هل ستشبه المدينة الذكية المدن الفاضلة التي لطالما حلم بها البشر؟

8 دقائق
هل ستشبه المدينة الذكية المدن الفاضلة التي لطالما حلم بها البشر؟
مثل كل مدينة فاضلة مستقبلية متخيلة تقريباً، توجد بابل الجديدة فقط في الرسومات المعمارية والرسومات والخرائط والأفلام التجريبية. جمعية حقوق الفنانين، نيويورك، بيكتوريت أمستردام

في 1995، وفي مقال صغير يحمل عنوان اللعبة الكبيرة المقبلة (The Great Game to Come)، وصف فنان بصري مغمور يحمل اسم كونستانت نيوينهايز مدينة فاضلة جديدة، وقد أطلق عليها لاحقاً اسم بابل الجديدة، وتحدث عنها متنبئاً قائلاً: "إن الابتكارات التقنية التي أصبحت في متناول البشرية اليوم ستلعب دوراً مهماً في بناء مدن تتمتع بجو مميز في المستقبل".

وعلى غرار كل مدينة فاضلة مستقبلية تقريباً، لم يتم بناء بابل الجديدة على الإطلاق. ولم تتجسد المدينة سوى في الرسومات المعمارية، والمخططات الأولية، والخرائط، ومجموعات الصور، والأفلام التجريبية. لقد تخيل مبتكرها، والذي يُعرف عموماً باسم كونستانت، أن مدينته تتألف من شبكة معقدة حيث يتم فيها ربط المساحات الطبيعية والاصطناعية معاً بواسطة بنى تحتية للاتصالات، وسيكون من الضروري "اللجوء إلى الحاسوب" لحل مشكلة تنظيمية معقدة كهذه. ولكن كان من المفترض ببابل الجديدة أن تكون شيئاً أكثر تطوراً: مكان تحل فيه التكنولوجيات الجديدة محل الأعمال الرتيبة المتعبة بفضل العمليات المؤتمتة، ما يتيح لسكان المدينة الاستمتاع "بنمط حياة متنقلة قائمة على الترفيه الابتكاري".

اقرأ أيضاً: كيف تخطط مصر لإنشاء عشرات المدن الذكية لاستيعاب الزيادة السكانية المتوقعة؟

واليوم، تبدو تخيلات كونستانت أقرب إلى نبوءة فعلية. فلا شك أن الحواسيب ستكون مطلوبة لتحقيق فكرته الغريبة لبيئة يمكن فيها "لكل شخص، في أي لحظة وأي مكان، تعديل الجو المحيط عن طريق ضبط مستوى الصوت وسطوع الضوء أو الأجواء العطرية أو درجة الحرارة". وفوق كل هذا، ستسمح التكنولوجيات الإلكترونية بإحداث تحولات كاملة فيما يتعلق بالصوت والضوء وتنظيم المساحة في بابل الجديدة. وسيتم تحقيق هذه التحولات باستخدام ما يطلق عليه كونستانت اسم "أكثر عمليات الأتمتة التي تجري خلف الكواليس تعقيداً"، على حين ستكون الإلكترونيات نفسها "جزءاً من المشهد المرئي". ويجب على المساحات في بابل الجديدة أن تكون "مدركة" بطريقة ما للنشاطات التي تجري ضمنها، بحيث تستطيع البيئة معرفة الوقت المناسب لتغيير مظهرها وسلوكها. 

كان كونستانت سيحقق بعد ذلك بفترة قصيرة شهرة عالمية كأحد الأفراد المؤسسين للأممية الموقفية (1957-1972)، وهي حركة من الفنانين والكتاب والفلاسفة ممن كانوا يهدفون إلى تطبيق الماركسية على المجتمع الحضري المعاصر. وعلى غرار الكثير من زملائه في هذه الحركة، كان كونستانت ينظر إلى المدينة التي تنتمي إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على أنها مكان للنقد والممارسات المحددة. وأعلن بالاشتراك مع الناقد الثقافي غاي دوبور عن هذا الأمر وفق مفهوم "الحضرية الوحدوية"، حيث اعتبرا أن المدينة ليست مجموعة من العمليات المعمارية والبيروقراطية الجامدة، بل مجموعة من الممارسات الاجتماعية الخلاقة.

