مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية وظواهر الطقس المتغيرة والتأثيرات البيئية الأخرى، تتزايد مؤشرات تغير المناخ بشكل مضطرد. ويحذر العلماء الآن من أن درجات الحرارة العالمية تتسارع في الارتفاع إلى ما هو أبعد من أهداف اتفاقية باريس لعام 2015، حيث من المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة بمعدل 3.2 درجة مئوية على مستوى العالم بحلول عام 2100.
بالإضافة إلى ذلك، تؤدي التحولات الديموغرافية الكبيرة إلى تأثيرات موازية. فمع توقع ارتفاع عدد سكان العالم من 7.6 مليار إلى 9.8 مليار بحلول عام 2050، من المتوقع أيضاً أن يعيش 70% منهم في المناطق الحضرية. سيتطلب ذلك الاستعداد سريعاً لهذه التغييرات من خلال إنشاء مبانٍ ذكية للحفاظ على إمدادات الطاقة غير المنقطعة لتشغيل وسائل إنتاج الغذاء والمياه، والنقل، والحياة السكنية والتجارية، والخدمات الصحية والبشرية.
المباني الذكية وأهميتها في تقليل استخدام الطاقة
تمثل المباني الذكية اتجاهاً سريع النمو في العالم، وسط توقعات بتسجيل قفزات كبيرة في أعدادها، حيث كشف تقرير لشركة "جونيبر" (Juniper) البريطانية للأبحاث، أن عدد المباني الذكية في العالم سيصل إلى 115 مليوناً في عام 2026، في مقابل 45 مليون مبنى بنهاية عام 2022، وهو ما يمثل ارتفاعاً بنسبة 150%.
سيكون لهذا الارتفاع المتوقع تأثير إيجابي في مكافحة التغير المناخي، حيث ستشكل المباني الذكية فرصة كبيرة لتقليل تأثيرات المناخ بشكل مباشر وفوري، لأن المباني التي تشمل مجمعات المكاتب، والإسكان متعدد العائلات، والفنادق، والمتاجر، والمدارس، والمستشفيات، ومراكز التسوق وغيرها ستشكل جزءاً كبيراً من البنية التحتية للمدينة، وفي حالة جعلها أكثر ذكاءً يمكن أن تقلل بشكل كبير من هدر الطاقة والبصمة الكربونية للمدينة.
اقرأ أيضاً: كيف تساعد إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي في رسم ملامح المدن الذكية؟
يساعد في تحقيق ذلك استخدام تكنولوجيات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الموزعة لإدارة الإضاءة والتدفئة والتبريد، ما يقلل الاستخدام غير الضروري للطاقة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأنظمة المباني الذكية جدولة الصيانة الوقائية، وتحديد المشكلات وتحديد أولويات حلها تلقائياً حسب التكلفة والتأثير، وتحسين أداء المباني باستمرار من أجل الراحة وكفاءة الطاقة.
اكتشاف طرق بديلة عن ضخ استثمارات كبيرة
بدلاً من ضخ استثمارات ضخمة، يمكن للشركات والحكومات البحث عن طرق بديلة لجعل المباني ذكية وأكثر استدامة. على سبيل المثال قامت شركة مايكروسوفت باكتشاف طريقة بديلة وهي تعديل البرامج والأنظمة بدلاً من التعديل التحديثي المادي، حيث عملت على إبرام اتفاقية مع شركة "إيكونيكس" (ICONICS) على تطوير أنظمة تحليلية لجمع البيانات من نحو 30,000 قطعة من المعدات المتصلة بأجهزة الاستشعار وأنظمة إدارة المباني المتنوعة للشركة.
وقد أعطت هذه البيانات مايكروسوفت رؤى عميقة، ومكنت من تشخيص أفضل وسمحت باتخاذ قرارات أكثر ذكاءً مع نتائج مذهلة ليس فقط من ناحية توفير الطاقة، بل حتى من حيث تخفيض تكاليف الصيانة التي تقدر بعدة ملايين سنوياً. بالإضافة إلى ذلك تمكنت مايكروسوفت من إدراك كيفية استهلاك مبانيها للموارد بشكل أكثر دقة.
كما تلعب منصة شركة "آل سالم جونسون كنترولز" (Al Salem Johnson Controls) دوراً مهماً في تسارع وتيرة نمو المباني الذكية، وتحقيق الاستدامة في المنطقة العربية، حيث تستخدم التكنولوجيات المدعومة بحلول الذكاء الاصطناعي لإطالة عمر معدات التدفئة والتهوية والحفاظ بكفاءة على بيئة مريحة لشاغلي المبنى.
