باحثون يستخدمون الكوكب بأسره كعدسة عملاقة لتلسكوب جديد

3 دقائق
تيراسكوب: إمكانية استخدام الغلاف الجوي للأرض كعدسة عملاقة.

ليست التلسكوبات بالأنظمة زهيدة الثمن على الإطلاق؛ حيث إن تلسكوب ماجلان العملاق، والذي يتم بناؤه حالياً في صحراء أتاكاما في تشيلي، سيكون مزوداً بمرآة بقطر 25 متراً بتكلفة مليار دولار تقريباً. أما تلسكوب الثلاثون متراً TMT الذي اقتُرح بناؤه في ماونا كيا في هاواي، فقد وصلت كلفته التقديرية إلى ملياري دولار. ومع كل هذه التكاليف، فإن التلسكوبات الفضائية تُعد أكثر تكلفة؛ حيث إن تلسكوب جيمس ويب الفضائي الذي سيحل محل التلسكوب هابل في 2021 بعد طول انتظار، والذي يحمل عدسة بقطر 6.5 متر، يتميز بفاتورة مرعبة تجاوزت 10 مليارات دولار.

ولهذا يحاول الفلكيون إيجاد أساليب مبتكرة وجديدة لالتقاط صور للفضاء من دون تحميل الأرض الكثير من التكاليف.

وهنا يأتي دور ديفيد كيبينج في جامعة كولومبيا بنيويورك، الذي اقترح مؤخراً استخدام الغلاف الجوي للأرض لتركيز الضوء الفلكي، وتقوم فكرته على استخدام الكوكب بأسره كعدسة عملاقة ووضع تلسكوب فضائي في محرقها لالتقاط الصور المطلوبة. وسيتمتع هذا التلسكوب -الذي يحمل اسم: تيراسكوب- بقدرة على جمع الضوء تضاهي تلسكوباً أرضياً عادياً بمرآة يبلغ قطرها 150 متر، وبجزء بسيط من التكاليف.

لنطلع أولاً على بعض الأساسيات؛ حيث عرف الفلكيون منذ زمن أن الغلاف الجوي يحني الضوء الذي يمر عبره، كما كتب كيبينج: "تظهر الشمس الغاربة في موضع أعلى من موضعها الفعلي بحوالي نصف درجة بسبب هذا التأثير".

تقوم الفكرة على الاستفادة من هذا التأثير على مستوى الكوكب بأكمله، كما يضيف كيبينج: "إذا وضعنا مراقباً على مسافة تساوي أو تزيد عن المسافة بين الأرض والقمر، فسوف يصبح بإمكانه استخدام الأرض كعدسة كاسرة للضوء".

تتصف هذه العدسة بتركيب معقد، ولهذا أمضى كيبينج وقتاً لا يستهان به في دراسة ومحاكاة خصائصها وكيفية استخدامها في التيراسكوب العملاق، وواجه العديد من التحديات؛ حيث إن الغلاف الجوي -بداية- يحني أو يكسر ضوء النجوم أثناء مروره عبره، ولكن مقدار الانكسار يعتمد على كثافة الغلاف الجوي، التي تتغير حسب الارتفاع عن سطح الأرض، أي أن الضوء الذي يمر سطحياً عبر الطبقات العليا من الغلاف الجوي سينكسر بشكل أقل من الضوء الذي يخترقه إلى عمق أكبر.

ولكن هناك العديد من العوامل التي تحدّ من عمق اختراق الضوء للغلاف الجوي، وأكثرها وضوحاً بطبيعة الحال هو أن الأرض نفسها تحجب الضوء؛ غير أن الغيوم تمتص الضوء أيضاً، ولهذا يجب أن يكون الضوء المنكسر مرتفعاً بما فيه الكفاية حتى لا تعترض الغيوم طريقه.

ومن العوامل الهامة الأخرى هي أن الغلاف الجوي -بما يحويه من رذاذ وغير ذلك- يمتص الضوء عند ترددات محددة، ولهذا توجب على كيبينج أن يحسب مقدار الخسارة في هذه العملية.

كما أن الغلاف الجوي يصدر وهجاً خفيفاً، مما قد يؤدي إلى كتم الضوء القادم من مصادر فيزيائية فلكية بعيدة. وينتج هذا "التوهج الهوائي" عن عمليات مثل إعادة تشكيل الجزيئات التي تفككت بسبب ضوء الشمس، ما يعني أن سماء الليل لا تصل أبداً إلى مرحلة الظلام الكامل. ولكن كيبينج يشير إلى إمكانية حجب معظم هذا الضوء باستخدام جهاز مراقبة طفاوة الشمس، وهو بشكل أساسي قرص صغير يقوم بحجب توهج الأرض عن التيراسكوب، وحتى حجب الوهج الناتج عن الطبقات الدنيا من الغلاف الجوي، حيث لا يوجد أثر عدسي مفيد.

من المتغيرات الأخرى هي تمدد وتقلص الغلاف الجوي حسب درجة الحرارة، وهو ما قد يغير من البعد المحرقي للتيراسكوب، ولهذا فإن إيجاد المدار الأمثلي للتلسكوب الفضائي المستخدم في التيراسكوب أمر هام للغاية.

درس كيبينج هذه العوامل وغيرها، وتشير حساباته إلى أن تلسكوباً فضائياً بعدسة قطرها متر واحد يدور على بعد 360,000 كيلومتراً -أي أقرب بقليل من القمر- سيحقق أفضل النتائج. ويمكن لهذا الجهاز أن يجمع الضوء الذي يخترق الغلاف الجوي للأرض لمسافة لا تزيد عن 14 كيلومتراً، بحيث يبقى فوق الغيوم.

وباستخدام الكوكب كعدسة، سيتم تضخيم الضوء المركز إلى 45,000 ضعف خلال فترة تعرّض تبلغ 20 ساعة، وهو ما يكافئ التضخيم الذي يحققه تلسكوب أرضي بعدسة يبلغ قطرها 150 متراً.

وقد استنتج كيبينج أن التيراسكوب يحمل إمكانيات كامنة كبيرة. وعلى الرغم من أنه لم يحسب تكلفة نظام كهذا، فقد أشار إلى أن تلسكوباً أرضياً بعدسة قطرها 100 متر سيكلف حوالي 35 مليار دولار، وهو ما يتجاوز مجموع ميزانيتي ناسا والمؤسسة العلمية الوطنية.

ولكن، هل من الممكن بناء وإطلاق وتشغيل تلسكوب بعدسة بقطر متر واحد على بعد 360,000 كيلومتر من الأرض؟

ربما. فقد كان التلسكوب الفضائي كيبلر من أنجح المراصد في السنوات الأخيرة، حيث كان يبحث عن الكواكب المشابهة للأرض حول نجوم أخرى، واكتشف العديد منها. وهو يدور حول الشمس بدلاً من الأرض، أي أنه يبعد عن الأرض أكثر من 150 مليون كيلومتر، وقد دامت بعثته أكثر من تسع سنوات حتى نفد الوقود منه، ولم تتجاوز التكاليف 550 مليون دولار. وإذا اعتمدنا هذه الأرقام كمؤشرات، فقد يمثل التيراسكوب فرصة مالية جيدة.

المرجع: arxiv.org/abs/1908.00490:
التيراسكوب: أحد احتمالات استخدام الغلاف الجوي للأرض كعدسة.

المحتوى محمي