في عام 2018، اكتشف صحفي منصة موذر بورد (Motherboard)، سام كول، زاوية جديدة ومثيرة للقلق على الإنترنت؛ حيث كان أحد مستخدمي ريديت، واسمه ديب فيكز (deepfakes) [أي: التزييف العميق]، ينشر مقاطع فيديو إباحية مزيفة إكراهية باستخدام خوارزمية ذكاء اصطناعي لوضع صور وجوه المشاهير في مقاطع إباحية حقيقية. دق كول ناقوس الخطر بشأن هذه الظاهرة في وقت كانت فيه تكنولوجيا التزييف العميق توشك على الانفجار. بعد ذلك بعام، كانت المواد الإباحية عميقة التزييف قد انتشرت على منصات أخرى بالإضافة إلى ريديت، مع تطبيقات متاحة بسهولة وقادرة على “تجريد” صورة أي امرأة من ملابسها.
منذ ذلك الحين، كان من الطبيعي أن تكتسب تقنية التزييف العميق سمعة سيئة. ولا يزال استخدام المواد عميقة التزييف مقتصراً في الغالب على إنشاء مواد إباحية مزيفة. وقد تسببت هذه الممارسة في مضايقات شديدة وإسكات مؤقت لصحفية استقصائية. وفي وقت لاحق، أدت إلى تخويف شاعرة وروائية والتشهير بها. علاوة على ذلك، هناك تهديد آخر يمثله استخدام التزييف العميق لأغراض سياسية من خلال قدرتها على توليد أخبار كاذبة مقنعة قد تؤدي إلى نشر الفوضى في الأوساط السياسية غير المستقرة.
بيد أن تنامي قدرات خوارزميات معالجة واصطناع الوسائط قد أفسح المجال لظهور تطبيقات مفيدة وأخرى مضحكة أو عادية. نستعرض معكم في هذه المقالة بعضاً من تفضيلاتنا لهذه التطبيقات بترتيب زمني تقريبي، والأسباب التي تدفعنا للاعتقاد بأنها تقدم نظرة استشرافية لمستقبل هذه التكنولوجيا.
حماية المبلغين عن المخالفات
في يونيو، أصبح فيلم تشيشينيا (Chechyna) -وهو فيلم استقصائي حول الاضطهاد الذي يتعرض له أفراد مجتمع إل جي بي تي كيو (LGBTQ) في الجمهورية الروسية- أولَ فيلم وثائقي يستخدم تقنية التزييف العميق لحماية هويات المشاركين فيه. كانت الشخصيات الرئيسية في الفيلم من النشطاء المناهضين للاضطهاد والذي عاشوا حياتهم مختبئين لتجنب التعرض للتعذيب أو القتل. وبعد أن جرّب مخرج الفيلم، ديفيد فرانس، العديد من الأساليب، قرر استخدام “أغلفة” تزييف عميق لإخفاء هوياتهم؛ حيث طلب من نشطاء آخرين في هذا المجتمع من جميع أنحاء العالم أن يعيروه صور وجوههم لاستخدامها في تعديل صور وجوه الأشخاص المشاركين في فيلمه. سمحت هذه التقنية لفرانس بالحفاظ على سلامة تعبيرات وجوه رعاياه وبالتالي آلامهم وخوفهم وإنسانيتهم. وفي المحصلة، نجح الفيلم في حماية 23 شخصاً، ليكون أول فيلم يوظف شكلاً جديداً من أشكال حماية المُبلغين عن المخالفات.