وفي هذا الصدد يوضح "ماهر موسى" المدير التنفيذي للمنتجات الهندسية وسياسة الاستدامة وكفاءة الطاقة في الشركة: "تُعد المباني المستقبلية استثمارات يمكن الحفاظ على قيمتها، إضافةً إلى أنها تمثل أماكن أساسية للعمل والمعيشة. لذا من المهم الارتقاء بإدارة المباني والتكييف والتبريد والوصول إلى بيئة أكثر صحية وإنتاجية وأماناً، وتحسين استخدام الطاقة والتكاليف التشغيلية، وإدارتها في المباني"
اقرأ أيضاً:
كيف تتصدى المباني الذكية لتحديات التغير المناخي والاستدامة؟
يحتل إيجاد الحلول لإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري وتقليل الضغط على الكوكب مركز الصدارة الآن، حيث يعمل المهندسون المعماريون بصورة مستمرة على تشكيل البيئة المبنية لما لها من تأثير كبير على المساهمة في جعل الأرض أكثر استدامة. ومن الطرق لمواجهة هذه التحديات ما يلي:
-
استخدام الأخشاب في البناء
تتمثل إحدى أكبر فوائد البناء باستخدام الأخشاب في قدرتها على عزل كميات كبيرة من الكربون من الغلاف الجوي وتخزينه داخل المبنى طوال فترة وجوده. يمكن أن يساعد ذلك في تحقيق هدف مباني خالية من الكربون عن طريق تعويض انبعاثات الكربون الناتجة عن البناء والتشغيل.
اقرأ أيضاً: هل من الممكن سحب الميثان من الغلاف الجوي لإبطاء الاحترار العالمي؟
-
المباني المحايدة للكربون
المبنى المحايد للكربون هو المبنى الذي لا يساهم بأي من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي على مدار حياته، أو المبنى الذي يزيل كربوناً من الغلاف الجوي أكثر مما يصدر، بما في ذلك الكربون التشغيلي الناتج عن الحرارة والطاقة التي يستهلكها المبنى بالإضافة إلى الكربون المتجسد الناتج عن استخراج وتصنيع ونقل مواد البناء.
على سبيل المثال يستخدم مشروع ميخائيل ريتشيز (Mikhail Riches) السكني في مدينة يورك البريطانية مضخات حرارية مصدر الطاقة فيها هو الهواء وألواح شمسية لتقليل الانبعاثات عند اكتمالها، كما يولد مكتب "بورهاوس تيليمارك" (Powerhouse Telemark) في النرويج طاقة فائضة كافية أثناء تشغيله لتعويض كل من الكربون التشغيلي والمنبعث.
-
المباني القابلة لإعادة التفكيك
يتماشى إنشاء مبانٍ قابلة للتفكيك مع أهداف الاقتصاد الدائري، وهذا يعني إنشاء المباني التي يمكن تفكيكها بنهاية عمرها أو تحقيق الغرض الذي بُنيت من أجله، مع إمكانية إعادة استخدام مكوناتها في مشاريع أخرى لتجنب هدر أي مكونات.
على سبيل المثال يعمل مهندسو ستوديو "باكير بروان" (Baker Brown) على تصميم جناح حديقة لدار أوبرا "جلين دي بورن" (Glyndebourne) في إنجلترا باستخدام الأخشاب والفطريات وفلين زجاجات الشمبانيا المهملة وأصداف المأكولات البحرية، وكلها قابلة لإعادة الاستخدام أو قابلة لإعادة التدوير أو قابلة للتحلل.
وفي المنطقة العربية قامت هيئة المشاريع والإرث القطري بإنشاء أول ملعب كروي مؤقت في تاريخ كأس العالم –إستاد 974- بالكامل من حاويات شحن معاد تدويرها قابلة للتفكيك مع انتهاء الحدث الكروي العالمي.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن للحكومات أن تحرك الاقتصاد الدائري لتحسين مستقبل العمل؟
ختاماً، يمكن للنجاح في إنشاء المباني الذكية أن يفتح الباب أمام تحقيق رؤية المدن الذكية من خلال إنشاء أنظمة مترابطة تساعد على تعظيم الموارد الطبيعية الثمينة، وإنشاء مصادر جديدة للطاقة، ومع دعم الشركات والمنظمات والمجتمعات يمكن للمباني الذكية أن تُقلل بشكل كبير من انبعاثات الكربون وإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري، ما يمنح برامج تغير المناخ بداية ناجحة.