنة المحافظ، ويولد رسوماً بيانية وسيناريوهات مستقبلية تساعد المستثمر على استيعاب وضع محفظته الاستثمارية بدقة أكبر. ومع ظهور الجيل الرابع، دخل الذكاء الاصطناعي بقوة إلى المشهد، فحول الاستبيانات التقليدية إلى أدوات ذكية قادرة، إلى حد ما، على تقييم تفضيلات المستثمر وتحديد مستوى تحمله للمخاطر، ومن ثم توجيهه مباشرة إلى استثمارات تدار بخوارزميات ذاتية التعلم. ويتميز هذا الجيل بقدرته على أخذ ظروف السوق المتغيرة وتفضيلات كل مستثمر بعين الاعتبار، والعمل باستمرار على مراقبة المحافظ وتعديلها للحفاظ على التوازن بين العائد والمخاطر والسيولة.

ومع هذه النقلة النوعية، وعلى الرغم من أن الشركات العاملة في مجال الخدمات الاستشارية الرقمية تكون في الغالب على شكل موقع عبر الشبكة العنكبوتية أو تطبيق يُحمَّل على هاتف ذكي أو جهاز لوحي، فقد درجت العادة على إطلاق تسمية "بوتات الاستشارات المالية" على هذه الخدمات الرقمية. وفي الواقع، استطاعت هذه التكنولوجيا تقديم خدمات برسوم بسيطة جداً مقارنة بالمستشارين التقليديين، إذ وصلت هذه الرسوم أحياناً إلى أقل من 1% مقابل ما يقارب 5% في حالة المستشارين التقليديين، كما أتاحت هذه الروبوتات، في جيليها الثالث والرابع، الوصول إلى شريحة واسعة من أصحاب الدخل المحدود، ما أسهم في تمكين الأسر من إدارة أموالها بطريقة أكثر كفاءة. وعليه فعلى مستوى العالم، ووفقاً لموقع ستاتيستا Statista، ارتفعت الأصول المُدارة لدى المستشارين الماليين الآليين من 370 مليار دولار أميركي عام 2021 إلى 1372 مليار دولار أميركي عام 2023، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم ليصل إلى 2334 مليار دولار أميركي عام 2028.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يتسبب مساعدك الذكي بخسارتك مالياً؟ دراسة تكشف المخاطر

النواحي الإيجابية والتحديات في عالم بوتات الاستشارة المالية

وفي دراسة منشورة في دورية الاقتصاد المالي Journal of Financial Economics، درس باحثان من الولايات المتحدة الأميركية الدور الذي يؤديه أحد أكبر المستشارين الآليين في الولايات المتحدة على سلوك المستثمرين الذين اعتادوا إدارة محافظهم بأنفسهم. وأظهرت النتائج أن الاعتماد على هذه التكنولوجيا لا يقتصر فقط على تبسيط عملية الاستثمار، بل يعيد تشكيل المحافظ من جذورها، ويكون ذلك من خلال زيادة الاستثمار في المؤشرات وتقليص التحيزات، وهو ما ينعكس في النهاية على ارتفاع نسب العوائد المعدلة بالمخاطر. كما كشفت الدراسة أن الفئات الأكثر استفادة من هذا التحول هم المستثمرون الذين كانوا أقل استثماراً في الأسهم والأضعف في تنويع استثماراتهم. وإلى جانب تحسين الأداء المالي، يقلل المستشار الآلي الوقت الذي يقضيه المستثمر في متابعة محفظته وإدارتها بما يقارب ست ساعات سنوياً، ما يضيف بعداً عملياً. والأكثر لفتاً للانتباه أن هؤلاء المستثمرين، الذين يحصدون أكبر المكاسب، هم الأكثر استعداداً لاعتماد الخدمة والاستمرار فيها. 

وبصورة شاملة، وضحت الدراسة أن أدوات الاستثمار الرقمي يمكن أن تعزز رفاهية المستثمرين الأفراد، ليس فقط من خلال عوائد أفضل وتنويع أذكى، بل أيضاً عبر تحرير وقتهم وجهدهم ليكرسوه لأمور أخرى. وفي الدورية العلمية الآنفة الذكر نفسها، نشر فريق آخر من الولايات المتحدة الأميركية نتائج تجربة علمية ركزت على المستثمرين من الطبقة الوسطى وخلصت الدراسة إلى قدرة هذه البوتات على تعزيز شمولية نطاق الوصول إلى خدمة الاستشارة المالية من خلال خفض الحد الأدنى المطلوب لامتلاك حساب لمحفظة استثمارية، ما يزيد مشاركة المستثمرين من الطبقة المتوسطة ولكن ليس بالضرورة للفقراء. وعلى الرغم من المزايا التي قدمتها هذه البوتات، والتي كما ذُكر سابقاً اتخذت شكل منصات عبر الشبكة العنكبوتية أو تطبيقات تُحمَّل على الأجهزة الذكية واللوحية، واشتهرت بمسمى "بوتات المستشارين الماليين"، فقد نوه عدد من الدراسات إلى وجود إشكاليات تتطلب مزيداً من العمل لتجاوز حدود الأجيال الحالية، وبناء أجيال مستقبلية أكثر قدرة ومرونة مقارنة بالجيل الراهن.

ففي دراسة منشورة في دورية الإدارة المالية الأوروبية European Financial Management، درس باحثون من ألمانيا 15 مستشاراً رقمياً من ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وتوصل الباحثون إلى أن الاختلافات بين هذه البوتات ترتبط في الأساس بطبيعة الشركة ونموذج العمل الذي تتبعه أكثر من أي عوامل أخرى. بمعنى أن نماذج الأعمال قد تؤدي إلى أنماط متميزة في بلد ما مقارنة ببلد آخر. وفي السياق الدولي ذاته، نُشرت دراسة في دورية أبحاث الأعمال قارنت التفاعل وبناء الثقة في هذه البوتات بين مجموعة من المستثمرين الشباب في كل من السويد وماليزيا. وقد خلصت الدراسة إلى وجود فروق جوهرية لافتة للنظر بين هاتين البيئتين، كما وجدت أن للثقافة تأثيراً كبيراً في طريقة تفاعل المستثمرين الشباب مع هذه التكنولوجيا، إذ أظهر الشباب المستثمرون في السويد اهتماماً أكبر بالأسعار، بينما ركز نظراؤهم في ماليزيا على توصيات أقرانهم ومجتمعاتهم لاستخدام هذه التكنولوجيا من عدمها. ومن خلال هذه الدراسات وغيرها في السياق ذاته بدأت تتشكل وجهات نظر حول ضرورة أخذ التفضيلات الخاصة بالأسواق والطبيعية المجتمعية في تطوير الأجيال القادمة من هذه البوتات، بمعنى آخر لكل مقامٍ مقال.

وتبقى رحلة تطوير هذه التكنولوجيا محل اهتمام بالغ من كبرى المؤسسات العالمية، التي تسعى إلى ابتكار نماذج قادرة على كسب ثقة المستثمرين لبناء محافظهم الاستثمارية. وتتيح الأجيال الحديثة من الذكاء الاصطناعي مجالاً واسعاً لتطوير أجيال جديدة من هذه البوتات التي قد تصبح قادرة على خدمة شرائح مجتمعية مختلفة كالأفراد من أصحاب المعرفة المالية المتواضعة أو الشباب، وربما حتى على استيعاب الاعتبارات الثقافية المتنوعة. وحتى ذلك الحين، يظل هذا القطاع مجالاً واعداً للاستثمار، وبيئة خصبة لتطوير أفكار وشركات ناشئة.

المحتوى محمي