وأخذت بابل الجديدة شكلها خلال السنتين اللتين أمضاهما كونستانت كجزء من هذه الحركة. ولم تكن المدينة مشروعاً للتخطيط المعماري بقدر ما كانت "طريقة للتفكير والتخيل والنظر إلى الأشياء والحياة". وعلى الرغم من أن بابل الجديدة كانت تعكس تخيلات أخرى في الستينيات للمدن الفاضلة التي تعتمد على التكنولوجيا، مثل المدينة المتحركة لمجموعة أرتشيغرام (Archigram) أو وحدة المعيشة الهوائية فيلا روزا التي تحمل طابع الأداء الفني لمجموعة كوب هيميلبلاو (Coop Himmelb(l)au) الريادية، فقد بدأت تتبلور –ويا للمفارقة- في الريف، من بين كل الأمكنة. ففي 1959، شارك الفنان في ورشة عمل تجريبية حضرية في بلدة ألبا الإيطالية قرب سفوح جبال بيدمونت. وبسبب تعاطفه مع غجر الرومان المخيمين خارج البلدة قرب نهر تامارو، بدأ العمل على فكرة بناء "مخيم دائم" للمهاجرين "حيث يتم بناء منطقة مشتركة مؤقتة متغيرة باستمرار تحت سقف واحد بمساعدة عناصر متحركة".

اقرأ أيضاً: كيف تستفيد المدن الذكية من الحوسبة الموزعة لتسهيل الوصول إلى الخدمات؟

حمل كونستانت بابل الجديدة في ذهنه عقدين كاملين. وفي رؤيته، ستكون ملكية الأرض جماعية، وسيكون النظام الاجتماعي فائق الاتصال، كما ستؤدي الأتمتة إلى توفير نمط حياة للمواطنين قائم على الراحة والترفيه. ولتحقيق نوع جديد من "التنظيم الاجتماعي للمدينة"، تخيل كونستانت تسلسلاً هرمياً واسعاً للمواقع المحلية (والتي أطلق عليها اسم قطاعات) المتصلة فيما بينها عالمياً (شبكات). وقد تخيل أيضاً أن تجميع المنصات المترابطة قابل للتحويل بشكل كامل لخلق علاقات ديناميكية بين المواطنين (سكان بابل الجديدة) ومحيطهم. وبوجود عدة مستويات متشابكة من شبكات النقل والمساحات المرتبطة جميعاً بفضل بنى تحتية من الاتصالات، يستطيع سكان بابل الجديدة مخالفة جميع المبادئ المعروفة للخرائط التقليدية. ولكن، من الواضح أن الفنان أدرك أن تشغيل نظام معقد ومتشابك إلى هذه الدرجة يتطلب الاستعانة بالتكنولوجيات الناشئة في مجالي لإدارة والتحكم الحاسوبيين. وعلى الرغم من أنه لم تكن لديه القدرة على بناء بابل الجديدة، ولم يكن لديه أي اهتمام بتنفيذ هذا المشروع فعلياً، فإن المفهوم نفسه بدا كفكرة سيحين أوانها المناسب لاحقاً.

نهضة المدينة الذكية

في 1974، وهي السنة التي توقف فيها كونستانت عن العمل على المدينة الذكية، تم نشر تقرير لم يطلع عليه الكثيرون من قبل مكتب التحليل المجتمعي في لوس أنجلوس (اختصاراً كاب (CAB)) بعنوان حالة مدينة: تحليل عنقودي للوس أنجلوس (The State of the City: .A Cluster Analysis of Los Angeles) وتضمن التقرير النقاط المعتادة لبحث حضري، مثل التحليلات الإحصائية، والبيانات الديموغرافية، وتقييمات الإسكان. ولكن النقطة المجهولة هي الطريقة التي استخدمها كاب لتجميع البيانات. 