التاريخ التنقيحي
في يوليو، أطلق باحثان من إم آي تي، وهما فرانشيسكا بانيتا وهالسي بورجوند، مشروعاً لإنشاء تاريخ بديل لهبوط أبولو على سطح القمر عام 1969. يستخدم المشروع -المسمى “في حالة وقوع كارثة على سطح القمر”- الخطابَ الذي كان من الممكن أن يلقيه الرئيس ريتشارد نيكسون لو لم تجرِ عملية الهبوط التاريخية حسب الخطة. لجأ الباحثان إلى إقامة شراكة مع شركتين منفصلتين من أجل إجراء التزييف العميق للصوت والفيديو، واستعانا بممثل لأداء الحركات “الأساسية”. ثم قاما بمعالجة صوته ووجهه باستخدام نوعين من البرمجيات، وربطوهما معاً لإنتاج نسخة عميقة التزييف من الرئيس نيكسون.
بينما يوضح هذا المشروع كيف يمكن أن تساعد تقنية التزييف العميق في تقديم سرد تاريخي بديل، هناك مشروع آخر يقدم كيفية توظيف التزييف العميق في إعادة أحياء التاريخ الحقيقي. في فبراير، أعادت مجلة تايم إنشاء مسيرة مارتن لوثر كينغ الابن إلى واشنطن باستخدام تقنية الواقع الافتراضي لإغراق المشاهدين في المشهد. ورغم أن هذا المشروع لم يستخدم تقنية التزييف العميق، لكن شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة تينسنت استشهدت به لاحقاً في ورقة بيضاء حول خططها للذكاء الاصطناعي، قائلة إنه يمكن استخدام تقنية التزييف العميق لأغراض مماثلة في المستقبل.
الميمات
مصدر الفيديو: إم إس تك | نيوريبس (مجموعة بيانات التدريب)؛ تقدمة الصور: هاو
في أواخر الصيف، وضع هواة تصميم الميمات أيديهم على تقنية التزييف العميق سهلة الاستخدام وأطلقوا نتائج إبداعاتهم في الفضاء الرقمي. وإحدى هذه الميمات على وجه الخصوص، باكا ميتاي (Baka Mitai) (في الصورة أعلاه)، حققت انتشاراً سريعاً بعد أن تعلم الناس كيفية استخدام هذه التكنولوجيا لإنشاء إصداراتهم الخاصة من ذلك الميم. ويعود الفضل في تسارع إنتاج الميمات إلى خوارزمية محددة من ورقة بحثية صدرت عام 2019 تسمح للمستخدم بتحريك صورة لوجه شخص ما ضمن فيديو لشخص آخر. ومع أن التأثيرات المرئية في هذه الميمات لا تتمتع بجودة عالية بأي مقياس، ولكنها بالتأكيد تنتج مستوى عالياً من الترفيه. لا يمكن اعتبار هذه الظاهرة أمراً مفاجئاً تماماً؛ فقد كان أسلوب التلاعب والمحاكاة الساخرة قوة دافعة في الترويج للتزييف العميق والأدوات الأخرى للتلاعب بالوسائط. لهذا السبب يؤكد بعض الخبراء على ضرورة إقامة حواجز حماية لمنع السخرية من التحول إلى إساءة.
الإعلانات الرياضية
https://www.youtube.com/watch?v=G3QktOFoDK4
في ظل الجداول الزمنية المزدحمة لنجوم الرياضة من المشاهير، يغدو من الصعب جمعهم في غرفة واحدة ووقت واحد. وأصبح ذلك مستحيلاً في خضم عمليات الإغلاق. لذلك عندما ترغب في تصوير إعلان تجاري في لوس أنجلوس يظهر فيه أشخاص ملتزمون بفقاعات الحجر الصحي في جميع أنحاء البلاد، فإن الخيار الوحيد للقيام بذلك تتمثل في استخدام تقنيات التزييف.
في أغسطس، نشر موقع البث هولو (Hulu) إعلاناً للترويج لعودة الرياضة إلى قائمة خدماتها من بطولة لاعب دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين داميان ليلارد، ولاعبة الدوري النسائي لكرة السلة سكايلار ديجينز سميث، ولاعب الهوكي الكندي سيدني كروسبي. وفي الإعلان نشاهد هؤلاء النجوم يتخلون عن خبز العجين المخمر ويعودون إلى ممارسة رياضاتهم ليلعبوا بكرات السلة وعصي الهوكي. إلا أنهم في الواقع لم يقوموا بكل ذلك؛ إذ تم تركيب وجوه أولئك النجوم على ممثلين بدلاء باستخدام تقنية التزييف العميق. وتم تدريب الخوارزمية على لقطات للاعبين تم تصويرها عبر تطبيق زوم.
