نشرة خاصة من ماكنزي
يجد مخططو المشتريات والتوريد أنفسهم هذه الأيام في وضع لا يُحسدون عليه؛ حيث تقع على عاتقهم مهمة إرضاء الزبائن الذين وصلوا إلى مستوى غير مسبوق من متطلباتهم من حيث توافر البضائع، ونضارتها، وتنوعها. ويؤدي تجاهل هذه التوقعات إلى خطر داهم، فالمنافسة شرسة، وتدفع بكل المشاركين في السوق إلى البحث عن التحسينات بشكل متواصل. وبالنسبة لمن يتمسكون بأساليب العمل القديمة، يستحيل عليهم إحراز أي تقدم ملحوظ من دون تكاليف تراكم البضائع، وزيادة عمليات الشطب، وتفاقم تعقيد سلاسل التوريد.
وداخلياً، يجد المخططون أنفسهم في أغلب الأحيان في صراع دائم مع الأنظمة التقنية التي تعمل بمعزل عن بعضها البعض، ومصادر المعلومات غير الموثوقة، وفي بعض الأحيان، العمليات التي تتصف بطابع يدوي وضعيف التنسيق إلى حد كبير. هذا بالإضافة إلى أن التوقعات تعاني من نقص كبير في الدقة، كما أن مصاريف العاملين تصل إلى مستويات كبيرة. أما خارجياً، فإن المخططين يواجهون عروضاً ضخمة من مزودي الخدمات الرقمية، الذين لن يستطيعوا تقديم معلومات هامة إلى تجار التجزئة إذا لم يغيروا من نماذج العمل، على الرغم من قدرتهم على معالجة كميات هائلة من البيانات باستخدام حلولهم.
غير أن المستقبل سيكون على الأرجح مختلفاً للغاية، ويكفي أن نلقي نظرة تجاه مبيعات التجزئة على الإنترنت حتى يتكشف لنا ما سنراه لاحقاً؛ حيث تعمل الشركات الكبيرة على تطوير أنظمة تخطيط عالية التكامل تعتمد على أكثر الحلول المتوافرة تطوراً في مجالي التحليل والذكاء الاصطناعي. يُشار إلى هذه الأساليب ذات الطابع التقني المتطور بمصطلح "التخطيط المسبق"، وسيُعتمد عليها في المستقبل لتسيير عمل تجارة الأغذية بالتجزئة أيضاً. وتفرض هذه الأساليب متطلبات دقيقة على الشركات، حيث تتطلب الاعتماد على مصادر تتألف من كامل كمية معلومات التعاملات إضافة إلى المعاملات الخارجية. وسيحتاج تجار التجزئة إلى مجموعة عمليات جديدة تماماً، وإمكانات جديدة، واستطاعة حوسبة أكبر، وخوارزميات متطورة.
وستكون الأرباح من نصيب من يقومون بتأسيس التخطيط المسبق في منظماتهم بشكل جيد. وعلى غرار اليد الخفية، يعمل النظام بشكل آلي ومؤثر وفعال. ولا يحتاج المخططون إلى التدخل إلا في حالات استثنائية للتحقق من سير العمل وإجراء بعض التصحيحات. إضافة إلى ذلك، يحسن النظام من دقة التوقعات؛ حيث إنه لا يعتمد على عدة مصادر بيانات وحسب، بل يصل فيما بينها أيضاً باستخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. وفي نفس الوقت، يسمح التخطيط المسبق بزيادة تكامل إدارة البضائع والتوريد واللوجستيات والتسويق والمبيعات، مما يؤدي إلى تحسينات كبيرة في الفعالية ونمو في المبيعات. وبفضل هذا النظام، سيصبح النقل اليدوي بين الأنظمة شيئاً من الماضي، وستتوقف مقاطعة سلاسل التوريد، وستبقى البيانات متسقة فيما بينها.