وعلى حين يقول أخصائيو النظريات الحضرية –في وجهة نظر قاصرة بعض الشيء- إن مفهوم المدينة الذكية يعود إلى التسعينيات، عندما قامت شركة آي بي إم (IBM)، كما يزعم البعض، بصياغة المصطلح لأول مرة، فإن بحث كاب يمثل أحد أول الجهود واسعة النطاق لنمذجة البيئة الحضرية عبر البيانات الكبيرة. وباستخدام تركيبة معقدة من عمليات التجميع والتخزين الحاسوبية، وتقنيات التحليل الإحصائي العنقودي، والتصوير الجوي الملون بالأشعة تحت الحمراء (ما يسمى حالياً بالاستشعار عن بعد)، وعملية التحقق المباشر على الأرض (أي التجول بالسيارة ضمن المدينة) من صحة الصور الجوية، أصبح تحليل كاب مختلفاً عن المحاولات الماضية بشكل قاطع. قام كاب بتقسيم المدينة إلى كتل تمثل الميزات الاجتماعية والجغرافية بتسميات تبدو مستقاة من مصطلحات التواصل الاجتماعي العصرية: عازبو لوس أنجلوس، فقراء المناطق الحضرية، الضواحي التي تحمل طابع الخمسينيات ولكن التحليل العنقودي كشف وجود ترابطات بين القوى الاجتماعية والاقتصادية، بحيث يمكن استخدامها كمؤشرات لتوقع الأحياء التي كانت تتراجع نحو الفقر والقحط الحضري.

اقرأ أيضاً: كيف تساعد إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي في رسم ملامح المدن الذكية؟

وعلى الرغم من أن عمل كاب كان مبتكراً بالنسبة لتلك الفترة، فإن استخدام البطاقات المثقبة وقواعد البيانات الحاسوبية لم يكن عملاً منعزلاً. بل كان جزءاً من مجموعة كبيرة من تجارب فترة ما بعد الحرب التي تركز على إعادة ابتكار البيئة الحضرية من خلال العمليات الحاسوبية. وقد أدى عمل الباحث النظري الحضري كيفن لينش في العام 1960 باسم صورة المدينة (Image Of The City) إلى إطلاق عدة سنوات من الأبحاث في العلم الإدراكي حول كيفية تخطيطنا للعناصر الطبولوجية في المساحات الحضرية (المسارات والحواف والعقد والأحياء [أو الحارات] والعلامات المميزة). وقد سعى خبراء الأنظمة السيبرانية، مثل جاي فوريستر من معهد إم آي تي، إلى تطبيق ديناميكا الأنظمة المعقدة عن طريق المحاكاة الحاسوبية لفهم طبيعة حلقات تدفق المعلومات الراجعة ضمن التطور الحضري بما يشمل كل شيء، بدءاً من تعداد السكان والإسكان وصولاً إلى تأثير الصناعة على النمو. وبفضل عمل فورستر ولينش وغيرهما، بدأت أسس المدينة الذكية بالترسخ، بالترافق مع دخول مفاهيم الاستشعار والحوسبة في الوعي العام.

يوجد عنصر أساسي مفقود في صورة ساحة المعركة المليئة بالحساسات وصورة المدينة الغنية بالأدوات، وهو الأجسام البشرية.

لقد أصبحت الصورة العصرية للمدينة الذكية معروفة بشكل جيد. فهي، كما قالت شركة آي بي إم، مدينة غنية بالأدوات، ومترابطة بشدة، وذكية. تشير كلمة الأدوات إلى تكنولوجيات الاستشعار، على حين تصف كلمتا "مترابطة بشدة" اندماج بيانات أجهزة الاستشعار ضمن المنصات الحاسوبية "التي تسمح بنقل هذه المعلومات بين خدمات المدينة المتنوعة". يتحدد مستوى المدينة الذكية بمستوى الذكاء المُتَخَيّل الذي تنتجه أو تحتاج إليه. ولكن السؤال الأكبر يتعلق بطبيعة دور الذكاء البشري في شبكة من "التحليلات المعقدة والنمذجة والأمثَلَة وخدمات التمثيلات المرئية، وأخيراً وليس آخراً، الذكاء الاصطناعي" التي أعلنت عنها آي بي إم. في الواقع، قامت الشركة بتسجيل مصطلح المدن الأذكى (Smarter Cities) كعلامة تجارية خاصة بها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ما يؤكد على أن هذه المدن لم تعد مملوكة بالكامل من قبل من يسكنون فيها.