ورغم استخدام أساليب التلاعب الحاسوبية لتزييف هذا النوع من الإعلانات لسنوات، لكن تقنية التزييف العميق تجعل المهمة أسهل وأرخص من أي وقت مضى. أضف إلى ذلك أن انتقال الناس إلى القيام بكل شيء عبر الإنترنت هذا العام قد منح هذه التكنولوجيا زخماً جديداً. لم يكن موقع هولو الوحيد الذي يلجأ لاستخدام هذه الطريقة؛ حيث أجرى معلنون آخرون أيضاً، بما في ذلك إي إس بي إن (ESPN)، تجارب لاستخدام تقنية التزييف العميق.
الحملات السياسية
في سبتمبر، خلال الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية، أصدرت مجموعة المدافعة غير الحزبية ريبيريزنت أس (RepresentUs) إعلانين يستخدمان تقنية التزييف العميق. ويظهر فيهما نسختان مزيفتان من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يوجهان نفس الرسالة ومفادها أن أياً منهما لا يحتاج إلى التدخل في الانتخابات الأميركية؛ لأن أميركا ستدمر ديمقراطيتها بنفسها.
لم يكن ذلك أول استخدام للتزييف العميق خلال حملة سياسية؛ ففي فبراير، استخدم السياسي الهندي مانوج تيواري تقنية التزييف العميق في مقطع فيديو ترويجي ليبدو كما لو كان يتحدث الهاريانفي، اللهجة الهندية التي يتحدث بها ناخبوه المستهدفون. لكن مجموعة ريبريزنت أس نجحت بجدارة في قلب سيناريو السرد المعتاد حول استخدام التزييف العميق لأغراض سياسية؛ ففي حين يقلق الخبراء غالباً بشأن قدرة التكنولوجيا على زرع الارتباك وتعطيل الانتخابات، سعت المجموعة إلى توظيفها لغرض معاكس تماماً؛ ألا وهو التوعية بقمع الناخبين لحماية حقوق التصويت وزيادة الإقبال على الانتخابات.
العروض التلفزيونية
إذا كنت قد بدأت تألف استخدام التزييف العميق في الإعلانات التجارية والمقالب الفريدة، فليس هناك أفضل من صانعي مسلسل ساوث بارك للذهاب بهذه التكنولوجيا إلى أقصى الحدود. في أكتوبر، أطلق تري باركر ومات ستون أول عرض تلفزيوني جديد لهما، ساسي جاستس (Sassy Justice)، وهو أول برنامج تلفزيوني قائم على تقنية التزييف العميق.
يدور العرض الساخر الأسبوعي حول شخصية ساسي جاستس، وهو مراسل إخباري محلي تم استخدام تقنية التزييف العميق لمنحه وجه ترامب. وفيه، يجري ساسي مقابلات مع شخصيات عميقة التزييف مثل جاريد كوشنر (مع وضع وجه كوشنر على جسم طفل) وآل غور.
وقد نجح برنامج ساسي جاستس في تجاوز استخدام التزييف العميق كوسيلة للتحايل التسويقي أو لخداع الخبيث ليرتقي به ويحوله إلى اتجاه ثقافي سائد. ولا يقتصر النجاح على التكنولوجيا المستخدمة في إنشاء شخصيات البرنامج، بل في موضوع السخرية نفسها؛ ففي الحلقة الأولى من البرنامج، يقوم ساسي “ترامب” جاستس، الذي يلعب دور المدافع عن المستهلكين، بتقصي الحقيقة وراء “الأخبار عميقة التزييف”.