مناطق التطبيق عبر كامل سلسلة التوريد
يستطيع تجار التغذية بالتجزئة تطبيق التخطيط المسبق عملياً على جميع النشاطات على كامل طول سلسلة القيمة (الشكل 1)، مع التركيز على تحسين توقع الطلب، الذي يسمح بتحسين تخطيط عمليات المتجر أو التزايد المستدام في النوعية وفترة حياة المنتجات الطازجة على رفوف العرض.
تحسين توقع الطلب: توصل كبار تجار التجزئة إلى خوارزميات تستطيع البرمجيات استخدامها لأتمتة العمليات عن طريق "التعلم" من البيانات، وكذلك من دون الاعتماد على البرمجة المبنية على قواعد ثابتة. وهذا يؤدي إلى التحديد والأمثلة المستمرة لجميع المعاملات التي تؤثر على إدارة تجديد المواد، بشكل إفرادي على مستوى المادة ومستوى المتجر. وغالباً ما يؤخذ بعين الاعتبار أكثر من 50 معاملاً ضمن التحليل، مثل الأسعار وترويج المبيعات (بما فيها تلك التابعة للمنافسين)، والمزاحمة الذاتية، وظروف الطقس المحلية، وأوقات فتح المتجر، والعطل، وبشكل مفصل أكثر بكثير من الأنظمة المعتادة. ويؤدي هذا إلى توقعات مبيعات أكثر دقة وطلبات أكثر فعالية من حيث التكاليف. وعند استخدام هذه الأنظمة للتوقع، يورد تجار التجزئة انخفاضاً بنسبة 25% في نقص البضاعة ضمن مجموعة المنتجات الطازجة، ونقصاً بنسبة 10% على الأقل في الحسميات، وارتفاعاً في هوامش الربح يصل إلى 9%، وتحسناً في زمن البقاء في التخزين. وفي نفس الوقت، تنخفض تكلفة تخطيط التخزين بنسبة تصل إلى 30% بسبب ارتفاع درجة الأتمتة.
تحسين عمليات المتجر: يساعد التخطيط المسبق أيضاً على تحسين تخطيط العمل في المتجر. ويعود هذا إلى أن النظام يظهر مقدار العمل المطلوب فعلاً في أية فترة من الوقت، مثل محاسبة الزبائن أو ملء الرفوف بالبضائع ضمن أقسام المخزن. إضافة إلى هذا، فإن التوقع الدقيق يساعد على تخفيض التخزين في مخازن البضاعة للمتجر إلى حد كبير، ويؤدي هذا إلى تخفيف الحركة بين الرفوف وغرف التخزين. ويتم تضخيم هذا التأثير عند تعديل مساحة الرف المخصصة لكل قطعة وفق توقع الطلب، مما يحول الرفوف أنفسها من الناحية العملية إلى مساحة تخزين فعالة.
تحسين نوعية المنتجات الطازجة وتخفيف الهدر: بفضل تحسين دقة التوقعات، يستطيع تجار التجزئة الآن طلب البضائع من المزودين في وقت أبكر وبدقة أعلى. ويؤدي هذا إلى تقليل عدد المنتجات الطازجة غير المبيعة. ويعني تحسن التوقع أيضاً زيادة وثوقية التخطيط بالنسبة للمزودين، حيث يستطيعون جمع منتجاتهم بحيث توافق الطلب، وهو ما يخفض الزمن ما بين الحقل والرف. ولهذا يستطيع تجار التجزئة زيادة مستوى نضارة المنتجات وتخفيف الهدر بنسبة تصل إلى 30%.