وبالنظر إلى الرؤية السابقة والحالية لشبكات الاستشعار الحضرية، وكيفية استخدام البيانات التي تنتجها، سنلاحظ أمراً مثيراً للاهتمام، وهو أنها قريبة جداً وبعيدة جداً في نفس الوقت عن تصور كونستانت لما قد ينتج عن هذه التكنولوجيات. كانت صورة بابل الجديدة التكنولوجية تجسد مدينة ذكية لم يتم تمييزها، كما هو الحال مع تصور شركة آي بي إم، اعتماداً على استخلاص البيانات على نطاق واسع لزيادة الإيرادات من كل شيء، بدءاً من مواقف السيارات والتسوق وصولاً إلى الرعاية الصحية ومراقبة الخدمات. لقد كانت بابل الجديدة معاكسة للرأسمالية بشكل صارخ، وكانت مبنية على الاعتقاد بأن التكنولوجيات المنتشرة والواعية ستتمكن يوماً ما، وبطريقة ما، من تحريرنا من عبء العمل.

اقرأ أيضاً: ما هي فرص السعودية في قيادة تطوير المدن الذكية في المنطقة؟

الحرب وأجهزة الاستشعار

تبدو الأخبار الكارثية المتواردة من ماريوبول وخاركيف وإيزيوم وكيرسون وكييف منذ فبراير/ شباط، 2022، أبعد ما تكون عن الذكاء الحضري الذي تحدثت عنه آي بي إم. فأجهزة الاستشعار الذكية وخوارزميات التعلم الآلي المعقدة ليست نداً للقوة الضاربة لأمطار القنابل الغبية غير الموجهة التي تتساقط على المراكز الحضرية الأوكرانية. ولكن الصور المروعة من هذه المدن المحترقة يجب أن تذكرنا أيضاً بأن أنظمة وشبكات الاستشعار هذه نفسها مستمدة من سياق الحرب.

ولم يكن كونستانت يعرف أن التكنولوجيات المنتشرة المحيطة التي تخيلها لتشغيل مدينته الجديدة والمسلية كانت قد بدأت بالظهور فعلياً في نفس الفترة التي تبلورت فيها رؤيته، وذلك من الأبحاث التي كانت تجريها وزارة الدفاع الأميركية في سياق الحرب الباردة. وقد وصل هذا العمل إلى ذروته خلال حرب فيتنام، عندما كان الجيش الأميركي يحاول إيقاف سلاسل التوريد التي تمتد من الشمال إلى الجنوب على طول مسار هو تشي منه، حيث ألقى ما يقارب 20,000 جهاز استشعار صوتي لاسلكي يعمل بالبطاريات، محققاً جزءاً من رؤية الجنرال ويليام ويستمورلاند القائمة على "مراقبة بجميع الأساليب وعلى مدار الساعة تقريباً في الزمن الحقيقي أو شبه الحقيقي". وفي الواقع، فإن ما ستطلق عليه وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة الأميركية (داربا) لاحقاً اسم الحرب الشبكية كان نتيجة تمويل بعدة مليارات من الدولارات في إم آي تي وكارنيجي ميلون، إضافة إلى عدد آخر من خيرة الجامعات الأميركية، لدعم الأبحاث في تطوير شبكات الاستشعار اللاسلكية الموزعة، وهي التكنولوجيات ذاتها التي تعتمد عليها "القدرة العالية على القتل" لأذكى التكنولوجيات العسكرية.

الحرب وأجهزة الاستشعار
ليست شبكات أجهزة الاستشعار الذكية نداً للقوة الضاربة لأمطار القنابل الغبية غير الموجهة التي تتساقط على المراكز الحضرية الأوكرانية. مصدر الصورة: ماكسار تكنولوجيز

تعتبر داربا من الوكالات الشهيرة، وهي مسؤولة عن تحفيز تطوير التكنولوجيات التي تحافظ على القدرات والتفوق التقني للقوات العسكرية الأميركية وتطورهما (وفق تقرير من الكونغرس)، ومن المعروف أن التكنولوجيات التي كانت داربا قد طورتها في المقام الأول دخلت بنجاح إلى الحياة المدنية بعد تعديلها. فقد تحولت شبكة وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة أربانت (ARPANET) في نهاية المطاف إلى شبكة الإنترنت، على حين أن التكنولوجيات مثل سيري، وذاكرة الوصول العشوائي الديناميكية (DRAM)، ومحركات الأقراص الصلبة الميكروية، أصبحت شائعة الانتشار في الحياة اليومية. ولكن المعلومة التي لا يعرفها الجميع هي أن التكنولوجيات التي مولتها داربا وجدت طريقها أيضاً إلى المدن الذكية. مثل نظام تحديد المواقع العالمي، وشبكات أنظمة الإضاءة الذكية وشبكات الكهرباء، وأجهزة استشعار المواد الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية، بما في ذلك النباتات المعدلة جينياً لكشف الأخطار والتهديدات. إن الصلة ما بين المدن الذكية والمؤسسات العسكرية ما زالت نشطة للغاية حتى اللحظة. وعلى سبيل المثال، نفذت داربا مؤخراً برنامج كاسكيد (CASCADE) البحثي (اختصاراً لعبارة: بيئة تركيب وتصميم الأنظمة التكيفية المعقدة)، وتجري في هذا البرنامج مقارنة صريحة بين الطائرات المأهولة وغير المأهولة والتي تشارك البيانات والموارد في الزمن الحقيقي بفضل التواصل عبر الشبكات اللاسلكية، وأنظمة البنى التحتية الحساسة للمدن الذكية، مثل المياه والطاقة والنقل والاتصالات والبنية السيبرانية. وتلحظ الوكالة أن كلا النظامين يعتمد على التقنيات الرياضية الخاصة بالأنظمة الديناميكية المعقدة. وقد عبرت تغريدة من داربا عن هذه العلاقة بشكل أكثر لفتاً للنظر: ما القاسم المشترك بين المدن الذكية والحرب الجوية؟ إنه الحاجة إلى شبكات معقدة وتكيفية.

كلا هاتين الصورتين، أي ساحة المعركة المليئة بأجهزة الاستشعار والمدينة الذكية الغنية بالأدوات ومترابطة الأوصال بشدة والتي تعتمد على تكنولوجيا الاستشعار الموزع وتنقيب البيانات على مستوى عالٍ للغاية، تفتقران على ما يبدو إلى مكون أساسي: الأجسام البشرية، وهي أول ما يتم التضحية به على الدوام، سواء في ساحة المعركة أو في خضم آليات استخراج البيانات الخاصة بالتكنولوجيات الذكية. 

إن المساحات والبيئات المزودة بشبكات استشعار أصبحت الآن أكثر قدرة على تحسس التغيرات البيئية، مثل الضوء والحرارة والرطوبة والصوت والحركة، والتي تتحرك فوق هذه المساحة وضمن حدودها. ووفقاً لهذه النظرة، فإن الشبكات شبيهة بالأجسام، لأنها مدركة للظروف البيئية المتغيرة من حولها، وتقوم بقياس هذه المقادير والإحساس بالتغيرات وتنفيذ ردود أفعال عليها. ولكن ماذا عن البشر الحقيقيين؟ أيوجد لهم دور آخر في المدينة الذكية إضافة إلى أنهم يمثلون مخازن ملائمة للبيانات؟ في كتابه من العام 1980 بعنوان ممارسة الحياة اليومية (Practice Of Everyday Life) اقترح المؤرخ الاجتماعي اليسوعي ميشيل دو سيرتو أن مقاومة العين السماوية للسلطة من الأعلى يجب أن تقابلها قوة الممارسين العاديين في المدينة والذين يعيشون في الدرك السفلي.

اقرأ أيضاً: الشبكة العالمية للمدن الذكية: أول مجتمع عالمي يختص بالمدن الذكية.

وعندما نفترض أن البيانات أكثر أهمية من الناس الذين أنتجوها، فنحن نقلل من نطاق وإمكانات ما تستطيع الأجسام البشرية المتنوعة تقديمه إلى المدينة الذكية في الحاضر والمستقبل. ولكن المدينة الذكي الحقيقية لا تتألف فقط من خطوط تدفق السلع وشبكات المعلومات التي تولد مصادر الدخل لشركات مثل سيسكو (Cisco) وأمازون (Amazon). بل ينتج ذكاؤها من الأجسام البشرية المتنوعة من مختلف الأجناس والأعراق والثقافات والطبقات، والتي تجتمع شخصياتها الغنية والمعقدة وحتى الحساسة حتى تكون ماهية المدينة في نهاية المطاف.