على ضوء هذه الإمكانيات، بدأ الكثير من تجار الأغذية بالتجزئة يُبدون اهتماماً كبيراً بالتخطيط المسبق، غير أنهم ما زالوا يعانون مع تأثيرات تطبيق هذا التخطيط على شركاتهم. وعلى سبيل المثال، فإن هذا الموضوع يقع أغلب الوقت ضمن صلاحيات قسم تنفيذي واحد فقط، وعادة ما يكون قسم التقانة أو اللوجستيات أو التوريد. وما ينقص الآن هو دمج الطريقة الجديدة ضمن نموذج العمل لكامل المنظمة، مع التعديلات الموافقة ضمن كل العمليات. وغالباً ما تقصر الأقسام الأخرى في تقديم الدعم اللازم، لأنها تميل -على المدى القصير- إلى اعتبار النظام الجديد بشكل أساسي بمنزلة اختلال يصيب عملياتها ومبيعاتها الأسبوعية. ويمكن لعوامل كهذه أن تجعل من التطبيق الكامل للتخطيط المسبق عملية طويلة وصعبة للغاية بالنسبة لأغلب مؤسسات التجزئة.
كما أن الاختيار ما بين التخطيط بشكل ذاتي أو الاعتماد على مؤسسات مختصة بالتخطيط يمثل تحدياً آخر؛ إذ لا تمتلك أغلب مؤسسات التجزئة القدرةَ والإمكانات اللازمة لتطوير حلول تخطيط مسبق بشكل فعال بنفسها، وإذا اختارت حلولاً خارجية، فعليها أن تتعامل مع عمليات توازن صعبة بين عدة عوامل متضاربة؛ فمن ناحية، قد يكون من المثير للاهتمام اختيار مزود خدمة صغير وجديد ويقدم حلولاً مبتكرة، ولكن من ناحية أخرى، فإن المزودين الأكبر والأكثر عراقة يقدمون في أغلب الأحيان حلولاً براجماتية، وإن كانت أقل ابتكاراً، تناسب الكثير من الوظائف. ويواجه الكثير من تجار التجزئة صعوبات جمة حتى في التوصل إلى تقييم معقول لقدرات كل مزود على حدة.
العوامل الأربعة للنجاح
إن التحسينات الممكنة هائلة لدرجة أن التغلب على المشاكل آنفة الذكر يستحق العناء، كما أن التجارب المبكرة تبين أن التخطيط المسبق يقود إلى النجاح في مجال تجارة الأغذية بالتجزئة إذا تمكنت الشركات من تحقيق أربعة شروط مسبقة.
- تحديد الطريق مسبقاً بشكل واضح وشامل: يجب أن تكون أمثلة التخطيط أحد الأهداف الشاملة للشركة، ولهذا يجب أن تكون مدمجة بشكل إستراتيجي. إن التكنولوجيا هي التي تدعم التحول الإستراتيجي، لا العكس. وهذا يتطلب التزام الإدارة العليا وأقسام المنظمة على وجه الخصوص بتقديم الدعم اللازم، وهو أمر ضروري تحديداً عندما تؤدي النكسات الأولية إلى حالة من الشك.
- استخدام أحدث التقنيات: من أهم عوامل النجاح اختيار برامج التخطيط، ودقة إدماجها ضمن وحدات المنظمة، ولهذا يجب على الشركات أولاً وضع مسودة للمتطلبات التي تحقق حاجاتها. ويمكن أن تساعد البرامج التجريبية والخبرات المكتسبة من المتاجر الأخرى على التسهيل من عملية الاختيار، أي أن البرنامج يمثل نهاية هذه العملية، لا بدايتها.
- الالتزام الكامل بتحويل نموذج العمل: لا يمكن تحقيق النتائج الكاملة إلا عندما تخضع العمليات والهيكليات ومهارات الموظفين إلى تحولات شاملة. ومن أجل رفع نموذج العمل إلى هذا المستوى المسبق، يجب أن يُعاد تصميم العمليات، ويعاد وضع المقاييس، وتُعدل الأهداف وحوارات الأداء للموظفين، إضافة إلى تأسيس أدوار جديدة، وإعادة توزيع المسؤوليات في العمليات، وبناء الإمكانات المطلوبة، وتوظيف الأخصائيين المطلوبين.
- إدارة مكثفة للتغيير: يؤثر التحول الناتج عن التخطيط المسبق على الكثير من الجهات المعنية، ويؤدي إلى مجموعات من المتطلبات الجديدة. وغالباً ما تكون استجابة الجهات التي ستتأثر بهذا التحول هي التشكيك في جدواه، بل حتى معارضته دون مواربة؛ ولهذا فإن من الهام على وجه الخصوص أن تُشرح الفوائدُ المتوقعة لجميع المعنيين، وذلك لإثارة حماستهم للنظام الجديد، والاحتفال بالنجاحات المبكرة بشكل واضح.
وباجتماع هذه العوامل الأربعة للنجاح، يستطيع تجار التجزئة الاستفادة إلى أقصى حد من القدرات التقنية التي يؤمنها التخطيط المسبق، وبالتالي إطلاق كامل القدرات الكامنة للأداء (الشكل 2).
ثلاث خطوات نحو النجاح
إذن من أين يجب أن يبدأ تجار التجزئة؟ أثبتت إحدى الطرق -التي تتألف من ثلاث خطوات- نجاحها في هذه المسألة. تقوم الخطوة الأولى على تحليل تفصيلي لعملية التخطيط الحالية: من يشارك في العملية؟ ما الأدوات المستخدمة؟ ما درجة الأتمتة الحالية؟ ما مشاكل الجودة، مثل مشاكل التوافر وكميات البضائع؟ بمجرد أن يجاب عن هذه الأسئلة، يصبح من الممكن تطوير حالات استخدام محددة. وما يهم في هذه المرحلة هو التوجه الواضح نحو التأثير في الأعمال، إضافة إلى فهم دقيق لآثار التغييرات الجديدة على مختلف العمليات والبِنى والموظفين المعنيين.
وفي الخطوة الثانية، يجب أن تُقيّم حالات الاستخدام وفقاً لقدرتها على تحسين الدخل والهوامش والتكاليف والبضائع، ويتم تقدير كلفة التطبيق. وبدءاً بحالات الاستخدام المفضلة، تقوم الشركة بصياغة رؤيتها للتخطيط المسبق. وبعد ذلك، يجب أن تُضمن استدامة النظام بمساعدة حالة أعمال مستقرة. وفي هذا السياق، يجب أن تحاول الشركة أن تجمع بشكل متوازن ما بين الأرباح السريعة والتحسينات بعيدة الأمد.
أما في الخطوة الثالثة، فيجب تجريب أساليب التخطيط الجديدة في حالة استخدام أو حالتين، مثل تخطيط الخضار والفواكه، وتجديد البضائع المؤتمت. ويهدف هذا إلى اختبار التحسينات الممكنة للتخطيط المسبق بشكل عملي. وعند تصميم البرامج التجريبية، يُنصح بالاعتماد على مقاربة براغماتية تقوم على الاختبار والتعلم؛ حيث إن الهدف ليس التوصل إلى تصميم مثالي في اليوم الأول، بل تعديل وتحسين العمليات بشكل سريع ومتواصل مع اكتساب الخبرات. ويجب أيضاً على التوازي تعديل نموذج التشغيل حتى يناسب المتطلبات الجديدة، وبناء المعرفة الرقمية المطلوبة. وغالباً ما يُستخف بالنقطة الأخيرة، على الرغم من أن الدراسات الحديثة تبين أن هذه العوامل النظرية تقود إلى الفشل في التحول الرقمي أكثر من المشاكل في التقنيات أو جودة البيانات.
وما أن تُستكمل البرامج التجريبية، تصبح المنظمة جاهزة للإطلاق على نطاق أوسع. ولهذا يجب تعديل خطة العمل حتى تأخذ بعين الاعتبار الخبرة المكتسبة أثناء التجارب. وبعد ذلك، تُطبق آلية التخطيط الجديدة -بما في ذلك نموذج التشغيل- على كامل المنظمة، ويمكن بعد ذلك أن تتوقع المنظمة تحسينات ملموسة بسرعة جيدة، غالباً خلال السنة الأولى.